أحكام العشرة بين الزوجين

عبد الله بن محمد الطيار

كم يحز في نفس المسلم أن تتأزم الخلافات الأسرية عند أتفه الأمور! ولذا نوجه هذا النداء الصادق إلى الرجال عامة، والشباب منهم خاصة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين إلى الذين..

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

كم يحز في نفس المسلم أن تتأزم الخلافات الأسرية عند أتفه الأمور! ولذا نوجه هذا النداء الصادق إلى الرجال عامة، والشباب منهم خاصة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين إلى الذين { ... لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38].

 

إلى الذين يشعرون بأن أعراضهم تيجان على رؤسهم يجب المحافظة عليها وفداؤها بالروح؛ لتبقى صافية نقية، بعيدة عن عبث العابثين، وتلاعب المراهقين، وقد شرع الله النكاح؛ لبقاء البشرية وبثها في الأرض؛ لتحقيق عمارتها، فانتشرت به البشرية، وشيدت الحضارات والمدنيات، فليس الزواج في حكم الله - تعالى - مجرد لقاء للذكر بالأنثى ومعاشرتها فحسب، بل شرع الله الزواج لحِكَم عظيمة تشمل صلاح الفرد والمجتمع، وهذه المصالح والحِكَم إنما تتحقق إذا وجد الانسجام بين الزوجين، وسار كل منهما مع شريكه مُراعيًا حدود الله، فيُعطي كل زوج ما عليه من الحقوق، ويطلب مثله من الآخر بأدب الزوج المسلم، وفي إطار من الوداد والشفقة واللطف والمحبة.

 

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228].

 

فالرابطة الزوجية متصلة بالعروة الوثقى، لا تنفصم ولا تضعف ما دامت مستظلة بفيء التوجيه الإلهي، وما دام كل واحد من الزوجين يؤدي ما عليه، فستكون هذه العلاقة أوثق العُرى وأقواها، وذلك هو سبيل السعادة الزوجية، وهي مطمح الأزواج في العالم أجمع.

 

عباد الله:

ولكن الأمور قد لا تجري على هوى الإنسان ورغبته، وقلَّما يتفق الزوجان ويتطابقان من جميع الوجوه، فما من بشر يوافق هوى الآخر في كل صغيرة في الخُلق والخِلْقة، وفي دقائق التفكير والسلوك، وخبايا الروح والعاطفة، وليس ذلك التفاوت بضار إذا ما تعاشر الزوجان بالمعروف، وطرحا الهوى جانبًا وأكرم كل واحد منهما صاحبه، وحَكَّما العقل وتركا نزعات النفس والهوى والشيطان وجليس السوء.

 

إنما الذي يهدد الرابطة الزوجية تتبع كل واحد للهفوات من الآخر، يستشفها من وراء الحجب أو يستنبطها من فلتات اللسان، فيغريهما ذلك بالتنازع، وكثيرًا ما يفضي إلى التقاطع والتدابر.

 

وقد عالج الإسلام ذريعة إفساد الزوجية هذه فوجه الأزواج إلى توسيع مداركهم والتمسُّك بعناصر الخير في زوجاتهم، فكثيرًا ما تسيطر الكراهة على زوج لخُلِّة في زوجته لا تعجبه، من حيث شكلها الجسمي أو عملها البيتي مثلاً، وينسى الخير الكثير فيها ويُحرم الفضل الذي تنطوي عليه، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

و صدق الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا، رضي منها آخر» (رواه مسلم).

 

وكم شاهدنا وعايشنا أزواجًا مَلُّوا زوجاتهم وكرهوهن في البداية، فلما رزقهما الله الذرية ووقفوا على أخلاق الزوجات، استقامت أحوالهم وعاشوا في سعادة كبيرة، لكن متى استحكمت الأمور وساءت العِشرة، واتسعت دائرة الخلاف، وجب الإنصاف والعدل.

 

وهنا نوصي أحبابنا الرجال، فنقول: على كل رجل أن يتدبر أمره، ويتروَّى كثيرًا قبل أن يخضع لعوامل الكراهية، وليتذكر وصية القرآن وإشادة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليخشى الله في معاملة زوجته، فهل درى أنه لا يخلو هو من عيب تصبر عليه امرأته وتتحمله؟ وما أكثر ما تتحمل النساء وتصبر؛ لأنهن بنات الرجال الكرام، ربَّوهُنَّ على الحشمة والفضيلة وطاعة الزوج والصبر عليه.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات:

وبلدنا هذا - ولله الحمد - من خِيرة المناطق التي تتمتع فيه المرأة والفتاة بالأخلاق العالية والتربية الإيمانية الصادقة، ولهذا قَلَّ أن تتزوج فتاة من هذا البلد شابًّا من غيره، إلا وتكون حديث المجالس بالطاعة والأخلاق، وعمل البيت وصلة الأقارب، وإكرام أهل الزوج، وهذا من باب التحدُّث بنعمة الله، ومن باب تذكير الأزواج بأهمية الرابطة الوثيقة التي سمَّاها الله في محكم التنزيل ميثاقًا غليظًا، وحسبنا أن نعلم أن الله أنزل سورة كاملة فسر فيها أحكام الزواج والعشرة بين الزوجين، وسُمِّيت سورة النساء.

 

ألا فليتقِ الله الأزواج رجالاً ونساءً، وليصونوا علاقتهم ببعضهم عن المهاترات والخلافات، إن كانوا يريدون سعادتهم في دنياهم ورضوان ربهم في آخرهم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

 

أما بعد:

إخوة الإيمان، استمعوا إلى هذه الوصايا من سلف الأمة؛ ففيها توجيه وذكرى؛ قال عبدالله بن جعفر لابنته: "يا بنيَّة، إياكِ والغيرة؛ فإنها مفتاح الطلاق، وإياكِ والمعاتبة؛ فإنها تورث الضغينة، وعليكِ بالزينة والطِّيبِ".

 

وقيل: "وإياكِ وكثرة المعاتبة؛ فهي مقطعة للمودة، وإيَّاكِ والغيرة في غير موضعها؛ فهي مفتاح الطلاق".

 

وقال عمر لرجل همَّ بطلاق امرأته، وزعم أنه لا يحبها: "أو كلُّ البيوت بُني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟".

 

وقال المغيرة بن شعبة: "النساء أربع، والرجال أربع؛ رجل مذكر، وامرأة مؤنثة، فهو قوَّام عليها، ورجل مؤنَّث وامرأة مذكرة، فهي قوَّامة عليه، ورجل مذكر وامرأته مذكرة، فهما كالوعْلَين ينطحان، ورجل مؤنث وامرأة مؤنثة، فهما لا يأتيان بخير ولا يَغْلَمَان".

 

إخواني، لو بحثنا عن أسباب الطلاق في مجتمعنا الصغير، لوجدناها في الأعم الأغلب أسبابًا تافهة لا تستحق أن تهدم كيان الأسرة وتمزق شملها، ولكن غيبة العقل وبعد المصلحين وتدخُّل الحَمْقَى والجهلاء - يؤزِّم الأمور، ويوسِّع دائرة الخلاف؛ مما يجعل لَمَّ الشمل صعبًا.

 

ولقد تأملت في حال بلدنا هذا، وبعد تدخلي في بعض المشكلات لمعالجتها، ونظرًا لأسباب تبين لي ما يأتي:

1- أن ظاهرة الطلاق عند الشباب أكثر منها عند غيرهم.

 

2- أن الطلاق في الشهور الأولى من الزواج أكثر منه بعد الإنجاب.

 

3- أن الطلاق بعد الإنجاب يكون بسبب الزواج على المرأة أو مرضها، أو تمرُّدها على زوجها أو تدخل أحد في حياة الزوجين.

 

4- أن السكوت على المشكلات في بدايتها يجعلها تكبر وتتأزم، ولو أن الزوجين عالجا المشكلات أولاً بأول أو أدخلا معهما من أهل الرأي والعقل والعلم مَن يحسن إليهما بإصلاحهما، لكان أولى وأجدر بحسم هذه المشكلات.

 

5- تدخُّل الأم والأب في حياة الزوجين؛ فكثيرًا من البيوت يكون هدمها بسبب تدخل الأبوين في بعض القضايا الخاصة بين الزوجين، ولقد تدخلتُ في مشكلة بين زوجين تأزمت، ولما قابلت الزوجين وتحدثت معهما مباشرة وعن طريق الهاتف، تبيَّن لي أن أم المرأة تضغط عليها وتلح بألا تسافر مع زوجها، وحين سألت الفتاة: هل ترغبين السفر؟ قالت: أرغب أن أكون مع زوجي في البر والبحر، لكني لا أستطيع أن أعصي أمي؛ فهي التي تأمرني ألا أسافر معه، ثم توجَّهت إلى الأم وخوَّفتها ووعظتها، وذكرت لها أن صنيعها قد يفرق بين ابنتها وزوجها، وبيَّنت لها حكم ذلك وخطورته، فندمت ورجعت وطلبت من بنتها السفر مع زوجها.

 

6- حديث الزوج عن زوجته والعكس، فكثير من الأزواج والزوجات لا يتورَّع بذكر المثالب في الآخر كل مجلس، وأحيانًا ينقل الكلام إلى الطرف الآخر، ويكثر الخلاف ويتسع، فيكون سبب للفراق.

 

7- كثير من حالات الطلاق عند الشباب التي وقفت عليها يشيرون إلى أنهم كانوا يظنون أن البنت كذا وكذا، فلما دخلوا عليها وجدوها خلاف ما يتوقعون، وهنا أهمس في أذن الآباء والشباب، وأقول: إن هدي الإسلام أكمل الهدي، فاحرصوا على نظر الخاطب لمخطوبته بأي طريق؛ ليكون الزوجان على بيِّنة، فو الله إن نظره إليها وعدم الرغبة فيها أفضل مئات المرات من دخوله عليها ثم طلاقها، وما علينا إلا أن نفكرَ قليلاً في مصلحة الزوجين ويتبيَّن لنا الأمر.

 

8- معظم حالات الطلاق تأتي من إجبار الشاب على فتاة لا يرغبها، أو إجبار البنت على شاب لا ترغبه، وكأن الرغبة والزواج للأب أو الأم، وإذا ناقشت بعض الآباء، قال: الحب والمودة تأتي بعد الزواج، وهنا الضحية الشاب والفتاة، فلْنَتَّقي الله في الأمانة، ولْنَكُن عند المسؤولين، والأب المتصرف يختار الشاب المناسب الذي ترضاه ابنته، فيحقق لها السعادة في الدنيا، وينعم الأجر في الآخرة.

 

9- بعض الشباب قبل الزواج يرتسم في ذهنه صورة مثالية للزوجة، من حيث الشكل واللونُ والجسم، والخدمة والتعامل والعلاقة، بل والصوت والنظرة والحركة، إلى غير ذلك ثم إذا دخل على زوجته، وجد خلاف ما رسم في ذهنه، ونسي أن هذا من باب المثالية الذي يعسر تحقيقه، بل وتناسى أن له أخوات وخالات وعمَّات، فهل هُنَّ بالصورة التي تخيَّلَها؟

 

10- بعض الأصدقاء والصديقات بحُسن نيَّة يتحدثون في مجالسهم: هذه تتحدث عن زوجها طالب العلم، صاحب الأخلاق العالية، الذي يتعامل معها معاملة رائعة، ويوفيها ويربي أطفالها تربية جيدة، وهذه تتحدث عن زوجها صاحب التجارة، الذي يلبي طلبتها وينتقل بها هنا وهناك، وثالثة تتحدث عن زوجها صاحب الذوق الرفيع، يتبع كل جديد حتى في دقات الذهب، ورابعة عن زوجها الذي تأمره وتنهاه، وهكذا بالمقابل يتحدث الأزواج عن زوجاتهم، ويبالغون في وصفهِنَّ حتى فيما ليس لهنَّ من صفات، ولكن من باب إظهار الفضل، وتجد هذا المسكين، أو تلك المسكينة الذين لم يَفْهَما هذا اللغْزَ يحترقان؛ لأنه لا يجد زوجةً بهذه المواصفات، وهي لا تجد زوجًا بهذه المواصفات، فيبدأ الخلاف وتصدر الكلمات: لو أنك مثل فلان، أو لو أنكِ مثل فلانة.

 

11- بعض الشباب يصطدم بعقبات في الأيام الأولى من الزواج، فتكبُر وتتسع، وتؤدي إلى الفراق، ولو أن هذا الشاب وغيره استشار أهل الخبرة والتجربة، لوجد - بإذن الله - حلاًّ لمشكلته، وكم من البيوت التي استقام حالها بعد أن كادت تتفرق، لو لا لطف الله، ثم تدخُّل بعض أهل الخير للَمِّ الشمل وجمع الصف.

 

12- تدخُّل بعض أعداء الزوج والزوجة، ونسج شيء مكذوب؛ لإيغار الصدور، وبثِّ الخلاف، والإلحاح بطريق غير مباشر على الفرقة والطلاق، وكم وقع في شراك هؤلاء من شاب بريء، وفتاة عفيفة شريفة، والموعد يوم القصاص بين الخلائق يوم يختم على أفواه فتنطق الجوارح بما عملت.

 

13- كثيرًا ما كان الهاتف سببًا للفرقة، وذلك أن بعض ضعاف النفوس ممن لا يردعهم حياء ولا دين يتجرَّؤون على البيوت العفيفة، ويتعرضون للآمنين في غيبة من الرقيب، ونَسوا أن الله مطَّلِع عليهم، وأن لهم عورات، وأن القاعدة الأصيلة في الإسلام: "عِفُّوا، تعفّ نساؤكم"، فاحرصوا - بارك الله فيكم - على تجنب أسباب الطلاق؛ لعل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير مغاليق للشر.

 

هذا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك في محكم التنزيل، فقال - جل من قائل عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].