بعض المخالفات الشرعية

لا تكفي النيَّة الطيّبة في إرادة الخير، فالأخطاء أخطاء وإن كانت النية حسنة، كما قال ابن مسعود: "كم من مُريد للخير لن يصيبه"

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - - آفاق الشريعة -

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد:

عن حذيفة بن اليَمان، قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافةَ أن يدركني؛ (رواه البخاري ومسلم)، فإذا عرف الخطأ كان هذا مَظنة تجنبه والبعد عنه، ولا تكفي النيَّة الطيّبة في إرادة الخير، فالأخطاء أخطاء وإن كانت النية حسنة، كما قال ابن مسعود: "كم من مُريد للخير لن يصيبه"، وفي هذه الخُطبة أذكر بعض المخالفات الشرعية التي يقعُ فيها البعض؛ إمَّا لعدم علمه بأن هذه مخالفة، بل ربما ظنَّ أن هذه المخالفة قُربة وطاعة.

 

فمِن الأخطاء ظن البعض أن الوصيَّة مُستحبة دائمًا للغني والفقير، وهذا خلاف السُّنة وخلاف رأي السلف، فلا تُستحب الوصية إلا إذا كان مال الشخص كثيرًا، أو الورثة أغنياء عن مال مُورِّثهم، فالورثة المحتاجون أولى بمال مورثهم؛ فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه –: «إنَّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»  (رواه البخاري (2742)، ومسلم (1628)، وعن عائشة أنَّها قال لها رجلٌ: إنَّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: فإنَّ الله يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180]، وإنَّه شيء يسير، فدعه لعيالك، فإنَّه أفضل؛ رواه ابن أبي شيبة (30946)، بإسناد صحيح.

 

فيُستحبُّ ترك الوصية بالمال إذا كان مال الموروث قليلاً وكان الورثة محتاجين، فيثاب إذا تركهم أغنياء، فهي صدقة وصِلة.

 

و من الوصية عندنا أن يوصي البعض ببعض ماله كالثلث يجعل في عَقار ورِيعه للمحتاج من أولاده، وهذا وقف موقوف على الوفاة، وليس بوصية على الصحيح، والملاحظ على بعض الأوقاف أنها تتعطَّل بعد فترة؛ لتشعُّبِ الورثة واختلافهم أحيانًا، ولبعض الإجراءات الرسمية أحيانًا، ثم إنها في بعض الأحيان سبب للنزاع بين ورثة الموصي وسبب للتقاطع والخصومة، فالكلُّ يدَّعي أنه أولى بغَلَّة الوقف من بقية الورثة.

 

فالأولى إن كان مالك كثيرًا، أو كان ورثتك غير محتاجين أن تجعل وقفك في جهة خيرية؛ كالوقف على الجمعيات الخيرية، أو دور تحفيظ القرآن، أو على العلم أو الدعوة أو غير ذلك من وجوه الخير، وإن كان مالك قليلاً وكان ورثتك محتاجين، فلا توقفْ واترك المال كلَّه لهم ورغِّبهم في الإحسان إليك بعد وفاتك.

 

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في  "نور البصائر" ص 36: "لا عبرة بما اعتاده جمهور الناس من حصر الوصية على الأولاد، ثم على أولاد البنين فقط، فإنَّ هذا خلاف الشرع وخلاف العقل، وقد أضرَّ بنفسه وبهم؛ إذ تسبب إحداث البغضاء والعداوة بينهم والاتِّكال عليها والكسل.

 

بعض الآباء يجعل وقفه على المحتاج من الورثة، فمن الأخطاء أن يطالب جميع الأولاد ناظرَ الوقف بنصيبهم من الغَلَّة بحُجَّة أنه وقف مورثهم، فإذا جعله الموقِف على المحتاج، فيختص بالمحتاج ويَحرم على المستغني عنه من الذكور والإناث الأخذ منه، فالوقف ليس إرثًا يوزع بينهم للذَّكر مثل حظ الأنثيين، إنما هو على شرط الواقف، فإذا خصَّه بالمحتاج، فمن اغتنى عنه حُرِّم عليه أخذه وصُرف إلى غيره، وكذلك لو جعل بعضه على باب من أبواب الخير، يجب تنفيذه، ومن ذلك حينما يطلب الأب أن يضحِّي من وقفه، فيعمد بعض ناظري الوقف إلى التضحية خارج المملكة بحثًا عن الرُّخص؛ ليوفر جزءًا من المال؛ لينتفع به هو أو الورثة، فيحرم عليه ذلك، إلا لو أوصى بالتضحية بالخارج.

 

ومن الأخطاء حينما يحلُّ بالشخص مكروه كمرض أو إعسار، أو يرجو خيرًا كالوظيفة والزواج يَنذرُ إن ارتفع هذا المكروه أو حصل هذا المحبوب، ينذر صيامًا أو صدقة أو غير ذلك من القُرَب، ويظنُّ أن هذا النذر حَسَنٌ، أو أن له دورًا في جلب المحبوب ودفع المكروه ورفعه، وهذه كلُّها أخطاء، فالنذر في هذه الحال مكروه؛ فعن ابن عمر، قال: نَهَى اَلنَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عَن اَلنَّذْرِ، وَقَالَ: إنَّهُ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اَلْبَخِيلِ؛ رواه البخاري (6608)، ومسلم (1639)، واللفظ له، فالناذر قد يُلزم نفسه بشيء يشقُّ عليه الوفاء به، فيبحث بعد ذلك عن مَخرجٍ، وهذا مُشاهد من بعض الناذرين، وأيضًا يجعل الخير الذي يبذله مقابل منفعة، فلا يتطوع بالخير ابتداءً، فيجعل القُربة كعقد المعاوضات.

 

ومن الأخطاء ذهاب المطلَّقة طلاقًا رجعيًّا إلى بيت أهلها بعد الطلاق وقبل انقضاء العِدَّة، فبمجرد الطلاق تأخذ حوائجها، ثم تذهب إلى أهلها، فيحرم على الزوج إخراجها من البيت من غير سبب شرعي ما دامت في العدة، ويحرم عليها الخروج من البيت من غير عذر؛ يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، فالمطلقة طلاقًا رجعيًّا ما دامت في العدة، فهي زوجة، لها حكم الزوجات، فتجب لها النفقة والسكنى ويتوارثان في العدة، وبقاؤها في البيت مَظنة مراجعة الزوج لها؛ {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، فيشرع لها بذل الأسباب التي تدعو الزوج لمراجعتها من تجمُّل وغيره، فتبقى الرجعية في بيتها، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها مُطلِّقُها بانت منه بينونة صغرى، وأصبحت مُحرَّمة عليه، لا تحلُّ له إلا بعقد جديد، فتخرج من البيت.

 

و من الأخطاء تأخير الصلاة على الجنازة ودفنها؛ لأجل حضور بعض أقاربه من أماكنهم البعيدة، فالسُّنة المبادرة في تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً، فخيرٌ تقدمونها عليه، وإن تكن غير ذلك، فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» ؛ رواه البخاري (1315)، ومسلم (944)، فإذا كان التأخر في حمل الجنازة - وهو وقت يسير - مَنهيٌّ عنه، فتأخيرها الوقت الطويل من باب أولى وفيه جناية على المتوفى أحيانًا، فليبادر في الصلاة على الجنازة، ومن لم يستطع الصلاة عليها لبعده، يُصلِّي على القبر إذا حضر.

 

ومن الأخطاء في الجنائز: الاجتماع للتعزية، وربما نُصبتْ خيام؛ لتسع المعزِّين واستؤجِرت الكراسي لذلك، وكلُّ ذلك خِلاف هَدي النبي وخلاف هدي أصحابه؛ فعن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنَّا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعَةَ الطعام من النِّياحة؛ رواه ابن ماجه (1612)، ورواته ثِقات، وصحَّحه جمع من أهل العلم؛ منهم النوويُّ في المجموع (5/320)، والقرطبيُّ في التذكرة (1/175).

 

فالسُّنة أن ينصرفَ أولياء المتوفى في حوائجهم وأعمالهم المعتادة، وأن لا يجلسوا لاستقبال المعزِّين، فمن صادفهم في العمل أو المسجد أو الشارع عزَّاهم أو اتصل بهم بالهاتف.

 

قال ابن القيِّم في "زاد المعاد" (1/527): "لم يكن من هَديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة" ا.هـ.

 

بخلاف النساء، فيجوز اجتماعهن؛ لأن المرأة لا تخرج من البيت ولا تُرى في الأماكن العامَّة، فيشقُّ على المعزِّيات الذهاب لكلِّ خاصَّة المتوفى من النساء؛ فعن عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقْنَ إلا أهلَها وخاصَّتَها، أمرت ببُرمَة من تَلْبِينَة، فطبخت ثم صنع ثريد، فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «التلبينة مَجَمَّة لفؤاد المريض تَذهبُ ببعض الحُزْن» ؛ رواه البخاري (5417)، ومسلم (2216).

 

فالسُّنة وردت في صنع طعام خاص بأهل المصاب؛ لأن المصيبة تشغلهم عن تجهيز الطعام؛ فعن عبدالله بن جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر - رضي الله عنه - قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم –: «اصنعوا لأهل جعفر طعامًا، فإنَّه قد جاءهم ما يشغلهم» ؛ رواه أحمد (1754)، وغيره بإسناده حسن إن شاء الله.

 

أما اجتماع المعزِّين على الطعام يُغدَى عليهم بصحاف، ويراح عليهم بصحاف فيها ما لذَّ من الأطعمة، فربما لا يعرف الغريب هل هذا فرح أم ترح؟ فهذا خلاف السُّنة.

 

و من الأخطاء لبسُ ملابسَ رياضيَّة أو غيرها فيها تعظيم لغير المسلمين، كلبس ملابس رياضيَّة لبعض الأندية النصرانيَّة تحمل أسماء لاعبين غيرَ مسلمين تعظيمًا لهم، وُجِّه سؤال للَّجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم لبس الملابس الرياضية التي تحمل شعارات خاصة بالكفار، مثل: الفانلات الرياضية التي عليها شعارات إيطاليا أو ألمانيا أو أمريكا، أو التي مكتوب عليها أسماء بعض اللاعبين الكفار؟

 

فكان جواب اللجنة: "الملابس التي تحمل شعارات الكفار فيها تفصيل كما يلي:

1 - إن كانت هذه الشعارات ترمز إلى ديانات الكفار، كالصليب ونحوه، ففي هذه الحالة لا يجوز استيراد هذه الملابس ولا بيعها ولا لبسها.

2 - إن كانت هذه الشعارات ترمز إلى تعظيم أحد من الكفار بوضع صورته أو كتابة اسمه، ونحو ذلك، فهي – أيضًا -  حرام كمـا سبق.

3 - إذا كانت هـذه الشـعارات لا ترمـز إلى عبـادة ولا تعظيم شخص،  وإنما هي علامات تجارية مباحة، وهي ما يُسمَّى بالماركات - فلا بأس بها"؛ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، الفتوى رقم (16585).

 

فلبس ملابس الكفار تعظيمًا لهم يخلُّ بما افترضه الله علينا من البراءة من الكفار، ومحبَّة البلاد أمر فطري فيتربى الشابُّ على تقديم بعض البلاد على بلده، وهذا يأنف منه غير المسلم بدافع وطني، فالمسلم أولى بتلك الأنفة.