أطع ربك، اخدم دينك، كن إيجابيًا

ما أصاب الأمَّة مِن خَرَاب الذِّمم، وفساد الأخلاق، وظلام في الضمائر، وتبلُّد في المشاعِر، تلاشتِ الفضيلة، وانتشرتِ الرَّذيلة، مالٌ يُغتصب، وعِرْض يُنتهك، غشٌّ في الدوائر والهيئات، خداع في المصالِح والمؤسَّسات، نِفاق في النوادي والتجمُّعات.

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله - - آفاق الشريعة -

ما أصاب الأمَّة مِن خَرَاب الذِّمم، وفساد الأخلاق، وظلام في الضمائر، وتبلُّد في المشاعِر، تلاشتِ الفضيلة، وانتشرتِ الرَّذيلة، مالٌ يُغتصب، وعِرْض يُنتهك، غشٌّ في الدوائر والهيئات، خداع في المصالِح والمؤسَّسات، نِفاق في النوادي والتجمُّعات.

 

البشرية تغُوص في وحْلِها، وتتخبَّط في ظلماتها، وتضطرِب في طريقةِ عيْشِها، ومنهج حياتها، وتتفنَّن في جلْب الدَّمار، وصناعة الموت، يُفاخرون بما يملكونه مِن مقوِّمات التدمير والفناء، كلُّ ذلك حدَث عندما غابتِ الإيجابيَّة، وتربَّعتِ السلبيَّة، حدَث ذلك عندما اهتمَّ كلُّ فرْد بمصلحته الشخصية، ومنفعتِه الوقتيَّة، وحياته الفانية، بعيدًا عن مصالِحِ ومنافعِ وحياةِ المجموع.

 

الإيجابيَّة أمسَتْ عُملةً نادرة، لكنَّها تاجٌ على رؤوس أولئك الذين يربطون الأرْض بالسماء، ويَصِلون الخَلْق بالخالق، ويُعرِّفون العِبادَ بربِّ العباد، ويبثُّون النور الإلهي المتمثِّل في الفِطرة السليمة؛ لتعودَ الرُّوح من جديد في كيان هذه الأمَّة، التي أصبحَتْ صريعةَ الأهواء والشهوات والملذَّات، كالذي يتخبَّطه الشيطان مِن المسِّ.

 

فهل تنهض الأمَّة؟ وهل تتقدَّم أمَّة الإسلام التي تملِك وحْدَها وحيَ الله وسُنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟

 

الكسَل والتماوُت مِن أسباب الفشَل والضياع، والتبلُّد والخمول مِن أسباب السُّقوط والفناء، أما النشاط والحرَكة، فهُما سلالِم المجد وآياتُ الرِّفعة، إنَّ الرجل الناشِط كالماء الجاري، طاهرٌ في نفسه مطهِّرٌ لغيره (يُصلِح نفسَه ويدعو غيرَه)، إنَّه كالرِّيح المرسَلة، لا يستطع الرقود، وإحساسه بنفسه يجعله دائمًا ملبِّيًا للنداءِ، كما قال طَرَفةُ بن العَبْد:

إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي   ***   دُعِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ 

 

لمَّا علِم موسى عليه السلام أنَّ هناك رجلًا أعلمَ منه، ورغب في الأخْذ عنه، والاستفادة منه، قال لخادمه: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60].

 

ولَمَّا دُعي لملاقاة ربِّه، مضى لفوره؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83، 84].

 

إنَّ السلبية يستحيل أن تكونَ مِن خصال الصالحين، والبلادة لا يُمكن أن تكونَ من صِفات المصلِحين، بعدما قال الله له: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148].

 

إنَّ جماهير المسلمين تعيش في غيومٍ كثيفة مِن شؤون الدِّين والدنيا، وقد فقدتْ وجهتها، وضلتْ طريقَها، فلا تدري ما تصنع، الجارُ يشاهِد جاره يسرِق، فلا يُلقي له بالًا، والأخ يرَى أخاه يقتل، فلا يتمعَّر له وجه، والمسلِم الخامل السلبيُّ يرَى دِينه يُهان، فلا يتحرَّك له ساكن، أما المسلِم الحق، والعبد الناشِط، والإنسان الفاهِم، يستفتح يومَه بهذه الكلمة: «أصبحْنا على فِطرة الإسلام وكلمةِ الإخلاص، وعلى دِين نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى مِلَّة أبينا إبراهيم حنيفًا وما كان من المشرِكين»؛ (حديث صحيح، رواه أحمد) .

 

ويتشبَّث بالحقِّ الذي قامتْ به السماوات والأرض، فلا يسمع إلا نبأه، ولا يصحَب إلا أهلَه، ولا يخضع إلا لمنطقته، ولا يَمضي إلا في طريقه، ولا يزال كذلك، حتى يلقَى الله سبحانه؛ ليسمعَ منه هذا القول: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

 

الإيجابية إذًا هي الحياة، هي الاستجابةُ والتلبية، هي المبادَرة إلى الخير، والمسارَعة إليه، والمسلِمون عندما لبَّوا النِّداء، وتجاوبوا مع وحيِ السماء؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31].

 

عندما تفاعَلوا مع هذه الكلمات، وغيرها مِن كتاب الله الذي هو منهجُ حياة، تربَّع على عروشهم أصفاهم قلْبًا، وأزكاهم نفْسًا، وأطهرهم ضميرًا، وأنضجهم عقلًا، قادَهم أتْقاهُم لله، وأرْحمُهم بعِباد الله، وأحْرصهم على حقِّ الله، وأحْفظهم لحدود الله، وأعْلمهم بالحلال والحرام؛ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، أمَّا عندما تمكَّنتِ السلبية مِن قلوب البشَر، تربَّع على عروشهم السلبيُّون، الذين لا يعرفون ربًّا، ولا ينصرون حقًّا، ولا يحفظون حدًّا، ولا يُقيمون فردًا، ولا يُنفذون وعدًا، ولا يراعون عهدًا، ومِن ثَمَّ لا ترتفع لهم راية، ولا ينتصر بهم دِين، ولا تتحقَّق لهم غاية.

 

إنَّ دعوه الإسلام لا تنتصر بأصحابِ المنافع، ولا بأرباب المصالِح، ولا بطلَّاب الدنيا، ولا بالباحثين عن الأضواءِ والشُّهرة، ولا بالمعطِّلين للدعوة الصادِّين عن سبيل الله، وقد حثَّ الله عزَّ وجلَّ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم منذ أوَّل لحظة على الإيجابيَّة؛ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]، وخاطبَهم من قَبل ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1، 2].

 

وأعْلمَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كيف يدعو الناس إلى الله؛ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]، وقد خاطَب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّتَه بما يضمنَ صلاحَها، ويضع عنها وزرَها، ويرفع عنها إصْرها؛ قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47].

 

وحتى تكتملَ الصورة وضوحًا منذ اللحظة الأولى، تُبادر أمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله عنها بمشاركه رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعوتَه، فتؤمِن به حين كفَر به الناس، وتُعطيه حين حرَمه الناس، وتُواسيه حينما تخلَّى عنه الناس، عندما قصَّ عليها ما رآه في غارِ حِراء، تعيش بجوارحها كلِّها معه، وتُطمئنه، وتهدِّئ مِن رَوْعه، وتبشِّره وتسعِده: (واللهِ، لن يخزيَك الله أبدًا، إنَّك لتحمِلُ الكَلَّ، وتَقرِي الضيف، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائبِ الحق).

 

وهذا أبو بكر رضي الله عنه يصِل إلى قمَّة الإيجابيَّة والمبادرة عندَما يأتي بمالِه كلِّه، ويضعُه في حجر رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعندما يسأل: ماذا تركتَ لأولادك؟ يقول: تركتُ لهم الله ورسولَه.

 

وفى حادثهِ الإسراء كان صِدِّيقًا عندما صدَّق أمْرَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قائلاً: (إنِّي أُصدِّقه في خبَر السماء، يأتيه في ساعةٍ مِن ليْل أو نهار)؛ لذلك قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، وعند وفاة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم طمْأنَ القلوب المضطربة، وثبَّت النفوس المتردِّدة، فقال: (مَن كان يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت)، ثم تلا قولَ الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

 

وهو الذي أنْفذ بَعْثَ أسامة قائلاً: (والذي نفس أبى بكْر بيده، لو ظننتُ أنَّ السباع تخطفني لأنفذتُ بعْثَ أُسامه، كما أمَرَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو لم يبقَ غيري في القُرى لأنفذتُه).

 

وهو الذي حاربَ المرتدِّين ومانعي الزكاة قائلاً: (أينقصُ الدِّين وأنا حيٌّ، واللهِ لو منعوني عقالَ بعِيرٍ، لَجالدتُهم عليه)، رغم كل هذه التبِعات والمسؤوليات لم ينسَ مجتمعه مِن عطائه وخِدْماته، كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبعض الصحابة، فسألهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن أصبح اليوم منكم صائمًا» ؟، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، «مَن تبِع اليوم منكم جِنازة» ؟، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، «مَن عاد اليوم منكم مريضًا» ؟، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، «مَن أطْعَم اليوم منكم مسكينًا» ؟، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخَل الجَنَّة»، كانت الإيجابيَّة تصاحِب أبا بكر رضي الله عنه في كلِّ مكان.

 

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (ولما أسْلَم عمر بن الخطاب، لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أيُّ أهْلِ مكَّة أَنْقلُ للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، فخرَج إليه وأنا معه أتَّبع أثرَه، وأنظُر ما يفعل، وأنا غلامٌ أعقِل كلَّ ما رأيتُ وسمِعْتُ، فأتاه، فقال: يا جميل، إني قد أسلمتُ، فواللهِ ما ردَّ عليه كلمه حتى قام يجرُّ رِداءَه، وتبعه عمرُ، واتبعتُ أبي، حتى قام على باب المسجد، صرَخ بأعْلى صوته: يا معشرَ قريش - وهم في أنديتهم حولَ الكعبة - ألا إنَّ عمر بن الخطَّاب قد صَبَأ، وعمر يقول مِن خلْفه: كذبتَ، ولكنِّى أسلمتُ، وشهدتُ ألَّا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، فثاروا إليه، فوثَب عمر على عُتبةَ بن ربيعة، فبرَك عليه، وجعَل يضربه، وأدْخل إصبعيه في عينيه، فجعَل عُتْبة يصيح، فتنحَّى الناس عنه، واتَّبع عمر المجالسَ التي كان يجلسها بالكُفْر، فأظْهَر فيها الإيمان).

 

وفى يوم الفُرْقان، يوم الْتقى الجمعان تجلَّتِ الإيجابيَّة في أعظمِ أشكالها، فهذا سعْدُ بن معاذ يقول لقائده ونبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: (قد آمنا بك فصدقْناك، وشهِدْنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعْطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السَّمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِمَا أردتَ، فوالذي بعثَك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ، فخُضتَه لخضناه معك، ما تخلَّف منَّا رجل واحد، إنَّا لصُبر في الحرْب، صُدق في اللِّقاء، ولعلَّ الله يُريك منا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركه الله)، بعد أنْ خرجوا مِن أجْلِ العِير، جلسوا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووعظَهم ونصحهم: «والذي نفسُ محمَّد بيده لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابرًا محتسبًا، مقبلًا غيرَ مُدبِر، إلا أدْخله الله الجَنَّة»؛ "سيرة ابن هشام".

 

قالوا: (خُذْ مِن أموالنا ما شئتَ، واترك منها ما شئتَ، إنَّ الذي تأخذه أحبُّ إلينا مِن الذي تتركه).

 

وهذا الحُبَاب بن المنذر يُشير بتغوير ما وراءَ الآبار (تخريبه)، ثم بناء حوضٍ يملأ بالماء، فيشرب المسلمون، ولا يشرب الأعْداء، فأخذ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمشورته، وهذا المِقداد رضي الله عنه يقول: (يا رسولَ الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهبْ أنتَ وربُّك فقاتلاَ إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنتَ وربُّك فقاتلاَ إنَّا معكما مقاتلون)، فسُرَّ رسولُ الله، وأشرق وجهُه.

 

وفي الخندق أشار سَلْمان الفارسيُّ بحفْر الخندق، فكان سببًا في نصْر الإسلام والمسلمين، حتى قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «سليمان منَّا أهلَ البيت».

 

ونِداءُ الحق الذي يَصْدع عبرَ الآفاق، ويبقى بقاءَ السماء والأرض، رؤيةٌ رآها الصحابي عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وصدَّقها عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وأضاف إليها بلالُ بن رَباح رضي الله عنه: (الصلاة خيرٌ من النوم) رضي الله عنهم جميعًا، وأقرَّ ذلك رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكان نداءَ الصلاة.

 

في قصَّه الرجل الذي جاءَ مِن أقْصى المدينة يسعى، قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]، كم من الجهد بذَل، وكم مِن الثمن دفَع، وكم مِن المسافةِ قُطِعت لإنقاذ حاملِ الحق! إنَّه الإيمان بالفِطرة، والحِفاظ على الدعْوة وتأمين طريقها!

 

وهذا داعيةٌ آخَرُ إيجابي؛ مؤمِن آل يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 20 - 25].

 

إنَّها قِمَّة الإيجابية في استجابة الفِطرة السليمة لدعْوة الحقِّ المستقيمة، رجلٌ سمِع الدعوة فاستجابَ لها، وحينما استشعرَ حقيقة الإيمان تحرَّكت في ضميره، فلم يستطعِ السكوت، ولم يقْبعْ في داره بعقيدته وهو يرَى الضلال مِن حوله، والفسادَ مِن فوقه ومِن تحته، يستشري في الحياة كلِّها، وإنَّما سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره إلى قومه، يرْفع لِواءَه، ويستظل بظلِّه، ويَمضي في طريقه.

 

وهذا رجل ثالث بعدَ أن صبَّ الطاغية فرعون بطشَه على بني إسرائيل، فكَّر في قتْل موسى ومَن معه، فعُقِدت المؤتمرات، ودارت المحاورات، وكثُرت المشاورات؛ للخلاصِ مِن الحقِّ وأهله، وبَيْنما هم يتشاورون إذا برجلٍ منهم إيجابيٍّ كان يكتم إيمانَه بموسى مِن قبل، فلمَّا رأى تآمُرَهم على قتْل موسى، ضاق زرعًا وامتلأ غيظًا، واستشاط غضبًا لله؛ {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].

 

إنَّه أقام الحُجَّة على فرعون وجنوده، بأجملِ إشارة، وأحلى عبارة، ثم فوَّض أمرَه إلى الله، معلنًا كلمة الحقِّ في وقتها.

 

يقول صاحِب الظلال سيِّد قطب رحمه الله: (التَّبِعة فردية، والحِساب شخصي، وكل نفْس مسؤولة عن نفسها، ولا تُغني نفس عن نفس شيئًا، وهذا هو المبدأُ الإسلامي العظيم، مبدأ التبِعة الفردية القائِمة على الإرادة والتميُّز من الإنسان، وعلى العدْل المطلق من الله، هو أقومُ المبادئ التي تُشعِر الإنسانَ بكرامته، والتي تستجيش اليقظةَ الدائمة في ضميره، وكلاهما عاملٌ من عوامل التربية، فوقَ أنَّه قيمةٌ إنسانية تُضاف إلى رصيده مِن القِيم التي يُكرمه بها الإسلام).

 

المسلم الإيجابي يدعو إلى الخير، ويأمُر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويتذكَّر قولَ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: «والذي نفسي بيدي، لَتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم»؛ (رواه الترمذي) .

 

في قِصَّه الملِك والساحر والغلام، كان الغلامُ إيجابيًّا: (باسمِ الله ربِّ الغلام) في دعوة الناس إلى الخير، وكانتْ ثمرةُ الإيجابيَّة إيمانَ أهْل القرية وثباتَهم على الحقِّ والإيمان، ضدَّ الظُّلم والطغيان.

 

وتفقَّد سليمان الطير، فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20].

ردَّ الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، رغم بُعْد الطريق، وطول المسافة، استطاع الهُدهد أن يأتي بتقرير لسليمان، كان على أثره دخولُ مملكة سبأ في دِين الله، حتى الملكة قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

 

الهُدهد لم يكن سائحًا يُمتِّع نظره بالمشاهد الجديدة، أو يرفِّه نفسه بالمناظر الجميلة، وإنما كان همُّه هو دينَ الله وشريعته ومنهجه، كيف يعتقُ هذه الرِّقابَ التي عبَدَت غير الله، آلَمَه ذلك، لكن ماذا يفعل؟ أيخاف ويسكت؟ أيرْضى ويمشي؟ كلَّا إنَّه موحِّد بالله؛ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، إنَّه رأَى شذوذًا عن منهج الله، فنقَل الأمر إلى صاحب الأمر، وهذه إيجابيَّة عظيمة، وهمَّة عالية، كان سليمان في فلسطين، وكان عرْش بلقيس في اليمن، ولم يُؤمر الهدهد بشيءٍ من ذلك، أمَّا الآن فإنَّ آفة الأمَّة - حتى بعض العقلاء منها - الوقوف إلى أن تُؤمَر، سلبييَّة إلى أن تُحرَّك، ينتظر مَن يقول له: افعل، أو لا تفعل، كأنَّما احتقر عظيمًا وهبَه الله إيَّاه، فعطَّل في نفسه الذاتية والإيجابية، والتفكيرَ في مصير الأمَّة.

 

لقد كانت إيجابية النملة في تحذيرِ قومها مِن الأخطار المحدِقة بهم، فأمَرَتْ وحذَّرتْ واعتذرتْ لسليمان وجنودِه بعدم الشُّعور، وخاطبت قومَها بالقول السديد، والرأي الرشيد؛ {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فهل فكَّرتَ يومًا في تحذير قومِك من مؤامرات الأعداء؟

 

إنَّها الإيجابيَّة في أبْهى صورها، والعِزَّة في أشمل معانيها، وعلى دُعاةِ اليوم أن يستجيبوا لمطالِب دِينهم، ويعتَزُّوا بإسلامِهم، ويُباهوا بعقيدتهم، ويُفاخِروا بدعوتهم، ويُباهوا بعقيدتهم.

 

إنَّ عمر رضي الله عنه لُقِّب بالفاروق؛ لأنَّه بعد إسلامه قال: يا رسولَ الله، ألَسْنا على الحقِّ، إنْ متنا وإنْ حيينا؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده إنَّكم على الحق، إنْ متم وإنْ حييتم»، قال: ففيمَ الاختفاء؟! والذي بعثَك بالحقِّ لنخرجنَّ، وخرَج الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر، ولهم ككَديد الطحين، ونظرتْ قريش إلى عمر وحمزة، فأصابتهم كآبةٌ لم تصبْهم قبلَ ذلك قطُّ، ومِن هنا سمَّاه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم الفاروق، وصدق الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

 

وهو الذي قال يومًا: (لقد أعزَّنا الله بالإسلام، ولو ابتغيْنا العِزَّة في غيرِ الإسلام أذلَّنا الله).

 

ورحِم الله مَن قال:

أَبِي الْإِسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ     إِنِ افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ 

 

دُعاة اليوم هم مشاعِل النور في أمَّةٍ طال عليها اللَّيْل، وطلائع الأمَل في أمَّةٍ تناثر فيها القنوط، وبوادر اليَقظة في أمَّة عمَّ فيها السُّبات، ومصابيح الحق في أمَّة غاب عنها النور، وينابيع الرَّحْمة في عالَم أجدبتْ فيه الدنيا مِن رُسُل المودَّة واليقين، فلا يجوز لمسلِمٍ أن يبخلَ بوقته أو جهده أو مالِه لدنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يَنكِحُها، أو ولدٍ يرجو له مستقبلًا يفخر به، أو يورثه الطريق، يكون له دعوةً صالحة بعدَ فِراقه لهذه الدُّنيا الفانية.

 

هل مِن الحباب بن المنذر، أو المِقداد، أو سلمان في عصْرنا؟! هل مِن مؤمن آل فرعون، أو آل يس؟! هل مِن غلام يَغار على دِينه وعقيدته، وقِيَمه المسلوبة، وحقوقِه المنهوبة، ويُقدِّم رُوحَه اعتراضًا على الظلم، وصدًّا للطغيان، وفداءً للإيمان، وقربانًا للحقِّ، وثمنًا لجنَّة عرْضُها السماوات والأرض؟! هل مِن طفل كمُعوّذ بن عفراء، أو معاذ أخيه، يقاتل أبا جهل - وكم مِن أبي جهل الآن! - بمجرَّد أنَّه سمعه يسبُّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! هل مِن هُدهد جديد يُعبِّد الناسَ لربِّ الناس؟! هل مِن نملة جديدة تحذِّر المسلمين من مخاطرِ الطريق، ومؤامرات الأعداء، ومكْر الظالمين وخِداع المنافقين؟! {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27].