المساواة بين الرجل والمرأة في التعليم
سوَّى الإسلامُ بين الرجل والمرأة في حق التعليم والثقافة، فأعطى المرأة الحقَّ نفسه الذي أعطاه للرجل في هذه الشؤون، وأباح لها أن تَحصُل على ما تشاء الحصول عليه من علمٍ وأدب وثقافة وتهذيب...
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - الإسلام والعلم -
سوَّى الإسلامُ بين الرجل والمرأة في حق التعليم والثقافة، فأعطى المرأة الحقَّ نفسه الذي أعطاه للرجل في هذه الشؤون، وأباح لها أن تَحصُل على ما تشاء الحصول عليه من علمٍ وأدب وثقافة وتهذيب، بل إنه ليُوجِب عليها ذلك في الحدود اللازمة لوقوفها على أمور دِينها وحُسْن قيامها بوظائفها في الحياة، وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم النساءَ على طلب العلم، وجعله فريضة عليهن في هذه الحدود، فقال عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» [1]، وفي رواية بها ضَعْف: «ومسلمة»، ولكن كلمة مسلم فيها الغناء عنها؛ لأنها إذا أُطلِقت شمِلت الذَّكرَ والأنثى، كما هو في عموم الآيات والأحاديث.
ولا يُفرِّق الإسلامُ في حق التعليم والثقافة بين الحرة والأَمَة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَحُث على تعليم الحرَّة ولم يُرغِّب في تثقيفها بمقدار ما حثَّ على تعليم الأَمَة ورغَّب في تثقيفها وتأديبها؛ فقد روى البخاري في "صحيحه"، عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل كانت عنده وليدة - [أي: جارية] - فعلَّمها فأحسن تعليمَها، وأدَّبَها فأحسن تأديبها، ثم أَعتقها وتزوَّجها، فله أجران» [2]، [3].
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروعَ مثلٍ في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في حقِّ التعلُّم والثقافة، وفي حرْصه على تعليم المرأة وتثقيفها بما فعَله مع زوجه حفصة أم المؤمنين؛ فقد روى البلاذري في كتابه "فتوح البلدان" أن الشفاء العدوية - وهي سيدة من بني عدي رهط عمر بن الخطاب - كانت كاتبة في الجاهلية، وكانت تُعلِّم الفتيات، وأن حفصة بنت عمر أخذت عنها القراءة والكتابة قبل زواجها بالرسول عليه الصلاة والسلام.
ولما تزوَّجها عليه الصلاة والسلام طلب إلى الشفاء العدوية أن تُتابِع تثقيفَها، وأن تُعلِّمها تحسينَ الخط وتزيينه، كما علَّمتها أصلَ الكتابة.
وروى الواقدي أن عائشة وأم سلمة زوجتَي الرسول عليه الصلاة والسلام تعلَّمتا القراءة والكتابة، وأنهما كانتا تقرأان ولكنهما لم تُجيدا الكتابة، وتَدُلُّ الشواهد الكثيرة على أن أبواب التعلم والثقافة بمختلف صُنوفها كانت مُفتَّحة على مصاريعها للبنت العربية منذ عصر بني أمية، وأنه قد نبَغ بفضل ذلك عددٌ كبير من النساء العربيات، وبَرزن في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة وشتى أنواع المعارف والفنون.
بل لقد كانت منهن معلِّمات فضليات تَخرَّج على أيديهن كثير من أعلام الإسلام، فقد ذكر "ابن خلكان" أن السيدة نفيسة[4]، كان لها بمصر مجلس عِلم حضَره الإمام الشافعي نفسه، وسمِع عليها فيه الحديث، وعَدَّ "أبو حيان" بين أساتذته ثلاثة من النساء، هن: مؤنسة الأيوبية بنت المَلِك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، وشامية التيمية، وزينب بنت المؤرِّخ الرحَّالة "عبداللطيف البغدادي" صاحب كتاب "الإفادة والاعتبار"، ويُنبئنا التاريخُ الإسلامي أن فرص التعلم والثقافة كانت متاحة للجواري أنفسهن في أوسع نِطاق في مختلف العصور الإسلامية، وأن هذه الفرص قد آتت ثمراتها الطيبة، فأنشأت آلافًا الجواري المبرزات في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب وشتى أنواع المعارف والفنون، وكتب التاريخ والأدب العربي مملوءة بأخبار هؤلاء الجواري وما بلَغْنَه من شأوٍ بعيد في ميادين العلوم والآداب، وما كان لهن من فضلٍ في النهوض بالثقافة العربية والإسلامية، بل إن هذه الآثار لتدل على أنه قد نبغ من الجواري معلِّمات فضليات تخرَّج على أيديهن كثيرٌ من أعلام الإسلام، فمن ذلك ما رواه المقري في كتابه "نفح الطيب"، أنه كان لابن المطرف اللغوي جارية أخذت عن مولاها النحو واللغة، ولكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض على الأخص، ومن ثَمَّ سميت بالعروضية، وأنها كانت تحفظ عن ظهر قلب كتابي "الكامل"؛ للمبرد، و"الأمالي" لأبي علي القالي، وتشرحهما، وعليها درَس كثير من العلماء هذين الكتابين، وعنها أخذوا العَروض، وذكر ابن خلكان أن "شهدة" الكاتبة - وكانت جارية في الأصل - كان لا يُشَق لها غبار في العلم والأدب والخط الجيد الجميل، وأنه قد سَمِع عليها وأخذ عنها خلْقٌ كثير، ومن هذا يظهر أن الإسلام قد هيَّأ للنساء على العموم فرصًا للتربية الراقية، مَن انتهزها منهنَّ بلغت أعلى المراتب التي قُدِّر للرجال بلوغها، فلم يكن السبب في الجهل الذي كان فاشيًا بين النساء المسلمات في الجيل الماضي راجعًا إلى النُّظم التربويَّة في الإسلام؛ وإنما كان السبب في ذلك انحراف المسلمين عما سنَّه الإسلام من نُظُم في شؤون التربية والتعليم.
وإذا كانت الأمم الإسلامية قد اتَّجهتْ في العصر الحاضر إلى تربية البنت وتثقيفها، فإنها بذلك لم تأتِ بدعًا من العمل في تاريخها، وإنما أحيت سُنَّةً صالحة سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بها الخلفاء والأمراء من بعده[5].
وذكر "البلاذري" في فُتوح البلدان، نساء مسلمات تعلَّمن القراءةَ والكتابة، يبلُغ عدد المعروف منهن نصف عدد المعروف من الرجال والكتَّاب، ولقد بلغ التعلمُ في المجال النسائي حدًّا كبيرًا جعَل النساء يُشارِكن الرجل تَبعة الزحف بالإسلام نحو الخافقين، فعائشة تروي لنا أكثر من مائتين وألفي حديث، وأختها أسماء تروي ستة وخمسين حديثًا، وغيرهما كثيرات تؤخذ عنهن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمثلة كثيرة على النساء العربيات المسلمات اللواتي تعلَّمن القراءة والكتابة والنحو، وروين الحديث، إنهنَّ لم يتعلَّمن فقط، وإنما كن يُعلِّمن غيرهن، وكان ممن درس على النساء بعض مشاهير الرجال، ولقد جذَب ميدان التعليم معظم النساء المسلمات، ولا غرو؛ فقد هيَّأ لهن الإسلام فرصًا للتربية الراقية، من انتهزها منهن بلغت بها أعلى المراتب التي قدر للرجال بلوغها، وكثيرات قد انتهزنها.
كل هذه الآثار تُعطينا ملامح الثقافة التي يمكن أن تخوضها المرأة، وهي التعليم للمرأة في شتى المجالات التي تتَّفِق مع أنوثتها، ويعطي ما يخدُمها في حياتها، ويهديها في أمر دينها ودنياها، وبعبارة أخرى، قال الفقهاء: ما تتعلَّمه المرأة نوعان:
أ- فرض عين: وهو الذي تَصِح به عقيدتها وعبادتها وسلوكها، وتحسن به تدبير منزلها وتربية أولادها، إن كان العُرْف يُلزِم أمثالها التدبير والتربية.
ب- فرض كفاية: وهو ما تحتاج إليه الأُمَّة، ونحن الآن في حاجة إلى طبيبات لأمراض النساء والطفولة يكفين حاجة المجتمع، فلزِم عدد كافٍ من الطبيبات لذلك، وهكذا قُلْ في تمريض النساء، وفي تعليم الفتيات بمدارسهن، وتتعلَّم حضانة الأطفال، ونحو هذا، وكل هذا يحتاج من المرأة أن تتعلَّم وأن تُتقِن مِثلَ هذا، بل إن رعاية البيت من طهي وحياكة، وحضانة، وعلم التغذية، ومبادئ الصحة العامة والوقائية، ودراسة علم نفس الطفل، وقسط من الفنون يساعد على التذوق الفني ويُعين على تنسيق البيت، كل هذا يحتاج الفتاة المتعلمة، أو المرأة المتعلمة، ومِثل هذا من ضروريات الحياة الكثيرة[6]، فمن الذي يحول دون تعليم المرأة؟ أهو الإسلام؟
إن الإسلام وقد أمر بتعليم المرأة، هذَّب هذا التعليمَ؛ ليؤدي لمنفعة، لا ليَجُر إلى مفسدة، فطلب من المرأة أن تتعلَّم ما يتناسب مع أنوثتها، لا ما هو من خصائص الرجال، وطلب منها أن تَلتزِم بأحكام الإسلام في خروجها إلى التعليم، من حجاب وعدم اختلاط، ونحوهما.
[1] رواه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (1: 81)، وفي "الزوائد": "وقد روي من طرق تبلغ رتبة الحسن"، وهو كما قال.
[2] سبق تخريجه.
[3] حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 25) بتصرف.
[4] السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقد ولدت بمكة المكرمة سنة 145هـ، وتوفيت بمصر سنة 208هـ، تزوجت إسحاق بن جعفر الصادق، وكان يُدعى إسحاق المؤتمن، وأنجبت ولدين: القاسم وأم كلثوم.
[5] حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 32 - 34) بتصرف.
[6] المرأة في التصور الإسلامي؛ الشيخ عبدالمتعال الجبري (ص: 55 - 56) بتصرف ط مكتبة وهبة، الخامسة 1401هـ - 1981م.
____________________________________________________
الكاتب: أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي