آفات اللسان (2)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

قال عمر بن عبدالعزيز: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

الخصومة:

وهي أيضاً مذمومة, والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي به مال, أو حق مقصود, وذلك تارة يكون ابتداء, وتارة يكون اعتراضاً.

قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم )»

فإن قلت: إذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه, فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته ؟ فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل, والذي يخاصم بغير علم. فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة, ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً, فإن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر, والخصومة توغر الصدر, وتهيج الغضب, وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه, وبقى الحقد بين المتخاصمين, حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته, ويطلق اللسان في عرضه, فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات, وأقل ما فيه تشويش خاطره, حتى إنه في صلاته, يشتغل بمحاجة خصمه, فلا يبقى الأمر على حد الواجب. فالخصومة مبدأ كل شر, وكذا المراء والجدال, فينبغي إلا يفتح بابه إلا لضرورة, وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة, وذلك متعذر جداً, فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم, ولا تذم خصومته, إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه, لأن عنده ما يكفيه, فيكون تاركاً للأولى, ولا يكون أثماً, نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام, وما ورد فيه من الثواب.

التقعر في الكلام:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون, المتفيهقون, المتشدقون في الكلام )» وقال فاطمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم, يأكلون ألوان الطعام, ويلبسون ألوان الثياب, ويتشدقون في الكلام.)»

وقال عمر رضي الله عنه: شقائق الكلام من شقائق الشيطان.

التقعر في الكلام بالتشدق, وتكلف السجع والفصاحة, كل ذلك من المذموم, ومن التكلف الممقوت...فينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده, ومقصود الكلام التفهيم للغرض, وما وراء ذلك تصنع مذموم, ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير, من غير إفراط أو إغراب, فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها...فلرشاقة اللفظ تأثير فيه, فهو لائق به.  

الفحش وبذاءة اللسان:

وهو مذموم منهي عنه, ومصدره الخبث واللؤم, قال صلى الله عليه وسلم: «( إياكم والفحش, فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي )»

فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة, وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع, وما يتعلق به, فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها, وأهل الصلاح يتحاشون عنها, بل يكنون عنها.

والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء, وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق, وأهل الخبث واللؤم.

المزاح:

وأصله مذموم منهي عنه, إلا قدراً يسيراً يستثنى منه, فإن قلت: المزاح فيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه ؟ فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه, أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه, واللعب مباح, ولكن المواظبة عليه مذمومة, وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك, وكثرة الضحك تميت القلب, وتورث الضغينة في بعض الأحوال, وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو من هذه الأمور فلا يذم, كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «( إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً.)» إلا أن مثله يقدر أن يمزح, ولا يقول إلا حقاً, وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان.

فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه ؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وهو أن تمزح, ولا تقول إلا حقاً, ولا تؤذي قلباً, ولا تفرط فيه, وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك.

الشعر:

الشعر كلامه حسنه حسن, وقبيحه قبيح, إلا أن التجرد له مذموم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه, خير له من أن يمتلئ شعراً.)»

وسئل بعضهم عن شيء من الشعر, فقال: اجعل مكان هذا ذكراً, فإن ذكر الله خير من الشعر. وعلى الجملة فإنشاء الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن فيه كلام مستكره.

اللعن:

إما لحيوان أو جماد أو إنسان, كل ذلك مذموم, قال صلى الله عليه وسلم : « ( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم )» واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى, وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل, وهو الكفر والظلم, بأن يقول: لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين.

السب:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( سباب المؤمن فسوق, وقتاله كفر ) » وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني, فقال: ( عليك بتقوى الله, وإن أمرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك, فلا تعيره بشيء فيه, يكن وباله عليه, وأجره لك, ولا تسبن شيئاً ) قال: فما سببت شيئاً بعد.

السخرية والاستهزاء:

وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى: {( أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن)} [الحجرات:11] ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير, والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه, وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول, وقد يكون بالإشارة والإيماء.

إفشاء السر:

وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف, قال عليه الصلاة والسلام: «( إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة ) » وهو حرام إذا كان فيه إضرار, ولؤم إن لم يكن فيه إضرار. قال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك.

الوعد الكاذب:

فإن اللسان سباق إلى الوعد, ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء, فيصير الوعد خلفاً, وذلك من أمارات النفاق, قال الله تعالى: «( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود  )» [المائدة:1] وكان ابن مسعود لا يعد وعداً, إلا ويقول: إن شاء الله. وهو الأولى.

ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بدَّ من الوفاء إلا أن يتعذر, فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي, فهذا هو النفاق, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أربع من كن فيه كان منافقاً, ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها, إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر )» وهذا ينزل على عزم الخلف, أو ترك الوفاء من غير عذر.

الكذب في القول واليمين:

وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )»

وقال صلى الله عليه وسلم «( إن التجار هم الفجار ) فقيل: يا رسول الله, أليس الله قد أحل البيع ؟ قال: ( نعم, ولكنهم يحلفون فيأثمون, ويحدثون فيكذبون ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يحدث فيكذب, ليضحك به القوم, ويل له, ويل له ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق, لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان )»

قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله: اللسان الكذوب.

قال عمر بن عبدالعزيز: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

                  كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ