درعا.. الحسابات الروسية والأطماع الإيرانية
عمل إيران في درعا منذ سنوات عبر منظمات تعمل بغطاء مدني مثل (جمعية الزهراء) التي تأسست عقب زيارة ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي في سوريا (أبو الفضل الطباطبائي)، و (جمعية أحباب القائد الخالد) و (جمعية تموز) وجميعها تتلقَّى الدعم المفتوح من مكتب الخامنئي
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
درعا هي أبرز رموز الثورة السورية وأكثر المدن تأثيراً في مسارها نظراً لموقعها الجغرافي ومبادرتها في الجرأة على تحدي النظام السوري، فالمدينة الواقعة في الجنوب السوري على بعد ثمانية أميال من الحدود الأردنية كانت القارعة التي أفزعت غطرسة النظام السوري على مدار أربعة عقود، فكانت أُولَى المحافظات السورية التي خرجت منها قوات النظام مع انطلاق الثورة السورية، وعادت إليها في يوليو 2018م بموجب تسوية (مصالحة) تمت بإشراف روسي. وبموجب ذلك الاتفاق غادر كثير من السكان إلى شمال سوريا في حين خضع البقية - ويقدر تعدادهم بــ 40 ألف نسمة - تحت سيطرة الأجهزة الأمنية التابعة للنظام بإشراف روسي.
أزمة درعا الحقيقية تكمن في موقعها الجغرافي لذلك لا تنجح أي تسوية لا تمكِّن الميليشيات الإيرانية من السيطرة على كامل ترامب الجنوب السوري، لاعتبارات تتعلق بالموقع الإستراتيجي للمحافظة سواء لقربها من فلسطين المحتلة أم لقربها من الأردن، وهذا الأمر يجعل تلك الميليشيات تسعى إلى فرض نقاط توتر تهدد المنطقة بأسرها.
هناك ثلاثة أطراف متصارعة في درعا: أولها اللجنة المركزية التي تمثل نشطاء الثورة السابقين والفاعلين في المجتمع المدني، والتي تم تشكيلها لتمثيل السكان في المفاوضات مع الجانب الروسي عام 2018م.
وكذلك قوات الفيلق الثامن وهي عبارة عن عناصر من الجيش السوري الحر الذين تصالحوا مع النظام وأصبحوا جزءاً منه يعملون بإشراف روسي.
والطرف الثالث هم عناصر النظام وينقسمون إلى قسمين، قسم تمثله الميليشيات الإيرانية وقسم آخر يسيطر عليه النظام.
اندلعت جولة الاشتباكات الأخيرة بين الطرفين عقب فشل النظام في إجراء الانتخابات الرئاسية في مايو الماضي في المحافظة إثر خروج السكان إلى الشوارع في مظاهرات احتجاجاً على إجرائها، وفي يوم انعقاد الانتخابات اضطر النظام إلى إجرائها في مبنى فرقة البعث بمدينة نوى وسط الساحة الأمنية التي يحميها عناصر النظام. عقب هذا الفشل أقدمت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد على فرض حصار مشدَّد في أواخر يونيو على المدينة وقطعت الطرق المؤدية إلى (درعا البلد) ومنعت دخول المواد الغذائية والأدوية ودخول المدنيين وخروجهم واكتفى النظام بفتح مسار واحد تحت سيطرة الأمن العسكري وميليشيا مصطفى القاسم للسماح لمن يريد النزوح من المدينة بالخروج.
رغم سيطرة النظام على درعا منذ عام 2018م إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى ثلاث مناطق نفوذ في المحافظة: أولها (درعا البلد) التي تعدُّ مركز المفاوضات بين المعارضة والنظام وتخضع لإشراف روسي، كما أنها منطقة حافظ النظام فيها على وجوده المؤسسي لكنه خسر الوجود الأمني.
أما المنطقة الثانية فهي تخضع كاملة لنفوذ النظام مثل بُصرى الحرير وصيدا والبلدات المجاورة.
أما منطقة النفوذ الثالثة فهي بلدات سيطر عليها النظام دون اتفاق مثل داعل وإنخل والحارة.
حتى كتابة هذه السطور كانت المفاوضات قد بلغت طريقاً مسدوداً بالتزامن مع حشود عسكرية في محيط درعا أبرزها للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، ويتخلل فترة التوتر تلك اشتباكات متقطعة حقق خلالها الجيش الحر والمعارضون انتصارات ميدانية بمهاجمة مسلحي النظام على حواجز التفتيش، وهذا الأمر عززه على ما يبدو عدم رغبة روسيا في توفير غطاء جوي لعمليات النظام الأمنية خشية تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة وهي منطقة ذات أولوية بالنسبة للتفاهمات (الأردنية الصهيونية الأمريكية)، والتفاهمات (الروسية التركية).
وترفض اللجنة المركزية خريطة الطريق التي تنص على تسليم الأسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة على أن يتم بعد ذلك إجراء (تسوية أمنية للمسلحين)، ويتمركز نشاط المسلحين المعارضين للنظام في الريفين الغربي والجنوبي، وتنقسم درعا بين (درعا البلد) في الجنوب وهي مركز الاحتجاجات، و (درعا المحطة) حيث ينتشر فيها النظام والقوات الإيرانية.
خلال مسار الثورة السورية تغلغل التأثير الإيراني داخل الأجهزة الأمنية السورية، وبرز ذلك بشكل واضح في درعا؛ إذ إن المخابرات الجوية والفرقة الرابعة تعيقان التوصل إلى اتفاق دائمٍ في درعا. أما روسيا والمخابرات العسكرية فلا يريدان استمرار التوتر في المحافظة. وقد نجحت إيران خلال السنوات الماضية في توسيع نفوذها في الجنوب السوري وأقامت مواقع عسكرية إستراتيجية؛ لذلك يعد تأخر التوصل إلى تسوية أبرز علامات فشل الروس في احتواء النفوذ الإيراني هناك، وتسعى إيران إلى استغلال اتفاقيات المصالحة كما حدث في مدينة الصنمين إذ جرى ترحيل كثير من السكان باتجاه الشمال بغرض التأثير على التوزيع الديموغرافي للمواطنين السُّنة في المنطقة، وتعزيز وجود الأقلية الشيعية وهي أقلية نسبتها ضئيلة جداً في درعا يجري تعزيز قوَّتها منذ اتفاق المصالحة عام 2018م.
قد يكون الاتفاق على تسوية من مصلحة روسيا لعدم صنع أزمة لجوء جديدة إلى الأردن أو توتر مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن الأمر يقترن أيضاً بتعزيز سيطرة إيران على المنطقة وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة و (إسرائيل) وعلى الأرجح لا ترغب به الأردن، لأنه على المدى الطويل سيوفر غطاء لوجود مستوطنة شيعية في تلك المنطقة يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني وتصنع لهما توتراً دائماً.
وتعمل إيران في درعا منذ سنوات عبر منظمات تعمل بغطاء مدني مثل (جمعية الزهراء) التي تأسست عقب زيارة ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي في سوريا (أبو الفضل الطباطبائي)، و (جمعية أحباب القائد الخالد) و (جمعية تموز) وجميعها تتلقَّى الدعم المفتوح من مكتب الخامنئي والمستشارية الإيرانية في العاصمة دمشق، وتقدِّم بين آونة وأخرى سلالاً غذائية وتمول مشاريع صغيرة، وتتوسط أحياناً لدى فروع أمن النظام لحل بعض المشاكل البسيطة، ولتوسيع نفوذها أكثر سهَّلت تشكيل (حزب الشعب) الذي أسَّسه عضو (مجلس الشعب) (نواف عبد العزيز طراد الملحم)، ووَفْقاً لتقرير نشره موقع (زمن الوصل) فقد قامت إيران بإنشاء ما يُعرَف بــ (حزب الله السوري)، بالإضافة إلى تركيز ميليشيات إيران على شراء العقارات في محافظة درعا. كما تنتشر ميليشيات الحرس الثوري الإيراني في مدينة (الصنمين) داخل مقرات الفرقة التاسعة التابعة لجيش النظام التي تتخذ من مقراتها مراكز للتدريب العسكري، وكذلك حزب الله اللبناني بقيادة إياد القاسم الذي افتتح مكاتب للتجنيد في حي المحطة وسط درعا، ووَفْقاً لشهادات سكان المنطقة فإن الأطماع الإيرانية في درعا ظهرت منذ عام 2005م حينما بدأت بنشر التشيع لكن في الآونة الأخيرة بدأت مديرية أوقاف درعا بتقديم التسهيلات للمراجع الشيعة في المحافظة.
الخلاصة في هذا الأمر، هي أن الوساطة الروسية غير النزيهة هدفها تعزيز سيطرة النظام على جميع الأراضي السورية، لكنها تصطدم بتأثير النفوذ الإيراني على النظام وصدام إيران مع الدولة العبرية؛ لذلك على المدى البعيد لن ترفض روسيا هجوم قوات النظام على درعا البلد لكن لكونها بلدة حدودية فإن ذلك يستدعي حذراً روسياً في التعامل مع هذا الملف، وقد يفسر عدم قيام روسيا حتى اللحظة بتنفيذ طلعات جوية للتغطية الميدانية على الهجمات التي ينفِّذها النظام، محاولة لتوفير مساحة للتفاوض والقبول بتسوية تمكِّنها من تجنب أزمة إنسانية تؤثر على جانبي الحدود، وخاصة أن تقارير أمريكية أفادت مؤخراً أن روسيا ساعدت النظام السوري في التصدي لغارات جوية صهيونية على الأراضي السورية وهي المرة الأولى منذ بداية الانتفاضة السورية.