الشخصية الأمريكية -2

خالد سعد النجار

يقول الفيلسوف الأمريكي رالف والدو: "إن المجتمع في كل مكان يتآمر على رجولة كل فرد من أفراد هذا المجتمع، وكل من يريد أن يصبح رجلا لابد أن لا يقبل الاندماج"

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

{بسم الله الرحمن الرحيم}

 

 

"أمريكا .. ذلك المزيج العجيب من التناقض والتميز والفساد أيضا. الشخصية الأمريكية ليست شخصية بسيطة أو سطحية، إنها خليط من المتناقضات التي ساهمت في مدنية العالم، وفي شقاء كثير من الشعوب ومعاناتها أيضا" .. بهذه العبارات الموجزة افتتح د. باسم خفاجي كتابه الرائع «الشخصية الأمريكية، وصناعة القرار السياسي الأمريكي» واستهله بقوله: ويهدف هذا الكتاب إلى معرفة ملامح الشخصية الأمريكية ذات التأثير المباشر في الحياة السياسية وصناعة القرار في الولايات المتحدة.. وفي القرار السياسي الذي أصبح يتدخل في حياة المجتمعات العربية والإسلامية دون استئذان.

سمات الشخصية الأمريكية

1/ الفردانية.. تقدس الشخصية الأمريكية حقوق الفرد، وما قد يستتبع ذلك من طغيان الحق الفردي على الحق الجماعي، حيث أصبح الفرد أهم من المجتمع في الحياة الأمريكية المعاصرة.

يقول الفيلسوف الأمريكي رالف والدو: "إن المجتمع في كل مكان يتآمر على رجولة كل فرد من أفراد هذا المجتمع، وكل من يريد أن يصبح رجلا لابد أن لا يقبل الاندماج في أي مجتمع. أنا لي فلسفة واحدة فقط .. وهي لانهائية الإنسان المستقل"

إن الضعف الشديد في الحياة الاجتماعية الأمريكية وتفكك العائلة الأمريكية، والكثير من ظواهر طغيان الأنانية والفردية الشخصية، ترجع إلى التكوين الفكري والنفسي للمجتمع الأمريكي وقبوله لفكرة «الفرد أهم من الجماعة».

2/ الشعور بالاستثنائية .. الشعب الأمريكي يشعر دائما أنه استثناء من كل قواعد الكون، وأنه قادر على القيام بما يراه الآخرون مستحيلا.

كتب الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل: "نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب، والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير، ونحن نشعر في مكنون أنفسنا بالقدرة على فعل الكثير. بات لزاما على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة، إننا نحن الطليعة، ننطلق إلى البرية لنقدم ما لم يستطع تقديمه أحد".

ولذلك نشأت فكرة الاستثنائية في العقل الجمعي الأمريكي، وما يصاحب ذلك من الرغبة المستمرة في التجريب حتى إن كان ذلك يعني العبث بشعوب العالم، فما دامت الغاية تناسب أمريكا، فلا بأس أن تكون الوسيلة بشعة أو غير إنسانية، فأمريكا استثناء من كل قاعدة، ولا تمانع من الجمع بين المتناقضات.

وهنا يمكن فهم منطق «مادلين أولبريت» وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في مقابلة تليفزيونية عام 1998م عندما سئلت عن استقالة أثنين من مفوضي الأمم المتحدة قدما استقالتيهما لأنهما لم يستطيعا تحمل وزر وفاة نصف مليون طفل عراقي راحوا ضحية نقص الغذاء والدواء، بسبب الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة باسم الأمم المتحدة على العراق، ردت أولبريت قائلة للسائل بالحرف الواحد: "ربما أنه ثمن غال كما تقول، لكننا نرى أن الهدف الذي نطلبه يساوي ذلك الثمن وأكثر منه"

ليس مهما الثمن الذي تدفعه الشعوب الأخرى ما دام الهدف الأمريكي سيتحقق! هذا جوهر الاستثنائية الأمريكية وتأثيرها في القرار السياسي اليوم.

ويكتب نيوت جينجرتش زعيم الأغلبية الأمريكية في الكونجرس الأمريكي عام 19995م قائلا: "أمريكا هي وحدها القادرة على قيادة العالم، فهي الحضارة الدولية الكونية الواعدة في تاريخ البشرية، قيمنا يستعيرها العالم أجمع، تقنياتنا التي حولت أنماط الحياة كانت هي العنصر الأول المحرك لقوى العولمة .. وأي حضارة أخرى نجحت في فرض هيمنتها على العالم بدون قمع؟! أمريكا هي الأمة الوحيدة الكبرى، المتعددة الأعراق التي تستخدم الحرية كدليل ".

ويعتقد بعض الأمريكيين من أنصار الاستثنائية الأمريكية أن الولايات المتحدة ليست مضطرة في أدائها إلى مراعاة القواعد التي يراعيها الجميع، لأنه ليس هناك من يستطيع إرغامها على ذلك، وعلاوة على ذلك فإن أمريكا لديها مجموعة خاصة بها من قواعد أخرى أهم من تلك القواعد.

3/ النفعية والبراجماتية .. العقل الجمعي الأمريكي يقدم المنفعة الشخصية على ما دونها من قيم وأخلاق، ويضع المصلحة الذاتية فوق كل معيار أخلاقي أو ديني أو سياسي، وقد بدأت أمريكا تاريخها في العالم من منطلق النفعية الذاتية بكل صورها.

بدأ الأمريكي رحلته في العالم الجديد بفكرة أن كل وسيلة تصل به إلى غايته فهي له ومن حقه أن يستخدمها، وشمل ذلك سرقة الأطفال وبيعهم في سوق الرقيق، واتخاذهم عمالا أو قل عبيدا، وقتل أهل البلد الأصليين وسلخ جلودهم.

إن الفكر النفعي الأمريكي ليس مجرد البحث عن المصالح .. ولكنه عمل فكري متكامل له رموزه الفكرة التي وضعت معالم النظرية البراجماتية، وجعلت منه تصورا موازيا لدور الأديان في المجتمع، ولذلك فمن السطحية أن تبسط البرجماتية الأمريكية إلى مشروع نفعي فقط، إنما –وهو الأهم- رؤية متكاملة بديلة للأديان السماوية فيما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان والإله، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة.

4/ التناقض .. هناك تناقض مزمن في الشخصية الأمريكية، وقد ركز عليه الكاتب الفرنسي «توكفيل» في نقده للنموذج الأمريكي للديمقراطية، لقد بدأت أمريكا بخليط عجيب من البشر، جاؤوا من مشارب شتى، حفزتهم دوافع متباينة، لا تجمعهم رابطة غير رابطة التناقض أو التنافس، أو قل «وحدة المتناقضات» –إن جاز التعبير- وهو واقع، إذ الكل تدفعه المصلحة إلى المغامرة وركوب المخاطر وتحدي المجهول، وأرض الميعاد، ومساحة شاسعة لم تضق بعد بأطماع الوافدين، وإن اغتالت هدوء أهل البلاد وأذلتهم بضعفهم، الكل يريد أن يفوز بالغنم الأكبر دون سواه، أو قبله، أو على جثته إن ضاقت به السبل، تراكمات بشرية متوالية صنعت مجتمعا بغير تاريخ.

وكما وصفها سيرجيو ليون، فإن أمريكا كانت دائما طيبة وسيئة وقبيحة .. مثالية منافقة وواقعية في الوقت نفسه، فهي خليط من المتناقضات تحيى معا في نفس واحدة ومجتمع واحد.

وفي كتاب "رئيس الخير والشر"، سلط المؤلف الضوء على المغزى الأخلاقي لحماس الرئيس بوش لعقوبة الإعدام، وكذلك عدم إبداء ما ينم عن لون ما من ألوان عذاب الضمير، تجاه المشاهد الدرامية المروعة لسقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، خلال الحروب التي شنها على كل من أفغانستان والعراق، ولكنه يدافع بشدة وحماس عن حقوق الجنين، وعدم جواز إنتاج الأجنة للاستفادة منها في التجارب المعملية، فهو من ناحية مسؤول عن قتل عشرات الآلاف من البشر وتشريدهم، ومئات من الجنود الأمريكيين، ولكنه في الوقت نفسه يدافع بحماس عن حقوق الأجنة التي لم تولد!!

5/ معضلة الحرية .. إن معضلة الحرية الأمريكية هي أن الأمريكي حر ومقيد في آن واحد، حر أن يفعل ما يشاء خاصة في أمور الترفيه والملذات الشخصية ومتع الحياة، ولكنه مقيد في الحياة العامة من خلال آلة إعلامية مسيرة من قبل صناع القرار الحقيقيين الذين يوجهون الإنسان دائما في أمريكا نحو خيارات لا تعبر بالضرورة إلا عن رغباتهم، وذلك من خلال سياسات إعلامية وفكرية دقيقة ومقننة ومنظمة، تم تحسينها وإتقانها عبر عشرات السنين من العمل الإعلامي الدءوب.

وعن مشروع تمرير نمط الحية الأمريكية على الشعوب لتختاره طواعية، وكأنها حرة في ذلك، يقول هنري كسينجر: "إن التحدي الأساسي لأمريكا هو تحويل قوتها إلى إجماع أخلاقي، ونشر قيمها لا عن طريق فرضها، وإنما بجعلها مقبولة في عالم هو في أمس الحاجة إلى قيادة مستنيرة".

6/ الرغبة في التوسع .. يميل الشعب الأمريكي إلى التوسع الدائم في كل شيء، وقد يظهر هذا وكأنه خلق طبيعي بين البشر، إلا أن من يتعرف الحياة الأمريكية من الداخل يعرف أن الإنسان الأمريكي يعشق التوسع للتوسع نفسه، وليس لما قد يجلبه من راحة أو رفاهية.

إن الولايات المتحدة لم تنشأ وطنا وإنما نشأت موطنا، ولم تبدأ دولة وإنما بدأت ملجأ، أي أن الولايات المتحدة في واقع الأمر بدأت ونشأت كفضاء مفتوح لكل من يقدر على عبور المحيط أو يضطر لعبوره وإن تنوعت الأسباب.

والفضاء المفتوح لا يقبل بالعوائق، ولا توقّف لمن عشقوا هذا الاتساع عن الرغبة في توسيع ذلك الفضاء إلى أقصى حد ممكن، وإزالة كل ما يعترض التوسع من معوقات.

فالتوسع للأمريكي هو إشعار له مستمر بأنه حر، وأنه لا حدود لطموحاته وتطلعاته ولا نهاية لها، ولم يكن ذلك نتيجة الهيمنة الأمريكية في نهاية القرن العشرين، أو ارتفاع مستوى دخل الفرد الأمريكي مؤخرا، وإنما نشأت هذه العقلية منذ بدأ تكوين الكيان الأمريكي الذي ارتبط بالتوسع منذ لحظاته الأولى.

حاول السياسيون منذ بدأ تاريخ أمريكا ومغامراتها التوسعية، ترسيخ مبدأ الحق في التوسع عالميا، من خلال المواقف الرسمية المعلنة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.

فالتوسع مزاج نفسي للشخصية الأمريكية، وليس إستراتيجية سياسية أو طموح شخصي فقط، التوسع للأمريكي هو ثمرة التزامه بالحرية والفردانية معا، وبدون نمو متواصل لهما فإنه يشعر أن حريته مقيدة، ولذلك فإن وضع حواجز أو قيود أمام التوسع الأمريكي فإنه يفسر من قبل الشخصية الأمريكية بأنه هجوم على حريتها، ومن ثم لا تستطيع التسامح مع ذلك.

7/ تقديس العمل والاعتماد على الذات .. خلف المهاجرون العالم القديم وراء ظهورهم، وأقبلوا طامعين في العالم الجديد، وعندما قدموا إلى أمريكا حمل كل وافد فكره وساعده وأطماعه، أدرك الجميع مبكرا أن العمل هو أداة التقدم وعدته، وليس لأحد من سبيل في النجاح في العالم الجديد إلا بالاعتماد على الذات للحفاظ على الحياة والحرية.

ويعتقد الأمريكي أن الاعتماد على الآخرين خطأ فادح وقاتل، كان جورج واشنطن ينصح من حوله قائلا: "لا تضع ثقتك في الحلفاء .. وخصوصا الذين هم أقوى منك، ففي أفضل الأحوال سيجعلونك قطعة شطرنج في ألعابهم".

وكان الرئيس بنيامين فرانكلين من أبرز الشخصيات الأمريكية اعتمادا على الذات، وتقديسا للعمل الجماعي. وهو نموذج يتكرر كثيرا في الحياة الأمريكية، فالطموح الأمريكي يدفع الإنسان إلى العمل الدءوب، وإلى الاعتماد على الذات، ولذلك ليس غريبا أن تتربع أمريكا اليوم على قمة هرم التطور المدني والعمراني.

8/ الميل نحو العنف .. بدأت أمريكا كمشروع استيلاء ونهب لقارة بأكملها من أهلها الأصليين، ولذلك لم يكن هناك بديل للبندقية والعنف لتحقيق الهدف في أقصر وقت ممكن، وبأقل جهد.

الأمريكي الأول لم يتعلم من الهندي كيف يتفهم الطبيعة قبل أن يحاول أن يسيطر عليها، وأوقع الأمريكي نفسه منذ ذلك الحين وحتى اليوم في الكثير من المشكلات، بسبب الرغبة المستمرة في استخدام كل ما لديه من قوة للتعامل مع كل مشكلة.

ومضت القرون، ولم تحل مشكلة النهم في استخدام القوة، واتخاذها الوسيلة المثلى لحل كل المشكلات. أصبح امتلاك السلاح واستخدامه وسيلة لحل المشكلات عادة أمريكية تأصلت، حتى أصبح عدد قطع السلاح في الولايات المتحدة يتجاوز عدد البالغين من السكان، وأصبح العنف نموذجا للحياة في بلاد الحضارة.

واستمر المسدس يحكم علاقات الأمريكيين مع العالم ومع أنفسهم أيضا، وانتشر العنف ليصبح ظاهرة فريدة في المجتمع الأمريكي بين كل المجتمعات الغربية والشرقية معا.

9/ الإعجاب بالإصرار والضغط ..   الشخصية الأمريكية تعجب دائما بمن يصر على مواقفه، ويضحي من أجلها، ويحب الأمريكي أن تمارس ضغوطا مستمرة عليه من أجل أن تحصل على ما تريد، ولذلك أصبح الضغط السياسي هو إحدى أهم وسائل التأثير في صناعة القرار.

الأمريكي بطبيعته ينفر من أن يعطي دون مقابل، أو أن يعطي وهو مجبر، ولكنه يحب أن يشعر أن الطرف الآخر قد بذل كل ما يستطيع من أجل أن يحصل على ما يريد.

ولذلك فإن الإصرار والضغط المستمر هما سمتان واضحتان في التعامل بين الأمريكيين، وكذلك فهم يتوقعون من غيرهم أن يمارس الطريقة نفسها للوصول إليهم والتأثير فيهم، أما أن يُتوقع من الأمريكي أن يستجيب تلقائيا لما تريده لمجرد أنك ترى أنك صاحب حق، فهذا مخالف لما دأبت عليه الحياة الأمريكية.

10/ سرعة الإيقاع .. كل شيء في أمريكا يسابق الزمن، وكما وصف ذلك الدكتور مصطفى محمود فـ "هناك شيء غير طبيعي في المجتمع الأمريكي .. أن الكل يسعى إلى اغتنام لحظته في تلهف عجيب .. لا يدع ساعة تفوته دون أن يعتصرها ويعيشها طولا وعرضا في معرفة أو مصلحة أو عمل أو لذة أو مكسب أو ثأر أو شهوة أو عاطفة أو هوى جامح أو صفقة أو سرقة أو كبسة بوليسية، الآن وفورا اغتنم لحظتك .. فهي لن تعود مرة أخرى".

إن سرعة الإيقاع تمثل نمطا للحياة الأمريكية في مختلف جوانبها، ومنها الجانب السياسي أيضا، فلا يتوقف الأمريكي كثيرا عند قضية ما من القضايا، وإنما يحتاج إلى سرعة الفهم، وسرعة اتخاذ القرار، والتحرك دائما نحو الأمام، ونظلم كثيرا قضايانا في أروقة السياسة الأمريكية عندما نختار ممثلينا ممن لا يجيدون فنون الحديث الأمريكية، ولا يتقنون فن تقديم الوجبات الفكرية السريعة للسياسيين لكي يتعرفوا همومنا بالشكل صحيح.

11/ القسوة في التعامل مع الأعداء .. يورد جاك بيتي، محرر كتاب «العملاق» واحدا من تقارير شركة فرجينيا مكتوبا سنة 1624م، ومرسلا إلى جمعية المساهمين بها في لندن، وفيه بالنص: "إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أيه محاولة لتمدينهم، فهم همج، برابرة، عراة، متفرقون .. جماعات في مواطن مختلفة، وهذا يجعل تمدينهم صعبا، لكن النصر عليهم سهل، وإذا كانت محاولة تمدينهم سوف تأخذ وقتا طويلا، فإن إبادتهم تختصره، ووسائلنا إلى النصر عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم، لأنها تنهش جسدهم العاري".

وفي عام 1870م خلال المشروع الأمريكي للهيمنة على القارة عبر حرب الإبادة والاستيطان الضارية، كانت فروة رأس الهندي الأحمر المسلوخة تباع في مدينة "دنفر" الأمريكية بعشرة دولارات، تأجيجا لحماسة المستوطنين، وتشجيعا لهم على تطهير البلاد من أصحابها، وفي مدينة "سنترال سيتي" وصل سعرها إلى خمسة وعشرين دولارا، وفي مدينة "ديدوود" وصل  إلى مائتي دولار، وكان المستوطنون يفاخرون بغنائمهم من الرؤوس البشرية.

لقد أفرزت الصراعات التاريخية بين المستوطنين وبين الهنود ثقافة قننت التخلص من الأعداء بكل طريق ممكن، وتكونت ثقافة عنصرية تغلف نفسها بغلاف من حقوق الإنسان العالمية، ليتم باسمها التخلص من كل أعداء الشعب الأمريكي وإبادتهم، ويخمد من خلالها النهم الأمريكي في الحصول على المزيد من السلطة والقوة والمال.

12/ تقديم القوة على المبادئ .. الأمريكي يقدم القوة على المبدأ، ويضحي بالمبدأ من أجل امتلاك القوة، أو تجنب مواجهة من هو أقوى منه، والحديث هنا عن أولويات سياسية وليس عن مبادئ أخلاقية.

لا تحدث السياسي الأمريكي عن المبادئ عند الدفاع عن قضيتك، فهو قد ضحى بالكثير من المبادئ كي يصل إلى كرسي السياسة الذي دعاك للحديث لديه! إن حديثك عن المبادئ يوقظ في السياسي الأمريكي مشاعر الخجل والإحساس بالنقص، ولذلك يتململ ويبحث عن فرصة ما للهروب من هذا الحديث المزعج.

أما إن حدثته عن القوة في الدفاع عن قضيتك سواء كانت عادلة أم غير عادلة، اهتم بحديثك لأنه لا يستشعر الذنب تجاه استخدام القوة أو اللجوء إليها لخدمة أي قضية سواء عادلة أم غير عادلة، المهم أن تكون مقنعا لا أن تكون عادلا، وليس مهما أن تكون قضيتك منصفة أو تكون أنت على صواب فيما تعتقد .. المهم أن تجتمع لقضيتك كل عناصر القوة، وأن تكون مستعدا للتضحية من أجل ذلك.

وهناك ميل دائم في الحياة الأمريكية للبحث عن تفسير مقبول لاستخدام القوة حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ.

13/ كل شيء يمكن أن يشترى .. تعود الأمريكان طلب الأشياء –مادية ومعنوية، من حقوق الثروات الطبيعية إلى حقوق السيادة الوطنية- بلا عناء مقابل ثمن نقدي يدفع، ثم يتم شحن البضاعة.

ولذلك فالسياسة الأمريكية اليوم تحاول شراء ما تريد إن لم تستطع أن تغتصبه، وهذا ما جرى -مثلا- في صفقة تسليم الرئيس الصربي السابق "سلوبودان ميلوسوفيتش"، وكانت الصفقة بيعا وشراء –تسليما وتسلما- قيمتها بليون دولار، وكان نصيب الولايات المتحدة النقدي من الصفقة 182 مليون دولار، لكن الصفقة جرت تحت إشرافها وإدارتها.

14/ نقص الاهتمامات السياسية .. المواطن الأمريكي لا يهتم كثير بما يحدث خارج الولايات المتحدة الأمريكية، إلا إذا أثر ذلك تأثيرا مباشرا في حياته اليومية، ولذلك لم يهتم المواطن الأمريكي بمعرفة مشكلات الشرق الأوسط إلا بعد أحداث 11 سبتمبر.

ويمكن استثمار هذه السلبية بنقل قضايا السياسة الخارجية إلى الحياة الأمريكية اليومية، وقد نجح اللوبي الموالي لإسرائيل في ذلك إلى الحد الذي أصبحت فيه قضايا إسرائيل تثار في صفحة المحليات في الصحف والمجلات الأمريكية، وليس في صفحة السياسة الخارجية، ولم يلتفت إلى ذلك أكثر المحللين.

15/ عدم الاهتمام بماضي الأشخاص ..  من أهم الآثار السياسية التي تظهر في المجتمع الأمريكي نتيجة لتركيبه النفسي، أن الخلفية الاجتماعية لا تؤثر كثيرا في فرص نجاح الإنسان إذا امتلك عوامل القوة وأحسن استخدامها.

أما في بلدان أوروبا الغربية، فإن الخلفية الاجتماعية تمارس دورا مهما في النجاح السياسي للأشخاص، ولذلك نجد الرؤساء الأمريكيين قد أتوا من بيئات غنية وفقيرة، ومن خلفيات ثقافية متميزة وضحلة أيضا، ومن مناطق مختلفة من القارة الأمريكية.

فالصورة النمطية للجنوب الأمريكي مثلا سلبية في الغالب في المجتمع الأمريكي، وعلى الرغم من ذلك لم تؤثر كثيرا في فرص كارتر وكلينتون في النجاح وهما من ولايات الجنوب، ولم يحتج أحد منهم إلى تغيير لهجته المعروفة في كلماته، بينما اضطرت مارجريت تاتشر قبل الانتخابات البريطانية في أواخر القرن الماضي إلى تعيين مدرب لغوي خاص ليساعدها في التخلص من "لكنة الطبقة العمالية" لكي تتمكن من إقناع البريطانيين بقبولها مرشحا لرئاسة الوزراء، على رغم كونها من خريجي إحدى أشهر جامعات بريطانيا.

16/ العطف على المنبوذين .. يعطف الشعب الأمريكي على المنبوذين بشكل واضح وملموس، فالعقل الجمعي الأمريكي يرى أن المنبوذ ضمن ثقافة معينة أو مجتمع ما يمر بما مرت به نفسه أجيال المهاجرين الأوائل إلى القارة الأمريكية، ولذلك فلابد من العطف عليه ودعم دعوته، لأن الأجداد مروا بتجربة مثيلة لها.

وقد نجح اللوبي الموالي لإسرائيل في استغلال هذه النقطة، فبعض الكنائس الموالية لهذا التيار تعقد الكثير من المقارنات بين بدء الحلم الأمريكي وبين نشأة دولة إسرائيل، فكلاهما قاما على شعب غريب مهاجر استوطن أرضا لا يملكها فرارا من الاضطهاد الأوروبي، ويسعى إلى إقامة حضارة جديدة.

ولذلك فإن الأمريكي يقبل هذه الفكرة بسهولة ولا يهتم كثيرا بالألم الواقع على الشعب الأصلي الموجود في تلك الأرض، فلكل مشروع كبير تضحيات لابد أن يدفعها أحد ما، وقد دفعها الهنود الحمر في السابق، وقامت على أرضهم حضارة العالم الجديد، فلم لا يقبل العالم اليوم التضحية بشعب فلسطين من أجل أن تعود إسرائيل إلى الوجود بعد غياب طال لآلاف السنين.

ولذلك نجح الشواذ أيضا من نيل الكثير من الحقوق المدنية التي تتمتع بها الأسر في المجتمع الأمريكي، لأنهم طرقوا بشدة على عقدة المنبوذين في المجتمع، فكلما ازداد امتعاض المجتمع الأمريكي منك، ازدادت فرصتك في النجاح في ذلك المجتمع.

وكلما كانت ظروفك أصعب عطف عليك الأمريكيون أكثر، ولذلك نجح في اكتساب الصوت الأمريكي المزارع "كارتر" واللقيط "كلينتون" والممثل المغمود "ريجان" والسكير الذي يعيش على ثروة أبيه "بوش" وغيرهم كثير في الحياة السياسية الأمريكية.

17/ العمل المؤسسي والجماعي .. يميل الشعب الأمريكي إلى العمل المؤسسي، ونجاح مؤسسات المجتمع المدني في الولايات المتحدة إنما هو نتاج للشخصية الأمريكية التي تعلمت منذ بدأ تكوين الولايات المتحدة أن الدولة ليس لها القدرة الكافية على أن توحد بين أبنائها، أو تكفل لهم حاجياتهم الاقتصادية أيضا.

لقد تعلمت الأجيال الأولى من الأمريكيين التعاون للبقاء، ولذلك كونوا اتحادات العمال، والمؤسسات والأندية الاجتماعية وجمعيات الحفاظ على الحقوق المدنية.. الأمريكان يستخدمون المؤسسات لكل الأغراض، لبناء الفنادق وإقامة المقابر وبناء الكنائس وتوزيع الكتب وبعث الإرساليات التبشيرية إلى مناطق المحتاجين.

حتى في العمل السياسي فإن الأمريكيين يتحدون لمواجهة الدولة أو للتعاون معها، في أمريكا توجد الآلاف من مؤسسات الضغط الشعبي التي تجمع وتهتم بمختلف القضايا، بدءا من دعم إسرائيل إلى حماية بعض أنواع الأسماك التي توشك على الانقراض من المحيطات.

18/ النقد الذاتي والإصلاح المستمر .. أمريكا تسعى دائما إلى تقويم مسارها بما يخدم أهدافها، ويحدث ذلك على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأمة أيضا.

ومن اللافت للنظر أن هذه الصفة قد ارتبطت تاريخيا بالإنسان الغربي بوجع عام، واستمرت هذه الصفة في الإنسان الأمريكي حتى الآن، فروى مسلم عن الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ، عنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ.

إن الإنسان الأمريكي بطبعه لا ينفر من عيوبه، ويحب أن يواجهها، وأن يتغلب عليها, وتهتم الشخصية الأمريكية بإبراز النجاح في التغلب على النقص الشخصي أكثر من اهتمامها بإخفاء ذلك النقص.

لقد نجح بيل كلينتون في الحفاظ على كرسي الرئاسة على رغم ثبوت فضيحته لوينسكي عليه، ولم يتهرب جورج دبليو بوش من ماضيه الحافل بعد الاكتراث ومعاقرة الخمور، ولكنه أكد للشعب الأمريكي أنه قد عالج نفسه انتصر على نقصه، واختاره الشعب رئيسا.

19/ حب الاقتناء والاستهلاك ..   من المكونات الأساسية في الشخصية الأمريكية أن «قيمة الإنسان تتحدد بما يملك»

وبما أن أمريكا لا يوجد بها طبقية أوروبا المرتبطة بالمستوى الاجتماعي للأسرة، فإن التمايز في المجتمع الأمريكي قد قام واستقر حول ما يملكه الإنسان، وقدرته على الإنفاق فيما يحب من أمور.

ويتسبب حب الاستهلاك اليوم في الحياة الأمريكية في ارتفاع نبرة السيطرة الاستعمارية على العالم، فهي تتيح للأمريكي الحصول على كل ما يريد بأرخص الأثمان.

إن الحياة الأمريكية تعتمد على الاستهلاك كثيرا بشكل أكبر من باقي دول العالم الغربي، ويكفي أن ما تنفقه أمريكا في العام الواحد على أكياس القمامة يفوق الميزانية الإجمالية لـ 90 دولة من دول العالم مجتمعة! وأمريكا هي من الدول القليلة في العالم التي تزيد فيها عدد الأسواق عن عدد المدارس الثانوية، وأمريكا اليوم تنفق على الاستهلاك الفردي أكثر من 70% من الإنتاج القومي لها، وهي من أعلى نسب الاستهلاك في العالم.

** إن المعرفة المستمرة والمتجددة بشعوب العالم وأفكاره المختلفة عملية ضرورية لابد أن يقوم بها الناس بين وقت وآخر كنوع من الحساب والمراجعة .. وإلا سيكتشف الإنسان في لحظة ما أن الحقائق قد اختلفت، وأن الواقع قد تغير، وأننا قد توقفنا في إحدى محطات الماضي في الحكم على الأشخاص والدول والشعوب

** لقد توقع جون آدمز أن أمريكا سوف تسقط إن آجلا أو عاجلا كما سقطت دولة إسرائيل الأولى ويهوذا وأثينا وروما، لأن أمريكا سوف ترفض عبء الحرية، وتستسلم للانحطاط والرضا عن النفس، حتى كراهية الذات، وستدخل بعد ذلك في طور الانحدار والسقوط.

 

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]