(1) غزو الهويات

إنَّ الحديث عن "الهُوية" في الواقع المعاصر، ليس مِن قبيل الترَف الفكري، أو الفراغ الوقتي الذي يُقْضَى كيفما اتفق؛ بل إنه أصبح منَ الأساسيات التي ينبغي أن يتوفر عليه جُهد النخْبة الواعية المثقَّفة مِنْ أبناء الأمة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - الغزو الفكري -

إنَّ الحديث عن "الهُوية" في الواقع المعاصر، ليس مِن قبيل الترَف الفكري، أو الفراغ الوقتي الذي يُقْضَى كيفما اتفق؛ بل إنه أصبح منَ الأساسيات التي ينبغي أن يتوفر عليه جُهد النخْبة الواعية المثقَّفة مِنْ أبناء الأمة.

وذلك لأن الأمم لا تحيا بدون هُوية؛ إذ الهُويَّة بالنسبة للأمة بمثابة البصمة التي تُميزها عن غيرها، وهي أيضًا: الثوابت التي تتجدَّد، ولكنَّها لا تتغيَّر، ولا يمكن لأمة تريد لنفسها البقاء والتميُّز أن تتخلَّى عن هُويتها، فإذا حدث ذلك فمعناه: أن الأمة فقدت استقلالها وتميُّزها، وأصبحتْ بدون محتوى فكري، أو رصيدٍ حضاري، ومن ثَمَّ تَتَفَكَّك أواصرُ الولاء بين أفرادها، وتتلاشى شبكة العلاقات الاجتماعية فيها.

والنتيجة المحتَّمَة هي السقوط الحضاري المدوِّي؛ بل وتداعي الأمم عليها كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها، فتأكل خيرها، وتغزو فكرها، وتطمس معالم وجودها، وتمحو أثرها من ذاكرة التاريخ.

ولما كانت "الهُوية" بهذه المكانة وهذا التأثير في حياة الأمم، فقد أوْلاها الإسلامُ اهتمامًا كبيرًا، شمل هذا الاهتمام جوهر الهُوية، وكذلك مظهرها.

وفي إطار المُحافظة على هذه الهُوية - ظاهرًا وباطنًا، ولبًّا وقشرة - ورد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»، وقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».

فانظر إلى مدى حرص الإسلامُ على هُوية الأمة، وسياجها الداخلي والخارجي، سواء في المظهر واللباس، أو الحركة والسلوك، أو القَوْل والأدب.

ولقد أدرك اليهود مدى حِرْص الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - على هُوية الأمة وتميزها، حتى قال قائلهم: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه".

الغرْب بين المحافظة على هويته، والخوف من الهُوية الإسلامية:
ضربت الدول الغربيةُ في العصر الحديث أعظم الأمثلة في المحافظة على هُويتها، ولقد اتخذت هذه الدول من "العولمة" المزعومة ستارًا لنشْر ثقافتها، وصبغ دول العالم بصبغتها، وفي مقابل ذلك حرصتْ على ألا تعطي فرصة للهُويات الأخرى أن تتحرَّك، أو تثبت وُجُودها.

ولقد كان النموذج الأمريكي هو النموذج الأمثل في ضرب أعظم مثال في فرض هويته، واحتكار الهويات الأخرى، بل ومُحاولة غزو الهويات الأخرى في عقر دارها، ولم يقتصرْ هذا النهَم الأمريكي في فرْض هُويته على عالمنا الإسلامي، بل لقد امتدَّ حتى شمل دولاً غربية ونصرانيَّة.

ولقد تنبه حراس المشروع الثقافي الفرنسي، وأهل الغيرة على الهُوية الفرنسية لهذا النهم الأمريكي، مما جعلهم يرفضون التوقيع على الجزء الثقافي من اتِّفاقية "الجات"، ورفعوا شعار: "الاستثناء الثقافي"، بل وصل الأمر بحراس المشروع الفرنسي أن يستصدروا قانونًا يحظر على الفرنسيين أن يستخدموا أيَّة لغة أجنبية في خطابهم العام، وإلا تعرَّضوا لغرامة تصل إلى ألفي دولار.

خوف الغرب من الهُوية الإسلامية:
وإذا كان هذا الحرْص على الهُوية بين الدول الغربية من بعضها على ما بينها من تقارُب واتِّفاق، فما بالنا بمدى خَوْفهم على هُويتهم جميعًا من الهُوية الإسلامية المخالفة لهم قلبًا وقالبًا؟!

وليس خوفُ الغرْب من الهوية الإسلامية، واحتدام الصِّراع بين الحضارتين، بالأمر الجديد المحدَث، وإنما هو أمرٌ قديم، حدَّد قدمه صمويل. ب. هانتنجتون حينما قال: "إن الصراع على طول خط الخلل بين الحضارتين الغربية والإسلامية يدور منذ 1300 عام"، والأمر المثير للعجب: أن الهُوية الإسلامية كانتْ تنتصر على الهُويات المصارعة لها، سواء أكانت الهُوية الإسلاميَّة في حالة قوة أم في حالة ضعف! وهذه الحقيقة التاريخية هي التي تجعل قادة الغرب المعاصرين يتخوَّفُون من الإسلام أشد التخوُّف.

قادة الغرب المعاصرون والخوف من الهوية الإسلامية:
لئن كان تأثير الهوية الإسلامية في الهويات الأخرى، بل وإذابتها لها، وصهر أصحابها في بوتقة الإسلام في حالة انتصار الإسلام وقوته - من الأمور العادية؛ انطلاقًا من قاعدة "تأثر المغلوب بالغالب"، فالعجيبُ أن تصهر في بوتقتها الهويات الأخرى، والمسلمون في حالة تراجُع وانهزام.

وهذا ما حدَث بالفعل في الحروب الصليبية الأولى، وفي حروب التتار والمغول، حتى تحوَّل الغُزاة الوثنيون إلى مسلمين، يحملون راية الإسلام، ويمكنون له في الأرض.

هذه الظاهرةُ أدْركها الغربُ المعاصر، ومن ثَمَّ وضع من الترتيبات والتدابير ما يحصن به العقل الغربي - حينما يغزو بلاد الإسلام - من الوقوع فيما وقع فيه السابقون، وهل كان الاستشراقُ إلا وسيلةً من وسائل هذا التحصين الفكري للعقل الغربي؛

يقول الأستاذ محمود محمد شاكر: "وبيِّنٌ لك الآن بلا خفاء أن كتب "الاستشراق" ومقالاته ودراساته كلها مكتوبة أصلاً للمثقف الأوربي وحده لا لغيره، وأنها كتبتْ له لهدفٍ معين في زمان معينٍ، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرَّك في جهةٍ مخالفة للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب، وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالِم لهذا العالَم العربي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خَوْض ما يخوض فيه من الحديث، مع من سوف يلاقيهم، أو يُعاشرهم من المسلمين، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه، وعلى مد يده معلومات وافرة يثق بها، ويطمئن إليها، ويُجادل عليها، دون أن تضعفَ له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردَّد في المنافَحة عنها أو يتلجلج، أيًّا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه"[1].

وواضح من هذا الكلام أن الهدف الأهم من وراء الاستشراق هو إقامة حصن ثقافي قوي، تَتَحَصَّن به الهُوية الغربيَّة إذا ما هجمت على دار الإسلام؛ حتى تتفادى السقوط القديم في التأثُّر بالفكر الإسلامي.

ولم يقفْ خَوْف الغرب منَ الهُوية الإسلامية عند القادة الثقافيين الفكريين، بل جاءتْ عبارات القادة السياسيين والعسكريين تُبَيِّن مدى خوف هؤلاء أيضًا من الهُوية الإسلامية.

يقول "نيكسون" رئيس الولايات المتحدة سابقًا: "إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكن نخْشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب".

وقال أيضًا: "إن العالَم الإسلامي يشكل واحدًا من أكبر التحديات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".

وهذا أيضًا مسؤول في الخارجية الفرنسية يُصَرِّح وبكل وُضُوح: "إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا هو الخطر الإسلامي".

وهذه بعض العبارات مِن وثيقة لوزير المستعمرات البريطانية "أورمس غو" في 9 / 1 / 1938م، وهذه الوثيقةُ محفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن تحت رقم - 371 / 5595 - جاء فيها: إن الحرب علَّمَتْنا أنَّ الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليستْ إنجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك بل فرنسا أيضًا، ومِن دواعِي فرحنا أن الخلافة الإسلامية زالتْ، لقد ذهبتْ ونتمنى أن يكونَ ذلك إلى غير رجعة، إن سياستنا تهدف دائمًا وأبدًا إلى منْع الوحدة الإسلامية، أو التضامُن الإسلامي، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك، إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى شجعنا - وكنا على صواب - نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطرًا من الوحدة الإسلامية، أو التضامن الإسلامي[2].

ــــــــــــــــــــــــ
[1] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا؛ محمود محمد شاكر ص 61 ، 62 طبعة دار المدني.
[2]  ينظر: هموم داعية؛ الشيخ محمد الغزالي ص 94، 95.

______________________________________
الكاتب: د. ناصر دسوقي رمضان