منهج القرآن في بناء العقيدة في العهد المكي

ما أحوجَنا إلى نهضةٍ حضاريَّة، وبَعثٍ جديد لأمَّتنا! ولن يتأتَّى لنا هذا إلا بتمسُّكنا بمبادئ بناء النهضة التي أرساها لنا القرآنُ الكريم، وعلَّمنا إياها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بناء العقيدة،

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -

ما أحوجَنا إلى نهضةٍ حضاريَّة، وبَعثٍ جديد لأمَّتنا! ولن يتأتَّى لنا هذا إلا بتمسُّكنا بمبادئ بناء النهضة التي أرساها لنا القرآنُ الكريم، وعلَّمنا إياها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بناء العقيدة، حيث أرسَى القرآنُ منظومةً كُبْرى أنتجَت رجالًا حُقَّ لهم أنْ تُكتبَ أسماؤهم بماء الذهب، في حين حاولَتْ شتَّى المذاهب والفلسفات أنْ تُنشئ أجيالًا بعيدًا عن المنهج الربَّاني ففشلَت تمامًا، كما رأينا الشيوعيَّة والرأسماليَّة وغيرهما الكثير، وماذا جرى للعالَم من جرَّاء الانحراف عن المنهج الإلهي الذي رسَمه القرآنُ الكريم، ومِن هنا كان لا بدَّ مِن معرفة منهج القرآن في بناء العقيدة في العهد المكيِّ.

 

شمولية القرآن الكريم:

إنَّ القرآن الكريم شامل لجميع متطلبات النفس الإنسانيَّة فيما تحتاجه مِن الأوامر والنواهي، وما يُصلحها وما يَصلحُ لها، وما يُسعدها وما يُشقيها وما يَهديها، ومِن هنا فالقرآن الكريم هو المنهج الكفيل ببناء الفرد بناءً شاملًا كاملًا، كما أنه يُرَبِّي الأسرة الفاضلة والمجتمع الفاضل؛ لذلك كلِّه كان، وسيظل القرآن حتى يرث الله الأرض وما عليها، المصدرَ الأول للتشريع الإسلامي، يَستمدُّ منه المسلمون عقيدتهم التي يؤمنون بها، ويجِدُون فيه معالجةً لجميع جوانب حياتهم دنيا وآخرة.

 

كان مِن أخطر ما تعرَّضَت له دراسةُ العقيدةِ الإسلاميةِ المنهجُ المختلف في تناول قضاياها ومسائلها، حيث جدَّت مسائل الفلسفة وعِلم الكلام، ودخلَت في منهج دراسة العقيدة؛ وهو ما تَرَكَ أثَرًا كبيرًا إلى يومنا هذا في دراسة العقيدة والتوحيد، وبَعُدَ بها نوعًا ما عن منهج القرآن.

 

ظهور الانحراف المنهجي في دراسة العقيدة:

لا بدَّ إذًا مِن تحديد المعالِم الصحيحة للمنهج الربَّاني، فكلُّ زمن يَظهر فيه الانحراف يَنصُّ علماءُ العقيدة الثِّقاتُ على مسائل بعينِها، نَعرف بها حدود البناء العقدي الذي يحتاج إليه كلٌّ مِنَّا، وتحديد هذه المعالم قد يَزداد زمنًا بعد زمنٍ، فقد كان في الزمن الأول هناك مَن يخالف في مسائل الإيمان، فأصبحَت مسائلُ الإيمان والكفر مِن أهمِّ المسائل التي يُنَصُّ عليها، ويُبَيَّنُ أنَّ مرتكب الكبيرة ليس بكافر، وأنه لا يخلد في النار، وأن الإيمان يزيد وينقص، مع أن هذه المسائل لم تُذكر في أصولٍ في حديث جبريل الذي هو مثل فهرس الكتاب الذي جمع فيه معالم الدِّين، ولكنها أُبرِزَت وبُيِّنَت لَمَّا ظهر أهلُ البِدَع المخالِفون.

 

وكذلك المخالفة مِن قِبَل بعض الفرَق الكلاميَّة في عُلُوِّ الله على عرشه، صارت مسألة العلوِّ والفوقيَّة إحدى المسائل التي ينصُّ عليها أهل السُّنَّة؛ حسمًا للخلاف وإظهارًا للعقيدة وتوحيدًا للصف المسلم.

 

حسْم الخلاف ودرْء الشُّبَه:

وعندما ظَهرَت في عصر المعتزلة مسألة خلْق القرآن، صار يُنصُّ في عقيدة أهل السُّنَّة على أن (القرآن كلام الله غير مخلوق)، مع أنَّ هذا لم يكن في الزمن الأول، ولم تُنقَل عن الصحابة هذه العبارة، ولكنها مقتضى الدليل الثابت من الكتاب والسُّنَّة، ومقتضى ما نُقِلَ عنهم في صفات الله تعالى.

 

وكَثُرت الأصواتُ الداعية إلى ترْك نصوص الكتاب والسُّنَّة، والانشغال بالفلسفة وعِلم الكلام، وقد حدَث هذا بعد دخول الفلسفة اليونانيَّة على يد الفلاسفة المشائيين، ثم المتكلِّمين الذين هذَّبوا الفلسفة، ثم صبُّوها في قالب إسلامي، وقد أدَّى ذلك إلى وجود قدْرٍ عظيم من المسائل التي جدَّت، وكلُّ هذا أدَّى بدوره إلى أن يقف علماءُ العقيدة الأثباتُ موقفًا مُحدَّدًا في مسائل بعينها.

 

التربية العقدية في القرآن:

ومن هنا فلا بدَّ إذًا أن نهتمَّ بطريقة القرآن في عرْضه لمسائل العقيدة، ونقف عند الآيات، ونتعبَّد لله بمقتضى هذه الآيات، وما تدلُّ عليه مِن معرفة أسماء الله تعالى وصِفاته، ومحبَّةِ رُسلِه الكِرام، والتشبُّه بصفاتهم العظيمة، ومحبَّة كتابه الذي أنزله، ومعرفة قَدْر كُتبه التي تضمَّنها هذا الكتاب.

 

ويَصِل الإنسانُ مِن خلال دراسة آيات القرآن إلى التعرُّف على العقيدة الصحيحة، والرد على البدع والضلالات؛ ولذا كان مِن أكبرِ الجنايات على الإسلام وأهلِه الانحراف في منهج التلقِّي، وجَعْل طريقة الفلاسفة والمتكلِّمين هي الطريقة التي تُتَناولُ بها العقيدة، ولا تزال في كثير مِن المعاهد الإسلامية تُتناول العقيدة على طريقة عِلم الكلام، وتعريف الجوهر والعرَض، وواجب الوجود وممكن الوجود ومستحيل الوجود، ونحو ذلك مِن الاصطلاحات التي يَعلم كلُّ ناظر في القرآن أن القرآن بعيدٌ عنها، وأن دعوة الأنبياء تختلف عن هذه الطريقة؛ لذلك لا بدَّ أن نركِّز على بناء الإيمان في النفوس.

 

أهمية العقيدة:

للعقيدة أهمية كُبْرى في حياة الإنسان، فالدِّين الإسلاميُّ بناءٌ متكامل يَشمل جميع حياة المسلم منذ ولادته وحتى مماته، ثم ما يَصير إليه بعد موته، وهذا البناء الضخم يقوم على أساس متين، هو العقيدة الإسلامية التي تتخذ مِن وحدانية الخالق جل وعلا مُنطلَقًا لها؛ كما قال ربُّنا تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وقال سبحانه: {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]، ومن الآيات الواردة في سورة الأنعام أيضًا، التي عُنيَت بشأن العقيدة وتركيزها، والتي تدلُّ على عظَمةُ الله وقُدرته وبديعُ صُنعه؛ قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 1 - 3].

 

وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 13، 14]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17، 18].

 

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}  [الأنعام: 65].

 

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 95 - 98]، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 102، 103]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]... إلخ.

 

وبُعِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، وكانت مهمته الأولى ترسيخ العقيدة، وتأصيلها في النفوس؛ فهي القضية الكبرى والرئيسة.

 

فالعقيدة هي القاعدة الأساسيَّة لإقامة هذا الدِّين وهي الأساس، والعبادة هي البناء القائم على أصل العقيدة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيَه، وفيما أمر به، وما نهى عنه.

 

فالعقيدة هي المدخل للإسلام وهي مِحْوره والروح التي تسري فيه، وقد جاءت هذه العقيدة في سورتين موجزتين؛ هما سورتا الإخلاص والكافرون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وهاتان السورتان جاء فيهما خلاصةُ العقيدة، ولهذا جاءت السُّنَّة بمشروعية قراءتهما في ركعتي الفجر؛ ليبدأ المسلم يومه بتصفية نفسه، وإخلاص عقيدته وصِدْق تَوَجُّهه إلى بارئه جل وعلا.

 

العقيدة هي الأساس:

فالقرآنُ الذي ظلَّ يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا كاملةً يحدِّثه فيها عن قضية واحدة لا تتغيَّر، ولكنَّ طريقة عرضها لا تكاد تتكرَّر؛ ذلك أن الأسلوب القرآني يجعلها في كلِّ عرض جديدةً، لقد كان القرآن يعالج القضية الأولى قضية العقيدة ممثلةً في قاعدتها الرئيسة الألوهيَّة والعبوديَّة.

 

إنها قضية الإنسان التي لا تتغيَّر؛ لأنها قضية وجوده في هذا الكون، وقضية مصيره، وقضية علاقته بخالق هذا الكون بكلِّ ما فيه من الأحياء، وكانت العقيدة هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.

 

ولقد شاء الله تعالى أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدَّى لها الدعوة منذ اليوم الأول لهذه الرسالة العالمية، وأن يَبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرِّف الناس بربِّهم الحق، ويُعبِّدهم له دون سِواه.

 

ولقد بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدِّين الذي يَعمل على بناء الأخلاق التي لا تقوم إلا على أساسٍ مِن العقيدة التي تضع الموازين، وتحدِّد القِيَم، وتقرِّر السُّلطة التي تَعتمد عليها هذه الموازين والقِيَم، وبدون هذه العقيدة تَظلُّ القِيَم والأخلاق كلها متأرجحة بلا ضابط؛ لأن بالعقيدة الحقَّة يَتطهَّر المجتمعُ مِن الظلم الاجتماعي بجُملته، وقد قام النظام الإسلامي بعدلٍ لا يَعرف الظلمَ، وبميزان قِسطٍ لا يَعرف الجَوْرَ، ورفع راية الإسلام، وطهَّر النفوس، وزكَّى الأخلاق، ونقَّى القلوب والأرواح؛ لأن الرقابة قامت على رسوخ العقيدة وقوة الإيمان، ولأن الطمع في رِضا الله وثوابه، والخوف مِن غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرِّقابة.

 

فنظام هذا الدِّين يَتناول الحياة كلها، ويَتولَّى شؤونَ البشرية كبيرها وصغيرها، ويؤمِّن حياة الإنسان، لا في هذه الحياة وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، وقد عالج القرآنُ المكيُّ قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عامًا.

 

الإسلام دِين الفطرة:

إنَّ القرآن الكريم يُخاطب فطرةَ الإنسان بما في وُجوده هو، وبما في الوجود مِن حوله مِن دلائل وإيحاءات، إنَّ بني الإنسانِ حين يَضلُّون عن سبيل الله يَتخبَّطون في الضلالات، ويَتسكَّعون في الظلمات، ويَغرقون في ألوان الشِّرْك، وأوضار الجاهلية؛ {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32]، فالبَشَرُ عقولهم قاصرة، قاصرة عن أن تُدرِكَ طريقَ الصلاح بمفردها، أو تَستَبين سبيلَ الرشاد بذاتها، إنها لا تستطيع أن تجلبَ لنفسها نفعًا، أو تدفع ضررًا.

 

فالإسلام دِينٌ يُعنَى بالعقيدة، ويُوليها أكبرَ عنايةٍ؛ سواء مِن حيث ثبوتها بالنصوص ووضوحها، أو مِن حيث ترتيب آثارها في نفوس مُعتقِديها؛ لذا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم مَكَثَ ثلاث عشرة سنةً بمكة يتنزَّل عليه القرآن، وكان القرآنُ المكيُّ في غالبه يَنْصَبُّ على البناء العقدي، حتى إذا ما تمكَّنَت العقيدةُ في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم نزلَتِ التشريعاتُ الأخرى بعد الهجرة إلى المدينة.

 

فالغالب في القرآن المكيِّ تقريرُ التوحيد والعقيدة السليمة؛ لأن غالب المخاطَبين يُنكرون ذلك، والغالب في المدنيِّ تفصيلُ العبادات والمعامَلات؛ لأن المخاطَبين قد تقرَّر في نفوسهم التوحيدُ والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعامَلات.

 

فكما أنَّ هذه الأوامر والنواهي فريضةٌ مِن عند الله، واتِّباعها فرضٌ لازمٌ في رقابنا، فكذلك اقتفاءُ المنهج الربَّاني في بناء النَّفْس فرضٌ كذلك، وكلُّ محاولة لإقامة هذا الدِّين بغير المنهاج الربَّاني لا بدَّ أن تبوءَ بالفشل؛ وذلك لأن هذا الدِّين لا يكُون ولن يكُون إلا كما أراد الله، ولن يُبنَى إلا بنفس المنهج الذي رسمه ربُّ العالمين، وكلُّ منهاج بشري نستعمله لإيصال حقيقة هذا الدِّين إلى الناس هو فاشلٌ لا محالة، وهو عبَثٌ وملهاة ولعب.

 

لا بدَّ مِن اتِّباع المنهج الربَّاني القَيِّم الذي رسمه ربُّ العالمين، وسلَكَه سيِّدُ البشرية محمد صلى الله عليه وسلم لإيصال دِينِ الله إلى قلوب البشَر، ولا بدَّ مِن البَدء بالعقيدة مِن تعريف الناس بإلههم الحق، وبحقيقة وجودهم على هذه الأرض، والمهمة المنوطة بهم إبَّان مرورهم بهذه الدنيا، مَن المسؤول عنهم؟ أيُّ منهاج يجب أن يحكمهم؟ صِلَة هذا الإنسان بالكون مِن حوله، مكانة هذا الكائن مِن الكون، وبعبارة أقصَر: إقرار جلال الله ورهبته وهَيْبته في أعماق قلب الإنسان، وطريقة الوصول إلى رضاه[1].

 

لقد ظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاث عشرة سنةً بَعد البعثـة يُقَرِّر العقيدة ويُرَسِّخها في نفوس أصحابه بمكة، مُوَجِّها أكثرَ جهدِه إلى تقرير التوحيد وترسيخه؛ فلماذا كل هذه الفترة الزمنية الطويلة؟ هل كان التوحيد موضوعًا صعـبًا يحتاج تعلُّمه إلى هـذا الوقت؟ وهل كان طويلًا جدًّا، بحيث يقتضي هذه الفترة؟ أم أن قريشًا كانت تعاني مِن إعَاقة ذهنيَّة، وبُطءٍ في الفَهْم، وصعوبات في التعلُّم، فهي لا تستطيع أن تستوعب التوحيد إلا في ثلاث عشرة سنةً؟

 

كلَّا، فلم تدخل العقيدةُ شيئًا مِن الطول والتوُّسع في التقرير والردود - الذي احتيج إليه فيما بعد - إلا بعد انتشار مسائل عِلم الكلام، فكان مَن يجلس مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم جلسةً قصيرةً يَفهَم منه مقصودَ الدعوة التي يَدعو إليها، والتوحيد الذي يُنادي به دون عناء.

 

كلمة لها تبعات:

لقد كانت قريش تَعِي تمامًا ماذا يريد النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن دعوة التوحيد (لا إله إلا الله)، فهي تَعلم أنها ليست كلمة تُقال دون أيِّ تبعات؛ لذا واجهَت دعوتَه بالصدود والإعراض والعِناد، كان يُنادي في أندية مكة وبطاحها أن: قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا))، فكانوا يُقابِلون ذلك بالصدود والاحتجاج قائلين كما حكى القرآن عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، حيث كانوا يَعرفون أن إقرارهم بـ"لا إله إلا الله" إبطالٌٌ لكلِّ تعلُّق بغير الله؛ فلا هُبَلَ ولا عُزَّى، ولا ودًّا ولا سواعًا، ولا يغوث ويعوق ونسرًا؛ إذ لا مُغيث، ولا مُجير، ولا مُدبر، ولا مالك، ولا رازق، ولا معبود بحقٍّ إلا الله؛ ولذلك عارضَت قريشٌ الدعوةَ الإسلامية بكلِّ ما أوتيَتْ مِن قوة، ووقفَتْ منها موقف العداء، وحاولت الحدَّ مِن انتشارها وتجفيفَ منابعها، والحيلولةَ دون تبليغها.

 

عن ربيعة بن عبَّاد الديلي رضي الله عنه قال: "رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تُفلِحوا»، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يقول: "إنه صابئٌ كاذب"، يتبعه حيث ذهب، فسألتُ عنه، فذكروا لي نسبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمُّه أبو لهب"[2].

 


[1]د. عبد الله عزام، "العقيدة وأثرها في بناء الجيل"، 1/ 16.

[2] محمد ناصر الدِّين الألباني، "صحيح السيرة النبوية"، 1/ 143، الطبعة الأولى، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن.

____________________________________
الكاتب: د. جمال عبدالناصر