من جميل ما قال الشافعي في الاحتجاج بالسنة وتوقيرها
محمد بن إدريس الشافعي
وقال المزني وحرملة عن الشافعي : إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد .
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
قال البخاري : سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي : ما تقول أنت ؟ فقال : سبحان الله تراني في كنيسة ، تراني في بيعة ، ترى على وسطي زنارا ، أقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، وأنت تقول لي ما تقول أنت ؟ .
وقال المزني وحرملة عن الشافعي : إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد .
وقال الربيع عن الشافعي : ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الربيع : وسمعته روى حديثا فقال له الرجل : أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله ؟ فقال : متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب .
وتذاكر الشافعي وإسحاق بمكة وأحمد بن حنبل حاضر ، فقال الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " «وهل ترك لنا عقيل من دار » " فقال إسحاق حدثنا يزيد عن الحسن ( ح ) وأخبرنا أبو نعيم وعبدة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه يعني بيع رباع مكة فقال الشافعي لبعض من عرفه : من هذا ؟ قال إسحاق : إبراهيم الحنظلي ، فقال الشافعي : أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم ، ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك ، فكنت آمر بفرك أذنيه ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت : عطاء وطاوس ومنصور عن إبراهيم والحسن ، وهل لأحد مع رسول الله قول .
وروينا عن الربيع عن الشافعي قال : لم أسمع أحدا ينسبه عامة إلى علم أو ينسب نفسه إلى علم يخالف في أن الله سبحانه فرض اتباع أثر رسوله والتسليم لحكمه ؛ لأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما ، وإنما فرض الله علينا وعلى من قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف فيه أحد أنه فرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتفق المسلمون على أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض بل لا يتم الإيمان والإسلام إلا بكونه أحب إلى العبد من نفسه ، فضلا عن غيره ، واتفقوا أن حبه لا يتحقق إلا باتباع آثاره والتسليم لما جاء به والعمل على سنته وترك ما خالف قوله لقوله ، وهاتان مقدمتان برهانيتان لا يحتاجان إلى تقرير .
[ ص: 545 ] وقد قال بعض السلف في قوله عز وجل 30 { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } قال نزلت في علماء السوء الذين يفتون الناس بآرائهم ويكفي في هذا قوله تعالى : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وفرض تحكيمه لم يسقط بموته بل ثابت بعد موته كما كان ثابتا في حياته وليس تحكيمه مختصا بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد .
وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع ما تنازعوا فيه من دقيق الدين وجليله وفروعه وأصوله ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم حتى ينتفي الحرج ، وهو الضيق مما حكم به فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحا لا يبقى معه حرج ثم يسلموا تسليما أي ينقادوا انقيادا لحكمه .
والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال أدلة القرآن والسنة لا تفيد اليقين وأن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم بمعزل عن هذا التحكيم ، وهو يشهد على نفسه بذلك {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الآية ، وأجمع المسلمون أن الرد إليه هو الرجوع إليه في حياته والرجوع إلى سنته بعد مماته ، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه .
ولما أصل أهل الزيغ والضلال هذا الأصل ردوا ما تنازع فيه الناس من هذا الباب إلى منطق اليونان ، وخيالات الأذهان ، ووحي الشيطان ، ورأي فلان وفلان ، وهؤلاء يتناولهم قوله سبحانه {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } والطاغوت اسم لكل ما تعدى حده وتجاوز طوره ، ومعلوم أن هذا الذي يتحاكم إليه أهل الزيغ حده أن يكون محكوما عليه لا حاكما .
ثم أخبر تعالى عن حال هؤلاء المتحاكمين إلى غير ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال [ ص: 546 ] ( {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدود بحكمه والتسليم لما حكم به رضى واختيارا ومحبة ، فهذا حقيقة الإيمان ، وذلك الإعراض حقيقة النفاق .
ثم أخبر سبحانه عن عقوبة المعرضين عن التحاكم إليه الراضين بحكم الغير من خلقه في قوله : {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} فأخبر أن هذا الإعراض عن التحاكم إليه سبب لأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم كما قال في الآية الأخرى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال في المتولين عن حكمه { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } .
قال أبو داود : حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه حدث بحديث فقال له رجل من أهل الكوفة : إن الله تعالى يقول في كتابه كذا وكذا ، فغضب سعيد وقال : لا أراك تعرض في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك .
فإذا كان هذا إنكارهم على من عارض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن فماذا تراهم قائلين لمن عارضها بآراء المتكلمين ، ومنطق المتفلسفين وأقيسة المتكلمين ، وخيالات المتصوفين ، وسياسات المعتدين ؟
ولله بلال بن سعد حيث يقول : ثلاث لا يقبل معهن عمل : الشرك ، والكفر ، والرأي ، قلت : يا أبا عمر وما الرأي ؟ قال : يترك سنة الله ورسوله ويقول بالرأي .
وقال أبو العالية في قوله عز وجل { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال : [ ص: 547 ] أخلصوا لله الدين والعمل والدعوة أن جردوا الدعوة إليه وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط لا إلى رأي فلان وقول فلان .
وقال سفيان في قوله تعالى : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } .
قال يطبع على قلوبهم ، وقال الإمام أحمد إنما هي الكفر ، ولقي عبد الله ابن عمر جابر بن زيد في الطواف فقال له : يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت .
وقال ابن خزيمة : قلت لأحمد بن نصر وحدث بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تأخذ به ؟ فقال : أترى على وسطي زنارا ، لا تقل لخبر النبي صلى الله عليه وسلم أتأخذ به وقل أصحيح هو ذا ؟ فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت به شئت أم أبيت .
وقال أفلح مولى أم سلمة : إنها كانت تحدث أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهي تمتشط " أيها الناس " فقالت لماشطتها : كفي رأسي ، قالت : فديتك إنما يقول أيها الناس ، فقالت : ويحك أولسنا من الناس ؟ فكفت رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول : " « يا أيها الناس أنا على حوضي إذ جيء بكم زمرا فتفرقت بكم الطرق فناديتكم ألا هلم إلى الطريق فينادي مناد إنهم قد بدلوا بعدك فأقول ألا سحقا سحقا» " .
وهذه الطرق التي تفرقت بهم هي الطرق والمذاهب التي ذهبوا إليها وأعرضوا عن طريقه ومذهبه صلى الله عليه وسلم فلا يجوزون على الطريق التي هو عليها يوم القيامة كما لم يسلكوا الطريق التي كان عليها هو وأصحابه ، وقال عكرمة عن ابن عباس : إياكم والرأي فإن الله رد على الملائكة الرأي وقال : إني أعلم ما لا تعلمون وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } ولم يقل بما رأيت .
وقال بعض العلماء : ما أخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص ، وما لعن إبليس وغضب عليه إلا بتقديم الرأي على النص ، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم [ ص: 548 ] آرائها على الوحي ، ولا تفرقت الأمة فرقا وكانوا شيعا إلا بتقديم آرائهم على النصوص ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهادا والله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : بل تكتب كما نكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليه حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تراني أرضى وتأبى " وقال ابن عباس في قوله تعالى {ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} قال لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .