من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (اليهودية- التعاطف)
دخل بعض اليهود في النصرانية منذ سنواتها الأولى، ويعد نقطة تحول في الديانة النصرانية، حين تنصر بولس أو شاؤول (ت 67م)، الذي كان يضطهد النصارى ويؤذيهم في دينهم وكنائسهم، ثم تحول إلى النصرانية وأراد أن يشوهها من داخلها، وقد فعل وسُمِّي بالمخلص عند طائفة من النصارى
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية -
اليهودية محدد من محددات العلاقة بين الشرق "المسلمين" والغرب؛ ذلك أن اليهود قد حاربوا النصرانية حين ظهورها، حتى اتهمهم النصارى أنفسهم بقتل المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - صلبًا؛ فاتخذت النصرانية الصليب بعدئذ شعارًا لها، ولم تبرئ اليهود من مقتل عيسى ابن مريم - عليهما السلام - إلا في الثمانينيات من القرن الرابع عشر الهجري، الستينيات من القرن العشرين الميلادي (1965م)، إبان رعاية البابا بولس السادس للكنيسة الكاثوليكية - كما مر ذكره - فيما سمي بفاتيكان اثنين، إشارة إلى المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني[1]، ويُعَدُّ هذا البراء وجهة نظر كاثوليكية قد لا تتفق مع الطوائف الأخرى، لا سيما الكنيسة الشرقية؛ فالعداء بين اليهود والنصارى مستحكم وراسخ في الصحيح: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113].
ونظرة المسلمين لعيسى ابن مريم - عليهما السلام - ونظرية القتل والصلب واضحة، نزل بها القرآن الكريم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157].
وقد دخل بعض اليهود في النصرانية منذ سنواتها الأولى، ويعد مطلع النصف الثاني من القرن الأول الميلادي نقطة تحول في الديانة النصرانية، حين تنصر بولس أو شاؤول (ت 67م)، الذي كان يضطهد النصارى ويؤذيهم في دينهم وكنائسهم، ثم تحول إلى النصرانية وأراد أن يشوهها من داخلها، وقد فعل وسُمِّي بالمخلص عند طائفة من النصارى، مما أعان على التحريف في هذه الديانة الربانية[2].
ومعظم التحريف جاء في مصلحة اليهود؛ لأنه قام أصلًا على أيادٍ يهودية تحولت إلى قسس وكاردنالات، بل وبابوات، فكان أن تحولت النصرانية عند بعض طوائفها إلى دين يتعاطف مع اليهود، حتى وصل الأمر إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلة على أيدي النصارى، من الحكومات الغربية ورجال الدين والفكر والمال في الغرب، ومراحلُ التمهيد للوطن القومي والبحث لليهود عن مكان: معلومةٌ، حتى استقر الأمر ليكون قلبَ العالم الإسلامي في فلسطين، منذ أن سعى هرتزل إلى ذلك سنة 1898م؛ أي: قبل خمسين عامًا من قِيام دولة لليهود في فلسطين المحتلة سنة 1948م/ 1367هـ.
ويدعم الغرب اليهود في فلسطين المحتلة، حتى تحولت بعض دور العبادة النصرانية في الغرب إلى منابر تأييد للوجود اليهودي في فلسطين، على حساب المسلمين والنصارى الشرقيين، ولهم في ذلك آثار يزعمون أنها دينية، ومنها أن المؤمنين - النصارى هنا - سيقاتلون الكفار - المسلمين هنا - في فلسطين بمعاونة اليهود.
ولا تكاد تجد كنيسة مشهورة، أو قسًّا مشهورًا، لا يدعو إلى دعم قيام دولة اليهود في فلسطين، هذا في المجتمع الغربي بصورة خاصة، وليس في المجتمع النصراني الشرقي الذي خبَرَ اليهود وأصر على موقفه منهم.
وانتشر الوباء اليهودي في الغرب، حتى تحول الغرب نفسه إلى مؤسسات تخدم مصالح اليهود، وتزعم اليهود فيها معظم الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وإن لم يكن السياسيون المباشرون بالضرورة جميعهم يهودًا.
وقد حذر بنجامين فرانكلين من فتح باب الهجرة لليهود إلى أمريكا الشمالية، وأكد أن الأمريكيين النصارى سيكونون عمالًا لليهود إذا ما حل اليهود بأرض القوم، وهذا مضمون وثيقة محفوظة في قاعة الاستقلال في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية[3].
وقد انضم المجلس العالمي للكنائس إلى المنظمة الصهيونية العالمية علنًا عام 1397هـ/ 1977م[4]، وظهر مصطلح المسيحية الصهيونية، وهي "حركة معاصرة هدفها مساندة الصهيونية اليهودية التي اتخذت من فلسطين المحتلة - ما يسمى "بدولة إسرائيل" - كيانًا لها"[5]، وقد انطلقت هذه الحركة من أمريكا لتعضيد دولة اليهود في فلسطين المحتلة، وتدَّعي أن عودة اليهود لفلسطين هو تحقيق للنبوءات، وتهيئة لعودة المسيح[6].
ومما يعملون عليه في هذا المسار سحب العالم الغربي لتأييد اليهود في كل مكان، بما في ذلك تأييده ودعمه لوطن يهودي قومي في فلسطين المحتلة، حتى وصل الأمر الآن إلى ترسيخ الاسم الذي اختاره اليهود لدولتهم: "إسرائيل"، وحتى ليكاد يطغى على الاسم الأصلي "فلسطين" الذي عرفه النصارى والمسلمون من قبل، بل وعرفه اليهود قبل ذلك.
وكان هذا الموقف الغربي إزاء اليهود، وبالتالي المسلمين، محددًا قويًّا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب؛ إذ يحرص على استمرار هذا الشد بين الشرق والغرب؛ لأن اليهود يدركون أنه ليس في مصلحتهم وجود بذور تقارُب أو تلاقٍ بين الطرفين؛ لأن ذلك سيكون على حساب الوجود اليهودي، ليس في المنطقة فحسب، بل على الأرض كلها؛ إذ إن الصورة الصادقة عن اليهود إنما هي عند المسلمين ولدى بعض النصارى غير الظاهرين للناس، ويكفي أن نتذكر الآن موقف الغرب كله من روجيه جارودي[7] والقس الفرنسي الذي آزره في قضية واحدة حديثة تتعلق بادعاء اليهود إبادة الملايين الستة منهم في خضمِّ الحرب العالمية الثانية[8].
ولأن العالم، بما في ذلك المسلمون، يعلم طبع اليهود، تظهر النفرة بين العالم واليهود، وتنعكس هذه النفرة على العلاقة بين المسلمين والغرب، ويتعرض من يحذر من ذلك للمضايقة والتجاهل، والسياسة في الغرب تغلِّب جانب المصالح على أي معنى آخر من المعاني الإنسانية القائمة على الموضوعية والحقوق، إلا في الشأن اليهودي؛ فإن دعم اليهود في فلسطين المحتلة يتعارض مع المصالح العليا للشعوب الغربية[9].
هذا على المستوى المعلن الذي تترتب عليه قراراتٌ ومصائر، أما غير المعلن رسميًّا والمتروك للمجالس الخاصة فإن الغرب، أفرادًا ومؤسسات، يدرك الهوية اليهودية والطبع اليهودي المخادع، ولا يصرح بهذا الإدراك شخصٌ إلا فقَدَ مكانته السياسية أو العلمية، حتى لو جاء التصريح على سبيل الطرفة واللطافة، ويذكر في هذا المقام ما حل بوزير البيئة جيمس وات في بداية ولاية رونالد رجين في مطلع الأربعمائة والألف الهجرية - الثمانينيات الميلادية، عندما لمز اليهود بتصريح كانت نتيجته أن أجبر على تقديم استقالته من الوزارة[10]، ومن خلال حوادث أخرى متفرقة صرح بها بعض الأشخاص البِيض عن موقفهم من اليهود؛ ففقدوا مكانتهم، وتكتَّم الآخرون على هذا الإدراك وجعلوه خارج نطاق حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الفكر[11].
والشائع الآن أن اليهود في الغرب يسيِّرون معظم المجتمع على ما يرون من مفهوم للحياة، ولم يقتصروا في تسييرهم هذا على الغرب، بل سعَوا إلى انتشار نفوذهم على البلاد والمجتمعات الأخرى التي أفادت من الحضارة الغربية، على حساب حضارتها وثقافتها ومبادئها ومُثُلِها، وهذا ظاهر واضح في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا وضوحًا تامًّا.
والعقبة الكَأْدَاءُ التي وقفت في طريق تنفيذ الرغبة اليهودية رغم كل شيء هي الإسلام وأتباعه المسلمون، الذين ينبني عليه دينهم - على ما هم عليه من إضعاف - مع ما ينبني عليه من فهم حقيقة اليهود وتطلعاتهم في الحياة، ومواقفهم من الأمم السابقة، ومن الأنبياء والرسل من قبل.
ويحاول عبدالوهاب المؤدب مرة أخرى الاعتذار لليهود بالتفريق بين اليهود زمن المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم الذين نزل بهم القرآن الكريم ويهود اليوم، ويرى أن هناك من "ينظر إلى يهود المدينة (من معاصري النبي محمد) وإلى يهود إسرائيل المتحاربين مع الفلسطينيين والعرب النظرة نفسها؛ أي إن العداء لليهودية يختلط بالعداء للصهيونية، ثم يتطور عداءً للسامية دون التنبه إلى أن هذا الأخير من مستوردات الغرب"[12]، وهذه إشكالية لا تفتأ تتردد حول التفريق بين اليهودية والصهيونية[13]، لا سيما فيما له علاقة باليهود في فلسطين المحتلة وقيام دولتهم على البعد الديني والقومي[14].
ويُدرك اليهودُ هذا الموقف من الإسلام، وعُرِف عنهم أنهم يقرؤون النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تبين هذه الحقيقة، كما تبين مصير اليهود على أيدي المسلمين؛ ولذا نجدهم ينفقون أغلب جهودهم في تأخير هذا المصير.
[1] انظر: زينب عبدالعزيز، حرب صليبية بكل المقاييس - دمشق: دار الكتاب العربي، 2003م - ص 27 - 53، (سلسلة صليبية الغرب وحضارته: 1).
[2] انظر: علي بن إبراهيم النملة، التنصير: المفهوم - الوسائل - المواجهة - مرجع سابق - ص295.
[3] يشكك عبدالوهاب المؤدب في صحة الوثيقة، ويرى أن اليمين الأمريكي المتطرف قد زورها في العشرينيات من القرن العشرين الميلادي المنصرم، ونسبها إلى مدبج الدستور الفدرالي بنجامين فرانكلين، انظر: عبدالوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 136.
[4] انظر: أسعد عبدالرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية 1882 - 1982م - ط2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990م - ص 202.
[5] انظر: سليمان بن سالم بن ناصر الحسيني، الحملات التنصيرية إلى عمان والعلاقة المعاصرة بين النصرانية والإسلام - لندن: دار الحكمة، 2006م - ص 494.
[6] انظر: إكرام لمعي (القس)، المسيحية الإنجيلية (البروتستانتية) والموقف من الآخر - ص 153 - 262 - في: رقية العلواني وآخرين، مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية/ تحرير منى أبو الفضل ونادية محمود مصطفى - دمشق: دار الفكر، 1429هـ/ 2008م - ص 264 - (سلسلة التأصيل النظري للدراسات الحضارية؛ 2).
[7] انظر: روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - ط 3 - ترجمة: حافظ الجمالي وصياح الجهيم - بيروت: دار عطية، 1997م - ص 373.
[8] انظر: رضا هلال، المسيح اليهودي ونهاية العالم: المسيحية السياسية والأصولية في أمريكا - القاهرة: مكتبة الشروق، 1422هـ/ 2001م - ص 272.
[9] انظر: غريس هالسل، يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟ ترجمة محمد السماك - ط 2 - القاهرة: دار الشروق، 1423هـ/ 2002م - ص122.
[10] انظر: بول فندلي، من يجرؤ على الكلام: الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي - ط5 - بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2002م - ص 622.
[11] انظر من ذلك: أحمس حسن صبحي، المسلمون والمسيحيون تحت الحصار اليهودي - القاهرة: مكتبة مدبولي، 2002م - ص 253.
[12] انظر: عبدالوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 137.
[13] انظر في هذه المسألة: عبدالرحمن بن محمد الدوسري، يهود الأمس: سلف سيئ لخلف أسوأ/ راجعه وخرج نصوصه وعلق عليه: مصطفى بن أبو النصر الشلبي - جدة: مكتبة السوادي، 1413هـ/ 1992م - ص 280.
[14] انظر في تنظيم الصهيونية: أسعد عبدالرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية 1882 - 1982 - ط2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990م - ص 272.
__________________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة