عثمان الخياط (2)
خالد سعد النجار
"وأصل حال المحب أن يقطع تشوقه عن كل شيء سوى محبوبه، فمن نظر إلى سواه فهو محجوب من مولاه.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
** عن عُثْمَانَ الْخَيَّاطُ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: "وَاللهِ، لَا تَبْلُغُوا ذِرْوَةَ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ الْقُرْآنَ فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ".
// «أصول المحبة» يبين عماد الدين الأموي أصلاً من أصول المحبة ثم يدعمها بحكاية غزلية, فيقول:
"وأصل حال المحب أن يقطع تشوقه عن كل شيء سوى محبوبه، فمن نظر إلى سواه فهو محجوب من مولاه.
يُحكى أن بعض الناس رأى امرأة جميلة فاشتغل قلبه بها، فقال لها: كلي بك مشغول، فقالت: إن كان كلّك بكلي مشغول، فكلي لك مبذول، لكن لي أخت لو رأيت حسنها وجمالها لم تذكرني، فقال: أين هي؟
فقالت: وراءك، فالتفت وراءه، فلطمته لطمة وقالت: يا كذاب، لو كنت صادقاً فيما قلت لم تلتفت إلى غيري"
// «حب القرآن» يقول سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بُغض الدنيا، وعلامة بُغض الدنيا ألاَّ يدَّخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة.
ومن علامات محبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «حب القرآن» الذي أتى به، وهدى به واهتدى، وتخلق به حتى قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إن خلق نبي الله كان القرآن"، أي كان دأبه التمسك به والتأدب بآدابه والعمل بما فيه من مكارم الأخلاق .. فجعلت عائشة -رضي الله عنها- القرآن نفس خلقه، مبالغة في شدة تمسكه به، وأنه صار سجية له وطبيعة كأنه طبع عليها.
وتمثيل حب القران بكثرة تلاوته له على الوجه المرضي فيها عند أهل الأداء، وليس المراد مطلق القراءة كذا قال الخفاجي، والصواب أن كثرة تلاوته تدل على حب القرآن والشغف به، وقد صح أن من يتعتع في قراءته له أجران فلا وجه لقصر محب القرآن على المقرئين فقط،
وإضافة إلى كثرة تلاوته ودوام قراءته، العمل بما فيه من أحكام ومواعظ، وتفهمه أي طلب فهمه في مواعظه وقصصه ووعده ووعيده وبيان أحوال أنبيائه وأوليائه وعاقبة أعدائه، وكذا التقيد بفهم معانيه.
هذا والسنة مليئة بالحث على تعلم القران وإتباعه، فصح عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(خيركم من تعلم القران وعلمه)» .
وقال ابن تيمية: "والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟!"
ولهذا إذا أردت إن تعرف ما عندك وعند غيرك من محبة الله ورسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه.
فمن هجر القرآن كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خصمه يوم القيامة قال تعالى: {{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}} [الفرقان:30]
** عن عثمان الخياط قال سمعت ذا النون يقول: ثلاثة من أعمال المراقبة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله.
قال: وثلاثة من أعلام الاعتزاز بالله: التكاثر بالحكمة وليس بالعشيرة، والاستعانة بالله وليس بالمخلوقين، والتذلل لأهل الدين في الله وليس لأبناء الدنيا.
قوله: ثلاثة من أعمال المراقبة:
1/ إيثار ما أنزل الله. وهذا ثمرة «محبّة التألّه» أي العلم بجمال الربّ وكماله وإنعامه وإحسانه؛ فالقلوب مجبولة على محبّة الكمال، وعلى محبّة من أحسن إليها، فمحبة التأله إذا استقرّت في القلب أورثت أهلها كمال الاتّباع والإيثار، وموافقة الربّ في محبوباته ومكروهاته ظاهرًا وباطنًا
// وعن عثمان الخياط حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو يعقوب حدثنا الهيثم بن عمران قال سمعت كلثوم بن عياض القشيري وهو على منبر دمشق ليالي هشام وهو يقول: من آثر الله آثره الله، فرحم الله عبدا استعان بنعمته على طاعته ولم يستعن بنعمته على معصيته، فإنه لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا وهو مزاد صنفا من النعيم لا يكون يعرفه، ولا يأتي على صاحب العذاب ساعة إلا وهو مستنكر لشيء من العذاب لم يكن يعرفه
2/ وتعظيم ما عظم الله فالله تَعَالَى شرع تعظيم شعائره، ومنه التكرم بتكريم الله، وأن لا تبذل نفسك إلا في مرضاته، قال تعالى: {{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}} [الإسراء:70]
قال ابن حزم: لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى.
3/ وتصغير ما صغر الله كالكفار والفسقة مهما عظمت أجسامهم وأموالهم وسلطانهم.
فإلى من يرتدون زى الشيوخ ويترحمون على الطغاة وأهل الضلال والظلم قال لهم أبو الوفاء بن عقيل شيخ الحنابلة: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة"
فضحتكم مواقفكم ولم تستركم ملابسكم
قوله: وثلاثة من أعلام الاعتزاز بالله:
1/ التكاثر بالحكمة وليس بالعشيرة: فالحكمة تنصرك في موضع النصرة بالحق، والعشيرة ربما تنصرك في الحق والباطل.
والحكمة تقصر عليك طريق الوصول، روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، «أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: (مَنْ قَامَ إِذَا اسْتَقَلَّتِ الشَّمْسُ [الضحى] فَتَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ فَكَانَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)» .
«قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي أَنْ أَسْمَعَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ تُجَاهِي جَالِسًا: أَتَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْجَبَ مِنْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ فَقَالَ عُمَرُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ)» حديث صحيح
2/ والاستعانة بالله، وليس بالمخلوقين: والمقصد ألا يتعلق قلبه بمخلوق في تفريج أمره، بل هو لا يعدو كونه سببا، وما زال الخلق يحتاج بعضهم بعضا، ومسخر بعضهم لبعض، قال تعالى: {{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}} [الزخرف32]
والفرج حقيقة لا يكون إلا من الله تعالي، قال تعالى: {{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} } [الفرقان:58]
ويقول ابن حزم: من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه، وإنما يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته، فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم؟ .. والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن أجعلهم كالنار تدفأ بها، ولا تخالطها.
3/ والتذلل لأهل الدين في الله، وليس لأبناء الدنيا: قال تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}} [المائدة:54]
وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول قبل الصلاة: «(سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ، وَلَيِّنُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ)» [أحمد والطبراني].
// وعن عُثْمَانَ الْخَيَّاطَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، بِمِصْرَ، يَقُولُ: "ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ: النَّظَرُ لِأَهْلِ الْمِلَّةِ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَنْ مُسِيئِهِمْ"
// يقول د. محمد أبو موسى –شيخ البلاغة-: كن لبنة في بناء ثقافة أمتك، وإلا فلا قيمة لوجودك.
// وعن سعيد بن عثمان الخياط يقول سمعت ذا النون يقول: "من أعلام الاستغناء بالله: التواضع للفقراء المتذللين، وترك تعظيم الأغنياء المكثرين، وترك المخالطة لأبناء الدنيا المتكبرين"
// ويقول ابن حزم: ثق بالمتدين وإن كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك.
// قال الأَوْزاعي: لا يكون في آخر الزمان شيء أعزُّ من أخ مؤنس، أو كسب درهم من حِلِّه، أو سنة يعمل بها.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار