إيمان زوجة الطاغية
هذه المرأة كان من نصيبها ، أخبث رجل عرفه التاريخ ، وأكبر طاغية عرفه العالم ، إنه فرعون مصر
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
بقلم/ محمد عبد الونيس
على ضفاف النيل ؛ حيث القصر المشيد ، يتلألأ أنواراً ، حيث الخدم والحشم ، حيث الجواري والغلمان والعبيد ، حيث النعيم والمال والثراء ، حيث القوة والسلطة والجاه ، تسكن سيدة هذا القصر ، الملكة بنت الملوك ، زوجة الملك ، إذا أمرت لبى الجميع طلبها ، وإذا نهت وزجرت ، امتثل الجميع لنهيها ، فالكل طوع أمرها ، ورهن إشارتها ، جاءتها الدنيا إليها بكل زينتها وبهرجها ، لم ينقصها من نعيم الدنيا وزخرفها شيء ، قصورها تتضاءل بجوارها قصور ملوك الفرس وأباطرة الرومان ، إنها ( آسيا بنت مزاحم) التي حباها الله بالجمال ، والعقل والحكمة والرزانة ، ما فاقت به نساء اليوم بكثير ، فالدنيا جاءتها راغمه ، تتمرغ تحت قدميها ، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال ، هل مثل هذه المرأة ينقصها شيء ؟ هل يفكر أي إنسان في مكانة هذه المرأة ولو للحظةٍ واحدة أن يترك هذا النعيم ؟ والحقيقة أنني لن أجيبك ؛ لكن سأترك لك السطور القادمة والأحداث تكشف لك الأمور ، هذه المرأة كان من نصيبها ، أخبث رجل عرفه التاريخ ، وأكبر طاغية عرفه العالم ، إنه فرعون مصر ، الذي ...
استخف قومه فأطاعوه
نعم استخف بشعبه {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات : 24] نعم ، زرع في أذهان الناس أنه ربهم ولا رب لهم سواه ، وبعد أن استقرت هذه الأكذوبة في أذهانهم وصدقوها ، انتقل فرعون إلى مرحلة أخرى لم يجرؤ عليها أحداً من العالمين ، فخرج على قومه قائلاً {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} [القصص : 38] وهنا قد وصل فرعون إلى مرحلة خطيرة ، من التكبر والغرور والجبروت ؛ حتى إنه أجبر الجميع أن ينادوه ، الإله فرعون ، وبدأت الأبواق الإعلامية ، تبث في كل الدولة ، أن فرعون هو الرب ، والإله المعبود ، ففي زعمهم ( لا رب إلا فرعون ولا إله غيره) وهنا قد وصل فرعون إلى ما يريد ، من استعباد البشر ، وإذلالهم ، وفي هذه الحالة من التكبر والغرور والجبروت والزهو بالنفس ، قد أرسل الله له ما ينغص عليه حياته ، إذ رأى فرعون في منامه أن نارا أقبلت عليه من جهة بيت المقدس فأحرقت مصر ، ، فسأل عن تفسير الرؤيا ، قالوا إن غلاماً يولد من بني إسرائيل يكون نهاية ملكك على يديه ، ومن هنا بدأ فرعون يحذر ولكن....
الحذر لا يمنع القدر
منذ أن رأى فرعون الرؤيا وأصبح حذراً ، فأصدراً قراراً فرعونياً ، بقتل كل أبناء بني إسرائيل الذكور ، فتناقصت أعداد الذكور ، فخفف الحكم إلى قتل عام وترك عام ، وفي عام القتل ولد موسى ؛ فخافت أمه عليه ، فوضعته في صندوق وألقته في اليم ( النيل) ، فألقاه اليم عند الساحل بجوار القصر ، فالتقطنه بعض جواري القصر ، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص : 8] ، وقدمن الصندوق إلى سيدة القصر ( آسيا بنت مزاحم) فلما فتحت الصندوق ؛ إذ به طفلاً وجهه يتلألأ نوراً فأحبته {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي} [طه : 39] فقال الطاغية: كيف نجا هذا الغلام من القتل؟
وقال : أذبحوا هذا الطفل؟
فبدأت زوجته تدافع عن الطفل حتى لا يقتله فقالت { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص : 9] فقال فرعون : قرت عين لك ، أما أنا فلا واستطاعت آسيا أن تقنعه بعدم قتله ، بل أقنعته بأن يحضر مرضعة له ، وعاش موسى في قصر فرعون ، إلى أن قتل القبطي ، وفر هارباً إلى مدين ، وبعد سنوات ، عاد إلى مصر ، لدعوة فرعون إلى عبادة الله ، ووقع الصدام بين فرعون وموسى ، وجمع فرعون السحرة لمواجهة موسى ، ولم تكن زوجة فرعون بمعزل عن الأحداث ، فقد كانت الأخبار تصل إلى زوجة فرعون ، وكانت تتابع الأخبار ، كانت زوجة فرعون تسأل من غلب؟
موسى أم فرعون ؟ ولا ننس أن حب موسى يتربع على عرش قلبها ، فهي أحبته منذ أن رأته في الصندوق ، أحبته حب الأم لولدها ، وهي من أعلم الناس بأخلاق موسى ، فقد تربى في كنفها وتحت رعايتها ، فيقال لها: غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت بربّ موسى وهارون ، فآمنت بالله رب العالمين ، وكتمت إيمانها عن زوجها ، وعلمت بماذا صنع فرعون مع السحرة ، ثم كانت الحادثة الأخرى ، فرعون يقتل ماشطة بناته وأولادها ، لأنها آمنت بالله رب العالمين ، وتحدته الماشطة قائلة ( ربي وربك الله) وهنا انفجر بركان الإيمان في قلب آسيا ؛ وقررت أن تعلن عن إيمانها بالله رب العالمين ، وهنا يقف العقل حائراً ، أمام عظمة هذه المرأة ، تترك كل هذا النعيم والبهرج ، والخدم والحشم ، والجواري والغلمان ، تترك المال والثراء ، تترك الجاه والسلطان ،تترك كل شيء ، ويا ليت الأمر أقتصر على ذلك ؛ بل إنها تعلم قطعاً مصير من يخالف فرعون ، وتعلم مدى الشقاء والعناء والتعذيب الذي ستلقاه ، فقد سبقها السحرة ، وماشطة بناته وأولادها ، إلى مصيرهم ، وهي تعلم قطعاً ماذا كان مصيرهم؟ ومع كل هذا ، فقد اتخذت قرارها الحاسم الذي لا رجعة فيه ، ستعلن عن إيمانها مهما كلفها من ثمن ، ترى يا أخي من أين استمدت هذه القوة ؟ ومن أين جاءت بهذه العزيمة والإصرار؟
إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته شغاف القلوب ، إنه الأنس بالله والقرب منه ، إنها العقيدة الراسخة رسوخ الجبال ، إنه نور الهدى إذا أضاء جنبات القلوب ، إنه الاستغناء بما عند الله ، عن حطام و متاع الدنيا الزائل ،
علم فرعون بما كان من زوجته وإيمانها ، فجن جنون فرعون ، واستشاط غضباً ، فقال لها: «لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة».
فقالت: ما بي من جنون ولكني آمنت بالله رب العالمين.
فأحضر فرعون أمها لتردها عن قرارها. وقال لها: (إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة. فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى) فخلت بها أمها وأرادتها أن توافق فرعون، ولكنها أبت
وقالت: أما أن أكفر بالله فلا والله. وعندما رأى فرعون تمسكها بدينها وإيمانها خرج على الملأ من قومه فقال لهم: ما تعلمون من آسيا بنت مزاحم فأثنى عليها القوم،
فقال: إنها تعبد رباً غيري
فقالوا: اقتلها.
ثم نادى فرعون زبانيته وأوتدوا لها أوتاداً وشدوا يديها ورجليها ووضعوها في الحر اللاهب تحت أشعة الشمس المحرقة ووضعوا على ظهرها صخرة.
وظل فرعون يتلذذ بتعذيبها
وكلما تركها فرعون وزبانيته تحت أشعة الشمس وانصرفوا ، جاءت الملائكة تظلها بأجنحتها
وفي هذا المشهد الرهيب ، وعلى الرمال الساخنة ، وتحت لهيب الشمس المحرق ، حيث الجوع والعطش القاتل ، حيث الأوتاد والسلاسل والتعذيب ، لا يغيب عن أذهاننا ، أن هذه هي الملكة بنت الملوك ، زوجة الملك ، صاحبة المال والسلطان ، قد هانت عليها نفسها أن تبذلها رخيصة في سبيل الله ، قد آثرت هذا الجحيم ، على جحيم الكفر ، قد استعذبت العذاب في سبيل الله ، فأى نفسٍ هذه ؟! وأي إيمان تحمله؟! وأي عزيمة وإصرار تحمله بين ضلوعها؟!
بذلت التضحية والفداء في سبيل الله ، بل تبذل نفسها وروحها رخيصةّ لله ، فكانت المكافأة ، وهي تحت أشعة الشمس المحرقة ، أن رأت قصورها في الجنة ، رأت مكانتها التي أعدها الله لها في الجنة ، ياالله !! أي مكافأة هذه؟ و أي فوز هذا ؟
لقد نسيت ما هي فيه من العذاب تبسمت ثم ضحكت ،
فقال الطاغية : انظروا إلى هذه المجنونة ، نعذبها وتضحك ، ولا يدري هذا الطاغية ، أنه هو الغبي والمخبول والمجنون ، فأمر جنوده أن يلقوا عليها صخرة عظيمة ، ولكن قبض الله روحها ، فألقوها على جسدٍ بلا روح .
لقد استجاب الله دعائها حينما قالت { رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم : 11] لقد اختارت رحمها الله ، الجار قبل الدار ، لقد استحقت بجدارة ، أن تكون من أفضل سيدات نساء العالمين ، بل من أفضل نساء أهل الجنة ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم-
- «أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ خديجةُ بنتُ خويلدٍ ، و فاطمةُ بنتُ محمدٍ ، و مريمُ بنتُ عمرانَ ، و آسيةُ بنتُ مزاحمٍ ، امرأةُ فرعونَ»
[الراوي : عبدالله بن عباس المحدث : الألباني المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم : 1135 خلاصة حكم المحدث : صحيح]
واستحقت شهادة رسول الله لها
– «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سَائِرِ الطَّعَامِ.» «»
[الراوي : أبو موسى الأشعري المحدث : البخاري المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم : 3411]
خلاصة حكم المحدث : صحيح
فرحم الله شهيدة الحق ، التي لم تخش إلا الله ، ولم تخف في الله لومة لائم ، وقالت كلمة حقٍ عند سلطان جائر، وثبت الله رجال الحق حينما يقفون على أعواد المشانق.
بقلم/ محمد عبد الونيس