ممنوعات6: أبدا ما ربيتُك لأجل منفعتي الخاصة: {لا نُرِيدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شُكُورًا}

أسماء محمد لبيب

فهدفنا اليوم هو فطامُ النفس ومنعُها من التطلع لأي شكر أو جزاء أو مصلحة تعوق تخليصِ نيتنا لله في التربية، من خلال تفعيلِ الممنوعِ الشاملِ المذكور في قوله تعالى:{لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا}

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -

تكلمنا في الممنوعِ الثاني والثالثِ عن بعضِ دوافعِ دعاءِ الأم على ولدِها، وكان من أبرزِها: سيطرةُ رغبتِها في الثأرِ لنفسها، على أمومتِها تجاه ولدها.

ومن أقوى أسبابِ انجرارِ الأمِّ لذلك أحيانًا: تربيتُهم لأجلِ المنفعةِ الدنيويةِ الخاصة، التي حين يخفقون في تلبيتِها يَسقُطُون من نظرنا، ويقعون في مَرمَى طلقاتِنا وربما بصورِ غَضَبٍ وغِلٍّ تتعارضُ مع الأمومةِ مَضرِبِ المَثَلِ في المرحمةِ الكونية..

وقد يسألُ سائلٌ: ألم يمدحِ اللهُ عبادَ الرحمنِ قائلًا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]؟ والجواب: نعم.. لكنِ المقصودُ وفقَ سياقِ الآيات: ((قرةُ عينٍ وسرورٌ وأُنسٌ بصلاحِهم..))، لا كما يظن الناسُ: ((قرة عينٍ بشأنِهم الدنيوي..))..
وتأملوا ختامَ دعائِهم في آخرِ الآية: {واجعلنا للمتقين إمامًا}..

قال السعدي في تفسير [قرةَ أعين]: ((وإذا تأمَّلنا حالَهم وصفاتِهم عرفنا مِن هِمَمِهم وعلوِّ مرتبتِهم أنهم لا تَقَرُّ أعينُهم حتى يَروا أولادَهم مطيعين لربِهم عالمين عاملين.. وكما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه ((دعاء لأنفسِهم)) لأن نفعَه يعودُ عليهم، بل يعود إلى نفعِ عمومِ المسلمين))-بتصرف

وسؤالُنا اليوم: كيف يمكنُنا تحقيقُ القاعدةِ التي ذكرناها في مقالةِ "النية من التربية"..: {ني نذرتُ ((لك)) ما في بطني}..؟
كيف نحققُ الإخلاصَ للهِ في الإنجاب؟

والإجابةُ بأمرين: تكسيرُ موانعِ الإخلاص// وتكثيرُ دوافعِ الإخلاص.

واليومَ نناقشُ: ((تكسيرُ موانعِ الإخلاص))...

المانعُ الأولُ: طاعتُنا وإرضاؤُنا لأولادِنا على حسابِ الشرع..
(وفصلناه في مقالاتِ الممنوع الأولِ بعنوان [[أبدا ما عصيتُ الله لأرضيك": {واحذرهم أن يفتنوك}..]]... وملخصه: "فتنةُ الميلِ إلى رغباتِ الأبناءِ على حسابِ رضا الله..)

أما المانع الثاني فهو لبُ حديثِنا اليوم: ((لهاثُنا وراءَ حظوظِ أنفسِنا من الإنجاب..))
فتنعقدُ نياتُنا من الإنجاب على نوايا تخدُم حظَّ النفس، سواءٌ بما يخالفُ الشرعَ أو لا يخالفُه.

1 فمنا من تنجبُ لأجل منفعةٍ خاصة بما لا يخالفُ الشرع: (كأن أنجبُ لأتمتعَ ببراءةِ الأطفالِ وجمالِهم، ومشاعرِ الأمومةِ مثلا، وإعانتِي في الكِبَر)..
2 ومنا من يفعلُ ذلك بما يخالفُ الشرع: (كأن أُنجِبَ لأتباهَى بأبنائي أمامَ الناسِ، أو أغيظَ فلانةً العقيمَ مثلا)..

فالأُولى مباحةٌ شرعًا، لكننا لا نؤجَرُ عليها..

لكِنِ الثانيةُ معصيةٌ نُؤزَرُ عليها.. 

كحالِ الوليدِ بنِ المغيرةِ.. قال الله عنه: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:12-14]
شُهودًا أي لا يفارقونه أبدًا لا سفر ولا إقامة، يتقوَّى بهم ويُرهِبُ بهم أعداءَه...
أي: سَخَّرَهُم لمنفعتِه الخاصة...
{ثمَّ يَطمعُ أن أزيد}..! فلا يَكتفِي، نتيجةً لتضخمِ قيمةِ "منفعتِه الخاصةِ وحظِّ نفسِه"..
حتى إذا جاء الإسلامُ، استعملَهم في محاربةِ الدين.. فذَمَّهُ اللهُ كما لم يَذُمَّ أحدًا..
نعم.. قد تقودُ عبوديةُ المنفعةِ الخاصةِ إلى هاويةِ الاستغناءِ، كما قال الله: {أنْ رآهُ استغنَى}..

تتعجبون؟
أما تَذكُرون العربَ في الجاهلية كيف يَسوَدُّ وجهُ أحدِهم إذا بُشِّرَ بالأنثى، فلماذا؟
مِن الأسبابِ: أنه سيضطرُ للإنفاقِ عليها لأنها لا تعملُ ولا تساعدُه في مهامِّ الرجال.. وتضخَمَتْ لديهم قيمةُ المنفعةِ الخاصةِ وحظِّ النفسِ مِن الذريةِ، إلى مرحلةِ "وأدِ البنات"...

رأيتم حين تختلُ النيةُ وتطغَى المصالحُ الضيقةُ على سموِّ الغايات، كيفَ قد تنتهي بنا الطريقُ إن أمِنَّا الفتنةَ ولم نحاسِبْ أنفسَنا ونُصححِ المسارَ؟

ولذلك، صِرنا نرى أمًا تَضرِبُ ولدَها وتعنفه لعدمِ حصولِه على الدرجةِ النهائيةِ مثلَ أقرانِه، أو لرفضِهِ الذهابَ لبطولةٍ رياضيةٍ مشهودة، وتَضَعُ قوانينَ صارمةً لإشباعِ منافعِها مِن إنجابِه، مهما أهلكَهُ ذلك..
ويُضاعِفُ من بشاعة فِعلِها، حينَ يَظهَرُ التغافلُ واللينُ فقط عندَ حقوقِ الله..

وأُمًا أخرَى، لا تختالُ بالذريةِ لكنَّها قد تُعَنِّفُ ولدَها لرفضِه مساعدتِها في ترتيبِ البيتِ، بينما لو رفضَ القيامَ لصلاةِ الفجر مثلا تقولُ "لا عليكَ اجمعْها مع الظهر"!.. أو لو غَشَّ في الامتحان فلا تبالي..

وسمعنا عمن قتلوا أولادَهم أو تسببوا لهم في عاهاتٍ مستديمة، في مثل ذلك..

 

لذلك، أنذرَنا اللهُ من طغيانِ باعِثِ المنفعةِ الخاصةِ مِن الذرية وغيرها، لأنه يُلهِي عن الغايةِ الأسمَى: {إني نذرتُ لكُ ما في بطني}، حين قال: {ألهاكمُ التكاثُرُ* حتى زُرتُم المقابر}..  والآيةُ ليست خاصةً فقط بالتكاثر والتفاخر بالأولاد.. فكلُها منظومةٌ واحدةٌ مترابطةٌ: {للهِ ربِّ العالمين..}
 

وقد تقولُ إحداكُن:
فما المشكلةُ أن أبتغِي بالإنجابِ منفعةً خاصةً ولا أخالفُ الشرعَ في نيتِي، فأفقدُ فقط الأجرَ ولا آثمُ بالوِزر؟

 

والجواب:
رغم أنه لا حرج على من لم يقصدْ إلا قضاءَ شهوتِه وحاجتِه والتمتعَ بالمباح، ما دام الأمرُ لا يخالفُ الشرعَ، فلا يأثمُ بمجردِ فعله وكذلك ليس له أجرٌ بمجردِ فِعلِه،

إلا أننا نحذِّرُ من التساهُلِ في حظِّ النفسِ هذا لعدةِ أسباب:

 

أولًا: لأنه بوابةٌ للتحولِ للجانبِ الذي فيه وِزر.. والشريعةُ علمتْنا أنَّ سدَّ الذرائعِ بوابةٌ النجاة.. والدنيا دارُ امتحان.. والأولادُ فتنة: {إنَّما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ}.. فلابد أن نُمتَحَنَ في الإخلاص.. لذلك قال الله في ختام الآية: {واللهُ عندَه أجرٌ عظيم..}.. ثم أعقبَها بالآيةِ: {فاتقوا اللهَ ما استطعتُم واسمَعُوا وأطِيعُوا}..
 ورُبَّ نيةٍ أورثَتْ شِركًا والعِياذُ بالله، قال اللهُ في الحديثِ القُدسِي:
«أنا أغنى الشُّرَكاءِ عنِ الشِّرْكِ.. من عَمِلَ عملًا أشرَكَ مَعِي فيهِ غَيري فأنا بريءٌ منْهُ -أي لا أقبلُه فلا يَصِلُ إليَّ- وَهوَ كلُّه للَّذي أشرَكَه»[1]

ثانيا: ابتغاءُ العملِ لوجهِ اللهِ يَجعَلُ فيهِ البركةَ والتوفيق.. فمن تتركُه، فلا تندِبْ قلةَ نَصيبِها من بَركَةِ الذريةِ والتوفيقِ في سعِيها..

ثالثا: قد تغنمينَ بنيتِكِ الخالصةِ لربِكِ، ثمراتِ أمهَرِ المُرَبِّين، رُغمَ تواضُعِ أدواتِ سَعيِكِ.. النيةُ تَسبِقُ.. فاعمَلِي بذَكاء..

رابعًا: ألا تريدين أن تغنمي أعلَى درجاتِ الجنةِ بكلِ حسنةٍ تستطيعينَ اقتناصَها، كي تتمكني من رفعِ أبنائِكِ مَعَكِ إليها بإذن الله، الذين عجَزَتْ أعمالُهم عنها وطالما تمنيتِ لهم تلك الدرجات....؟ كما قلنا في قاعدة
 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور:21]

وليس معنى الكلامِ أن نَكرَه المنافعَ من أبنائِنا أو لا نفرحَ بفضلِ اللهِ فيهم.. فتكثيرُ عددِ الأولادِ نعمةٌ أرشدَنا اللهُ لشكرِها حين قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}[الأعراف:86] وحين قال: { {ويُمدِدْكُمْ بأموالٍ وبنينَ}[نوح:12]  كمكافأةٍ بعد استغفارِنا.. ولكنها نعمةٌ بحسبِ نيةِ الشخصِ من العددِ.. كما قال اللهُ: {وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...}[الأعراف:6-7]

فالكلامُ عن ابتداءِ الباعثِ والنيةِ والقصدِ، وخطورةِ الالتهاءِ بذلك عن الغايةِ الكبرى..
فنتذكرُ دومًا أنهم زينةٌ لا أكثر.. ويظنُ البعضُ كذلكَ أن كلمةَ "زينة" هي مدحٌ للأبناءِ، بينما هي تحذيرٌ من التمتعِ بهم ونسيانُ اغتنامِ الأجر، فالزينةُ فانيةٌ، بينما الذي يبقَى هو ما احتسبنا أجرَه من الله..

قال السعدي في تفسير:
{ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا} [الكهف:46]: أي ليس وراءَ ذلك شيءٌ، والذي يبقَى للإنسان وينفعُه ويَسُرُّه: الباقياتُ الصالحات.. وتأمل كيف ذكرَ اللهُ أن الدنيا فيها نوعان: نوعٌ هو من زينتِها، يُتمتَعُ به قليلًا ثم يزولُ بلا فائدة تَعودُ لصاحبه بل ربما لَحِقَتْهُ مَضَرَّتُه: ((وهو المال والبنون))... // ونوعٌ يبقَى وينفعُ صاحبَه على الدوامِ، وهو: ((الباقيات الصالحات))..]].(بتصرف)

ولهذا قال سفيانُ الثورِيُّ: "ما عالَجتُ شيئاً علَيَّ أشدَّ من نيتي، إنها تتقَلَّبُ عَلَيَّ..!!"

وما أبريءُ نفسي فالأمرُ حقًا صعبٌ ولكنه يسيرٌ على من استعانَ بربه..
بخاصةٍ الجانبُ المباحُ الذي بلا وِزر، لا ننتبهُ له لشدةِ خفائِه في القلبِ وعفويتِه واعتبارِ غالبيةِ الناسِ الإنجابَ ضمنَ المباحاتِ والمتاعِ فقط لا العباداتِ والطاعات..

فهدفنا اليوم هو فطامُ النفس ومنعُها من التطلع لأي شكر أو جزاء أو مصلحة تعوق تخليصِ نيتنا لله في التربية، من خلال تفعيلِ الممنوعِ الشاملِ المذكور في قوله تعالى:{ما نريد منكم جزاءً ولا شكورًا}

ولكي نمسكَ بتلابيبِ النيةِ من بدايتِها لنتمكنَ مِن مقاصِدِنا بحولِ الله، تعالَوا نتتبعْ مؤشراتِ المنفعةِ الخاصةِ وتفاوتِ مراتبِها بداخلنا.. فمنا من تختلطُ عليه النيةُ ابتداءً قبل الإنجابِ أصلًا، ومنا من ربما بدأ بنيةٍ خالصةٍ لوجهِ الله، ثم تتحولُ نيتُه في المنتصَف..

وتفاصيلُ ذلك بالأمثلةِ وطرقِ الوقاية، في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..


هوامش:

1*معنى "أنا بريء منه": أي لا أقبله فلا يصل إليّ

*الحديث بكل روياته الصحيحة