الولد العاق

لا يشك إنسان في رحمة الأبوين بابنهما، وفي تقديم تربيةٍ راقية له من وجهة نظرهما، وما تربَّيا عليه، فهنا قصة أبوين مؤمنين أحبَّا بشغف ابنهما، وقدَّمَا له كلَّ ما يملكان من حب وحنان..

  • التصنيفات: قصص مؤثرة -

لا يشك إنسان في رحمة الأبوين بابنهما، وفي تقديم تربيةٍ راقية له من وجهة نظرهما، وما تربَّيا عليه، فهنا قصة أبوين مؤمنين أحبَّا بشغف ابنهما، وقدَّمَا له كلَّ ما يملكان من حب وحنان، وتربية قويمة، أساسها الإيمان بالله، فلقناه صفاتِ الله تعالى، وحبَّبا إليه الشريعة المنزلة من الله، فكان قرة أعينهما، ورأيَا فيه الولد المثالي فيما قدَّما إليه من تربية وحنان، وربما بالغَا في التربية والتدليل، فكان شغلهما الشاغل، لا يستطيعان الأكل إلا بوجوده معهما، ومن شدة المحبة لم يتركاه يخرج من البيت إلا معهما أو بصحبتهما، فكان غطاؤه عند النوم الأهداب والجفون، وحراسته في الليل سهر العيون، إن مرض لم يناما سهرًا عليه وخوفًا وقلقًا، وكان ألمهما يفوق ألمه، وهم ينتظرانه أن يكبر ويكبر، ليكون الأمل لهما بعد الله في رعايتهما في الكبر.

 

وبتربيته على الإيمان يتقربان إلى الله لمزيد من الثواب في الآخرة، ولكن بعد أن شب عن الطوق وبدأ يخرج من البيت إلى عالم الناس والاختلاط وإلى صراع الأفكار، وإلى التفكير في كل أمر صغيرًا كان أو كبيرًا، وإلى محاكمة كل شيء إلى العقل، وأي عقل؟ عقل سمَّمه المغرِضون، فلم يعُدْ له مصداقيةٌ في الحكم على الأشياء أو الأفكار، وأضحى منحازًا في الحكم، فشذ عن التربية الحقة؛ لذلك بدأت تربية الأبوين تهتز في فكره، ويقل تأثيرها على سلوكه، وتضعف قوتها في نفسه.

 

وفي أحد الأيام خرج عن الطوع، وتمرد على التربية النموذجية الإيمانية، وفاجأ أبويه بكلمات لم تخطر على بالهما في يوم من الأيام، أو تصدر من ولدهما الغالي المدلل، {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] كلمة ثقيلة، فيها التضجر منهما ومن تربيتهما له وعطفهما عليه، وقد خالف بانقلابه على أبويه كل أدب ولياقة وتوصية ربانية بالأبوين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، ولما استفسرا منه عن سبب هذا التأفف والثورة النفسية، قال: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17]، كانا قد لقَّناه الإيمان والبعث والنشور بعد الموت، فجاء من زعزع هذا الاعتقاد في قلبه، فانقلب على أبويه، وعدَّ ذلك خداعًا منهما له، وفكرًا مضللًا، فكان غضبه على أبويه، وثورته العارمة في أعماق نفسه، فيقول: هل رأيتم من يخرج من القبور بعد الموت؟ فهذه قبور من بادوا قبلي على حالها، وأنا إن مت فسأبقى مثلهم وأتحول إلى عظام بالية وتراب.

 

لقد ضعُف إيمانه الغيبي، وعطل تفكيره في رؤية ما يحدث في الكون أمامه ليرشده إلى قدرة الله في الإماتة والإحياء والبعث والنشور، خَلْق الإنسان من نطفة، وتكوينه في الرحم، ثم نفخ الروح فيه، الحياة في الأرض المجدبة حين ينزل عليها المطر فتنبت وتخضرُّ وتثمر، فأبواه كانا على حق في تلقينه الإيمان وهما يعلمان الحقيقة؛ لذلك كانا يخافان عليه عاقبة أمره، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} [الأحقاف: 17] منظر معبِّر، ولد ثائر على العقيدة والقيَم، وأبوان يعرفان أنهما على حق، فيدعوان الله أن يهديه، ويعيد إليه الثقة بالله، ثم بهما، ويدعوان الله ألا يوغل في هذا النكران، فيخرج بذلك عن الملة، وتكون هنا الخسارة الجسيمة وفقدانه للأبد، حيث يختلف الطريقُ، فهما مؤمنان، وطريقهما إلى الجنة، وهو إن أصرَّ على كُفره فطريقه إلى النار، فهل يلتقيان؟

 

ولعله لم يستمع لهما؛ فهو متمرد، يعُدُّ والديه متخلِّفين، وهو مع الشباب الناهض المتقدم، ولكن حنان الأبوين وإشفاقهما عليه كيلا يضيع: يطلبانِ منه بصوت واحد مرتفع ليُفيق من حُلمه القاتل: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف: 17]: استغفر اللهَ، اللهُ تواب رحيم، لا تنطق بكلمات الكفر، تُبْ إلى الله وأنت قوي صحيح، فلا تثريب عليك، يغفر الله لك، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف: 17] في يوم الحساب، ومجازاة المحسن إحسانًا بالجنة، والمسيء إساءة بالنار، ولكن المسكين المنقلب على والديه الثائر على القيم والمعتقد السليم يقول بعد أن تلوث فكرُه وعشش النكران في لبِّه: {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17]، يقول لأبويه: هذه أكاذيب لا أعتقدها، وهي من اختراع الأولين الذين يخدعون الناس، {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف: 18].

 

وهكذا قضى هذا المتمردُ عاقًّا جَحُودًا، لم تنفع فيه التربية.

_________________________________________________
الكاتب: د. محمد منير الجنباز