واحذرهم أن يفتنوك
هذا الأمر التحذيريُّ وُجِّه إلى أتْقَى الخَلْق، وأخشاهم لله سبحانه وتعالى، بأن يَحْكُمَ بكتاب الله، ولا يتَّبع أهواءَ أهلِ الكِتاب مِن اليهود والنصارى، ويُحَذِّرهم مِن فِتنتهم بالباطل الذي يُحاولون أنْ يُدَلِّسوا به لِيُوهِمُوا أنَّهم على حقٍّ..
- التصنيفات: التفسير - أخلاق إسلامية -
هذا الأمر التحذيريُّ وُجِّه إلى أتْقَى الخَلْق، وأخشاهم لله سبحانه وتعالى، ضمْن آيةٍ في سورة المائدة؛ يأمرُ اللهُ سبحانه وتعالى فيها الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يَحْكُمَ بكتاب الله، ولا يتَّبع أهواءَ أهلِ الكِتاب مِن اليهود والنصارى، ويُحَذِّرهم مِن فِتنتهم بالباطل الذي يُحاولون أنْ يُدَلِّسوا به لِيُوهِمُوا أنَّهم على حقٍّ؛ قال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيَّه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
ما أَصْرَحَ التربيةَ القرآنيَّة، وما أَعْظَمَها حتى مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والتي يَتَقَزَّم العالَمُ أمامَ عظَمته ومنزلته، وأمام درجة تقواه ومعرفته بربِّه وطاعته له، إنَّ هذا أَبْلَغُ درسٍ لداعيةٍ صغير أو حتى عالِم كبيرٍ يَسعى لِمُهادَنة الباطل، أو القُرْب منه بحُجَّة تقريب وِجْهات النظَر، ويحْرِص على حضور مجالس وندوات تعْرض فيها الفتنة، ويَدعو إلى ذلك بمُبَرِّرِ الحوار والحقوق والحريَّات.
تتحدَّث الآية عن نوع مِن العلاقة بين الحقِّ والباطل، وأنَّ أصحاب الباطل يَسْعَون إلى فتنة أهل الحقِّ بباطلهم، ويحْرصون على ذلك بطريقةٍ أو بأخرى، وما أَكثَرَ تدليسَهم!
والخطاب الموجَّه لشخص النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم يدُلُّنا على عظيم منزلته، ورفيع درجته في التسليم والامْتثال لأمْر الله، وكيف أنَّ النبي المعصوم يُقال له تحذيرًا وتنبيهًا أنْ يحْذَرَ فتنةَ أهل الباطل، وإنْ زعموا أنهم يريدون أن يتعرَّفوا على الحقِّ الذي معه، وأنْ يَسمَعوا منه، فليكُنْ على حذرٍ منهم، ومِن زيْفِهم وخداعهم وفِتْنتهم.
تزداد محبتُنا للنبي العظيم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يَتَمَثَّل العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى، ويُحقِّق أنه عبدُ الله ورسوله؛ لينقلنا - وهو قدوتنا - إلى مراجعة أنفُسِنا في عبوديَّتنا لله وتسليمنا لأمرِه وحُكْمه، ورفْضِنا للباطل والحذَر مِن فتنته.
والذي يَظُنُّ أنه بلغ مِن ذكائه وفِطْنته وقوَّة إيمانه أن يَسْلَمَ مِن فتنة أهل الباطل إذا خَاضَ معهم في نواديهم، فقد غَامَرَ بإيمانه، وقَامَرَ بقلبِه، ورَمَى بنفسه في غابة مليئة بوحوش ضاريةٍ جائعةٍ.
فقوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49]؛ أي: (واحذَر أيُّها النبي أنْ يَفتنَك أعداؤك عن بعض ما أنزل الله إليك؛ أي: يميلوا بك مِن الحقِّ إلى الباطل)[1]، أنْ يفتنوك بدعاوَى ظاهرُها الحقُّ، وباطنُها الباطلُ، كدعوى جمْعِ الكلمة، أو دعوى حقوق الإنسان، أو دعوى الوسطيَّة والاعتدال، وتُخْفي تحتها الطعنَ في الشريعة والهجومَ على السُّنَّة، والاعتراضَ على أحكام الشريعة.
وعليه؛ فإنَّ العبدَ المسلم مَهْمَا بَلغَ مِن الثقة بالنفس، وبلغ مِن الطاعة والالتزام ما بلغ، فلا ينبغي أن يُفارقَه الحذَرُ، وخاصَّة في زمن تمُوج الفِتَن فيه كأمواج البحر الهائج.
هذه الآية الصريحة - والتي قبلها - في التحذير من التنازل عن الحقِّ، والقَبول بشيء من الباطل - تُعطينا دَرْسًا بليغًا فيما يحصُل في زماننا مِن تنازُلات وسكوت عن باطلٍ، بحُجج وتبريرات واهية وغير مُقْنعة ولا مَقْبولة.
ولأنَّ (الرغبة البشرية الخفيَّة في تأليف القلوب بين الطوائف المتعدِّدة، والاتجاهات والعقائد المتجمِّعة في بلدٍ واحدٍ، ومسايَرة بعضِ رغباتِه عندما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميْل إلى التساهُل في الأمور الطفيفة أو التي يبدو أنها ليست مِن أساسيَّات الشريعة)[2].
مُبررٌ يَستخدمه البعضُ لإقناع نفسه أولًا، ثُمَّ لإقناع الآخرين في تمرير تنازلاته والدفاع عن مواقفه، (وقد شاء الله سبحانه وتعالى أنْ يَحسمَ هذا الأمر، وأن يقطعَ الطريق على الرغبة البشريَّة الخفيَّة في التساهُل؛ مُراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفًا للقلوب، فقال لنبيِّه: (إنَّ الله لو شاء لجعَلَ الناسَ أمَّةً واحدة، ولكنَّه جعلَ لكلٍّ منهم طريقًا ومَنهْجًا، وجعلهم مُبْتلين مختبَرين فيما آتاهم من الدِّين والشريعة).)[3].
فقد قال الله في الآية التي تليها؛ الآية التي نحن في حديث حولها: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]، قال صاحبُ المنار: (ولا تتَّبع أهواءهم بالاستماع لبعضهم وقَبول كلامه، ولو لمصلحةٍ في ذلك وراء الحُكْم، كتأليف قلوبهم وجَذْبهم إلى الإسلام؛ فإنَّ الحقَّ لا يُتَوسَّل إليه بالباطلِ)[4].
واحْذَرهم أنْ يَفْتِنوك؛ فهم دُعاة فِتنة وضلال، ولو كانوا دُعاة حقٍّ ونور، لما اعترَضوا على حُكْم الله بطريقة أو بأخرى، ولما طَعَنوا في السُّنَّة بوجهٍ أو بآخرَ.
واحْذَرهم أنْ يفتنوك؛ فإذا وقعتَ في الفتنة، فلن ينفعوك، ولن يُغْنوا عنك مِن الله شيئًا، وستندمُ حين لا ينفع الندمُ.
ولأنَّه ما تَرَكَ خيرًا إلا دلَّ أُمَّته عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، فقد بيَّنَ الفِتَنَ وعدَّد ووضَّح، وكم هي التحذيرات مِن الفِتنِ التي كرَّرها وأكَّد عليها حبيبُنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وكم وَجَّهَنا إلى الالتجاء إلى الله، والاعتصام به مِن الفتن، وأنه لا عاصمَ - لا مِن ذكاء، ولا مِن فِطْنة، ولا مِن حُسْن نيَّة - إذا لم يكُن مِن الله عاصم، فممَّا عَلَّمنا ووَجَّهَنا إليه: الاستعاذة في نهاية كل تَشَهُّدٍ مِن فِتن المحْيا والممات، وكثيرًا ما كان يقول في دعائه: «اللهم مُصَرِّف القلوب، صَرِّف قلوبنا على طاعتك»؛ (رواه مسلم).
ولأنَّنا في وضعيَّة أصبحَتِ الفتنُ تُقَدَّم على أطباقٍ مِن ذَهبٍ كما يُقال، فوراءها مؤسَّسات وجِهات داعمة، بل وقوانين تحْميها وتَفْرضها، وهَيْئَات ومنظَّمات دوليَّة تدعمها وتدعو إليها، فإن الحذرَ يجبُ أنْ يُضاعَفُ، وليكُنْ أشدَّ حذرًا مِن الطائر يرى الحَبَّة، ويرى الشَّرَك، فتدفعه شهوة بطنه للحَبَّة، ويعقله حذرُه مِن الفخِّ الذي نُصِبَ، فيفضِّل السلامة، بل لا خيارَ له غير الحذر، وإلا أصبح صيدًا سهلًا، وليُعْلِنها المرءُ صراحةً إذا ما لمح باب فتنة فُتِحَ: إنَّ هذا فِراق بيني وبينكم.
أسأل الله بحِفْظه ولُطْفه أنْ يحفظنا مِن الفِتَن؛ ما ظهَر منها وما بطَن.
[1] "التفسير الوسيط"؛ أ.د وهبة الزحيلي، ( 1/ 468).
[2] الظلال، ( 2/ 902).
[3] السابق، ( 2/ 903 ).
[4] تفسير المنار، ( 6 / 421 ).