التحذير من بدع نهاية العام
يقول الإمام مالك - رحمه الله - يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - مناسبات دورية -
لقد بُعث نبينا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحنفية السمحة، وجاء بالرِّسالة الكاملة، وما مات إلاَّ وقد كمل الدِّين فمن ابتدع في الإسلام، فقد جاء بشرع لم يشرعه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد حذَّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من البدع، فها هو الصحابي الجليل العِرْبَاض بن سارية يُحدثنا بما رواه الإمام أحمد في مُسنده بسند صحيح حيث قال: صلى بنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنَّ هذه موعظة مُودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعشْ منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تَمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وبما رواه جابر قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبَّحكم ومسَّاكم»، ويقول: «بعثت أنا والساعةَ كهاتين»، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوُسطى، ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور مُحدثاتُها، وكل بدعة ضلالة» (رواه مسلم).
وقال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود - فيما رواه الطبراني بسند صحيح -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم» ، وقال أيضًا - فيما رواه الطبراني بسند صحيح -: الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة، ولقد اشتد نكيرُ أئمة الهدى على من أحدث في دين الله، وابتدعوا ما لم يأذن به الله، حتى جعل الإمام أحمد أن التحذير من البدع أفضل من صيام وصلاة النفل، بل وأفضل من الاعتكاف، وكان يقول: إذا قام وصلى واعتكف، فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل، وكان شيخُ الإسلام يقول: إنَّ تحذيرَ الأمة من البدع والقائلين بها واجب باتِّفاق المسلمين، وكان يقول: إنَّ أهل البدع شر من أهل المعاصي الشَّهوانية.
بل ها هو الإمام مالك - رحمه الله - يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا، فما أجمل هذا الكلام! وما أحوجنا إلى معرفته وفهمه! إنَّ الإحداثَ في دين الله تشريع جديد، حتى ولو كانت نية مَن قال بها حسنة قال الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وها هو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «مَن أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري ومسلم).
إنَّ مِن أعظمِ الأمور التي تنشأ بأسبابِها البدع الجهل، فالناس قبل مَبعثه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا في جاهليَّة جهلاء، وضلالة عمياء، حتى منَّ الله عليهم بخيرهم قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، فما مات - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وتركهم على المحجة البيضاء، ثم قام أصحابُه من بعده بأداء الواجب، وورَّثوه لمن بعدهم.
ولكن حكمة الله قضت أن يكون كل جيل أقل ممن سبقه في العلم والتقوى، وكلما تقادم الزَّمان نقص العلم، وكثر الجهل قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُقبض العلم ويظهر الجهل والفتن» (رواه البخاري)، وقد حصل ما أخبر به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فانتشر الجهل، وقلَّ العلم، وذلك بقبض العلماء قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ اللهَ لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم، اتَّخَذ الناس رؤساءَ جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (رواه البخاري).
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «سيكون في أُمَّتي دجالون كذَّابون، يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يفتنونكم» (رواه مسلم)، إن على الأمة أن تقف صفًّا واحدًا في وجه البدع والمحدثات، وأن تسير على النهج الذي سنَّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد استشرت البدع في أمتنا، وفي غالبها تقليدٌ للنصارى، فاحتفل النصارى بعيد ميلاد المسيح المزعوم، فأحدث بعض جهال هذه الأمة عيدًا لميلاد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأحدثوا بدعة الاحتفال بمولده - صلَّى الله عليه وسلَّم - واحتفل النصارى بعيد رأسِ السنة الميلادية، فحاكاهم جهال الأُمَّة، فاحتفلوا برأس السنة الهجرية، حتى أصبحت تعطل الأعمال في بعضِ البلاد الإسلامية، فتعطل الأعمال في اليوم السابق له، واليوم اللاحق له.
وأول من احتفل برأس السنة الهجرية هم من أحدثوا القبور والأضرحة بنو عبيد الله القداح، ذكر المقريزي في خططه بأن للخلفاء الفاطميين اعتناءً بليلة أول المحرم في كل عام لأنَّها أول ليالي السنة، وما هذا إلا تقليد للغرب، قد حذر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك، فقال: «مَن تشبه بقوم فهو منهم»، وصدق ابن عباس - رضي الله عنهما - عندما قال: «ما أتى على الناس عام إلاَّ أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن» (رواه الطبراني بسند صحيح).
فها نحن نجد الآن من يَزرعون في الناس بدعًا ما أنزل الله بها من سُلطان، فيحيون بدعًا ويُميتون سننًا، فتجد مثلاً من يرسل لك في نهاية العام عبر أجهزة الجوالات ورسائل البريد الإلكتروني - رسائل يقول لك فيها: هذه آخر جمعة في العام، فلا تفرطن فيها بالدُّعاء، فاختم عامك بخير، وما أدري من الذي فرق بين آخر جمعة في العام ومَيَّزها عن باقي الجُمَع؟!
ورسالة تقول: لا تفوتنك صلاة الفجر جماعة في آخر يوم في السنة، وما أدري لماذا لم يحثُّونا على ألاَّ نفرط في صلاة الفجر طوال العام، وكأن التفريط في صلاة الفجر جماعة في بقية العام عندهم أمر أقل وزرًا، وأقل خطرًا.
وثالثة تقول: لا يفوتنك صيام آخر يوم في السنة، فلا تفرطن في صيام هذا اليوم حتى تختتم عامك بخير، وإنَّما الأعمال بالخواتيم، وما علم هؤلاء أن الخاتمة هي خاتمة العمر، وليست خاتمة السنة، وخاتمة العمر ليس لها وقت مَحدود، فكن على حذر في كل يوم، بل وفي كل ساعة، وليس في آخر يوم في السنة، أو أول يوم فيها، فكأنَّ المرسل يقول لنا: استقيموا في آخر يوم وأول يوم، ولا يضركم أن تفرطوا في بقية العام.
ورسالة رابعة تقول: لا تفوتنك صلاة الفجر جماعة في أول يوم في السنة، من الذي جعل الصلاةَ مع الجماعة في فجر آخِرِ يومٍ في العام، أو أول يوم في العام - تتميَّز عن غيرها من الصَّلوات، هل هو الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو ما استحسنته العقول؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، فما جاء – والله - حديثٌ صحيحٌ، ولا سقيمٌ، ولا أثرٌ عن صحابي، ولا عن تابعي، مُيِّز فيه آخر فجر أو أول فجر في العام عن غيره، وإنَّما هذا التمييز استحسنته عقولُ الجهال، وما ميز رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاة عن غيرها، إلا صلاة فجر يوم الجمعة في جماعة، فقد ميزها عن غيرها من الصلوات، فلا نتعدى ذلك حيثُ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة» أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا، ورجاله على شرط الشيخين.
ولقد جاءني منذ سنوات رجلٌ والحزن يلفُّه، والكآبة بادية على وجهه، ويقول لي: أخشى على نفسي ألاَّ يكون هذا العام عام خير لي، فلقد فاتتني الصلاة مع الجماعة فجر هذا اليوم، وهذا أول يوم في السنة، فسألته: هل هذا الحزن أصابك عندما فرَّطْت في الصلاة في غيره من الأيام؟ فقال: لا، فانظر كيف زرع هذا القول البدعي التشاؤمَ والتطير في ذلك العام عند هذا، وعند غيره ممن يعتقدون في هذه الأيام من الفضائل عن غيرها من الأيام والشهور، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله:
من الذي جعل لصيام آخر يوم في العام فضيلة عن غيره؟! أهو رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أم ما استحسنته عقولُ بعض الناس؟! وصدق والله ابنُ عباس عندما قال: إنَّ في كل عام تُحيا بِدَع، وتَموت سنن، فوالله ما أحدثت بدعة إلاَّ على حساب سنة، وما أدل على ذلك إلاَّ رسائل الحث على صيام أول يوم في السنة، والحث على صيامه لأنه أول يوم في السنة - بدعة لأن الأعمال بالنيات، فصيام شهر الله المحرم هو أفضل الصيام عند الله بعد صيام رمضان لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» (رواه مسلم)، فانظر إلى هؤلاء القوم الذين لا يكادون يميزون بين سنة وبدعة، فبَدلاً من أن يحثوك على صيام شهر الله المحرم اقتداءً بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حثُّوك على صيامه اقتداءً بما استحسنته عقولهم، وما توافق مع أمزجتهم، والأعمال بالنيات، فأصبحتَ بصومه مأزورًا غير مأجور.
فمن نوى صيامه لأنه أول يوم في السنة، فقد صامه بسنة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن نوى صيامه لأنه شهر الله المحرم اقتداءً بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أصاب السنة، وجافى البدعة.
عباد الله:
لا تستهينوا بمثل هذه الأمور، ولا تُقلِّلوا من خطرها {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، فوالله، ثم والله، ما أصعبَ نزعَ البدعة إذا أُشربتها القلوب، واستحسنتها الأمزجة والعقول! فوأدها قبل استفحالها أيسرُ منه بعد انتشارها واستشرائها، إنَّ البدع التي أحدثها جهال الأمة في بداية العام، وفي نهايته - أكثر مما ذكرته، وليس هذا موضع استقصائها، وإنَّما ذكرت لممًا منها، وَقَانا الله وإياكم شرَّ البدع، وهدانا للسنن، وجعلنا نقتدي بخير البشر.