نصيحتي
ياسر منير
عقلاء الأمة أن يستفيقوا من إغفاءتهم؛ فإنّ الأمة المسلمة تنتظرها أحداث جلل، تحتاج إلى التواصي بالحق، وترك التدابر، والتعاون على البر والتقوى
قال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ } ([1]).
بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية أنَّهم لَمَّا نَسُوا ما ذُكِّروا به من البأساءِ والضرَّاء ([2])، فَتَحَ عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ، ونقلهم من البأساءِ والضرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاء، وأنواع الآلاءِ والنَّعْماءِ، والمقصودُ: أنَّه تعالى عامَلَهم بتسليطِ المكارِه والشَّدائدِ تارةً، فلم يَنتفعوا به، فنَقَلَهم من تلك الحالةِ إلى ضِدِّها، وهو فتْحُ أبواب الخيراتِ، والنِّعَم عليهم، والسَّعَة عليهم؛ وذلك للاستدراج بإِظهار النِّعمَ ([3])، وتَسهيلُ مُوجِباتِ المسَرَّاتِ والسَّعادات لديهم، فلم ينتفعوا بذلك أيضًا، حتى إذا فَرِحوا بما أُوتوا من الخَيْر والنِّعَم، لم يَزيدوا على الفَرَح والبَطَر من غيرِ انتدابٍ لِشُكرٍ على النِّعَمِ، ولا إقدامٍ على اعتذارٍ وتوبةٍ؛ أُخِذُوا بغتةً ([4]).
ومن أعظم صور الخذلان، وأنكى أنواع الخسران، متابعة أهل الكفر والطغيان في باطلهم، ونشر زُبالات الفكر، والتردّي الأخلاقي، وتوطين العبثية والانحلال، وجَعْل الرويبضة هم سَدَنة الفكر، ودهاقنة العلم؛ مما أدّى إلى شيوع الشذوذ الفكري، والتردّي الأخلاقي، والتّفَسُّخ العقدي، وساق الأمة المسلمة إلى السقوط في حمْأَة الباطل، وإبعاد النجعة في نشر الخلاعة والمجن تحت اسم مُزيّف هو المدنية والحضارة، فحينئذٍ يأتي الخطاب القرآني الصريح: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} ([5]).
والأمة المسلمة في هذا العصر تعرضت لنكباتٍ كثيرة – رغم ما هي فيه من نعم تَتْرا – من تَرَبُّصٍ للأعداء، وتسلُّطٍ للحكام الظلمة، وتأخُّر في ذيول الأمم، ولم ترجع إلى مرضاة ربها؛ لذاأُخِذُوا في حالِ الرَّخاءِ والرَّاحةِ؛ ليكونَ أشدَّ لشقائهم، وتحسُّرِهم على ما فاتَهم من حالِ السلامةِ والعافِيَة ([6]).
وفي المقابل سيعود للأمة المسلمة النصر والتمكين إذا تمسكوا بالتوحيدِ والعملِ الصالِحِ الذي هو السبيلُ الأوحَدُ لنَصر الأمةِ وتمكينِها في الأرض، مع الإعداد والقوَّة الماديَّة، قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ([7]).
أُوَجِّهُ نصيحتي ([8]) لعقلاء الأمة أن يستفيقوا من إغفاءتهم؛ فإنّ الأمة المسلمة تنتظرها أحداث جلل، تحتاج إلى التواصي بالحق، وترك التدابر، والتعاون على البر والتقوى؛ حتى تخرج الأمة مما هي فيه من مرحلة التيه إلى مرحلة السيادة للعالم. ورحم الله عبد العزيز بن أبي رواد حين قال: "كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئًا، يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه ويهتك ستره" ([9]).
وصدق عبد اللَّه السابوري حين قال:
من كانَ ذا نصيحةٍ نَهاكا
ومن يكنْ ذا بُغْضةٍ أغراكا
[1]ـ سورة الأنعام: الآية 44.
[2]ـ سورة الأنعام: الآية 42.
[3]- انظر: الفيروز آبادي: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. ج4. ص 161. تحقيق: محمد علي النجار. ط 1412هـ / 1992م. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة. وانظر منه. ج2. ص 199. ط 1416هـ / 1996م.
[4]- انظر: الرازي (محمد بن عمر، ت 606هـ): مفاتيح الغيب. ج12. ص 534. ط3. 1420هـ. دار إحياء التراث العربي – بيروت. وأيضًا له: ج1. ص 328. وانظر: ابن عادل الحنبلي: اللباب في علوم الكتاب. ج8. ص 149.
[6]ـ انظر: الرازي: مفاتيح الغيب. ج12. ص 535.
[7]ـ سورة النور: الآية 55.
[8]- النصيحة - لغة - اسم من نَصَحَه، ونصح له، كمنعه، نُصْحًا ونَصاحَةً ونَصاحِيَةً، يقال: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ، والناصحُ: الْخَالِصُ من العَسَلِ وغَيْرِهِ، وكلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ، فأصل النُّصْح في اللُّغة: الخُلوص، والنُّصْح نقيض الغِشِّ [((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/63)، ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص 244)، ((لسان العرب)) لابن منظور (2/615]. واصطلاحًا هي كما قال الجرجاني: "النصح: إخلاص العمل عن شوائب الفساد. والنَّصِيحَة: هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد" ((التعريفات)) (ص 241).
[9]ـ ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/224).