شهر رجب في ميزان الفقه الإسلامي
-العتيرة هي ذبيحة كان يذبحها أهل الجاهلية في شهر رجب خاصة، وجعلوا ذلك سنة متبعة فيما بينهم كذبحنا أضحية في عيد الأضحى.
- التصنيفات: ملفات شهر رجب والإسراء والمعراج -
كتب الشيخ/ عبدالله رفيق السوطي
-الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد عشت ردحاً من الزمن في موطن رأيت فيه- ولسنوات- أن أغلب كبار السن من الذكور والإناث يصومون شهر رجب كما يصوم عامة المسلمين رمضان لا يخرمون منه يوماً! -وهم على ذلك حتى اللحظة- فكنت كثيراً ما أُسائل نفسي: لماذا هذا الصيام! ولماذا لا يصوم كل المسلمين! ولماذا كبار السنّ فقط! وهل رجب فُرض صيامه على كبار السنّ حصراً دون غيرهم ! وأين الوعّاظ والعلماء ما يحدّثونا عن فضائله بما صحّ من قول أو فعل أو تـقرير للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لماذا لا نرى نصّاً عن صيام شهر رجب في القرآن الكريم مادام هؤلاء يصومنه ويجهدون أنفسهم لذلك وفي كل عام.
-كل هذه الأسئلة وغيرها ساقـتـني للبحث والقراءة في الموضوع بعمق منذ سنين طويلة، فوجّدت أن ربنا المشرّع -سبحانه- أمر عباده باتباع شرعه وعدم تجاوزه بأي عبادة مهما كانت نوايا العُبّاد حسنة، وأن التشريع خاص به، ومن شرّع لنفسه فقد عبد مع الله غيره، ولو كان باسم العبادة نفسها، وتلك العبادة لله تعالى، كيف وقد قال: ﴿ {أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ} ﴾ [الشورى: ٢١]، ووجدت حديثا في المتفق عليه اتخذته طريقي ومنهج حياتي -وهو كذلك لكل مسلم- فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ )» ، وَفِي لَفْظٍ: «( مَنْ عَمِلَ عَمَلاٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )» ، فَهُوَ رَدٌّ : أَي مردودٌ، بمعنى: من ابتدع واخترع واستحسن عبادة ليست بمنصوص عليها في كتاب الله ولا سنة رسول الله فعبادته تلك مردودة عليه؛ لأنه مأمور بالاتباع لا بالابتداع، والمشاغبة في دين الله تمثّل خطرا عظيما على صاحبها أعظم من رد عبادته عليه، (واتـبعوا ولا تبـتدعوا فقد كُفيتم) كما قال ابن مسعود، فما من خير إلا ودلنا عليه ديننا، وما من شر إلا وحذّرنا منه، أفسيأتي فلان وفلان فيكونوا أحرص من المشرّع الأول صلى الله عليه وسلم وهو القائل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ««أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ»» [رواه مسلم] ، ولم توصله تقواه وخشيته -وكل من اتبعه- إلا للالتزام بأمر الله ونهيه: ﴿فَماذا بَعدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنّى تُصرَفونَ﴾[يونس: ٣٢]، {﴿قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾} [يوسف: ١٠٨]، فالعبادات لابد لها من دليل شرعي صحيح لا مطعن فيه؛ لنــتعبد الله بها، والعبادة الصادرة عن جهل كثيرا ما تصل للبوار، وكل عبادة شرّعها البشر من تلقاء أنفسهم فهي مرودة عليهم، وفوق ذلك يتحمّلون وزرها ووزر من اتبعهم فعملها، والعبادة لابد لقبولها من شرطين : الإخلاص لله، ومتابعة شرعه فيها، ورحم الله الإمام الثوري حين قال: "كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة".
*وبعد:*
فـإن من أكثر شهور السنة الهجرية ظهورا للبدع والخرافات والحماقات والجهالات هو شهر رجب، كما يقال شهر العجب؛ فيحدث الجهلة من الناس ويستحسنون فيه شرائع ما أنزل الله بها من سلطان، يقف المرء مستغربا لحال أصحاب تلك الطقوس التي ما عرفها نبينا صلى الله عليه وسلم ومن سار على سنـته، ومن تلك المبتدعات:
*1-صيام شهر رجب:*
-الصيام في أصله عبادة طيبة عظيمة، وباب من أبواب الجنة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ»، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ» رواه النسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم وصحّحه الألباني، وغير هذا كثير من الأحاديث المرغّبة في صوم النافلة، وقد جاء في حديث ضعيف عَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا : أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ انْطَلَقَ فَعَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَنَةٍ, وَفِى رِوَايَةِ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَهَيْئَتُهُ, فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ :« وَمَنْ أَنْتَ؟ », قَالَ : أَنَا الْبَاهِلِيّ الَّذِي جِئْتُكَ عَامَ أَوَّلٍ قَالَ :« فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ », قَالَ : مَا أَكَلْتُ طَعَامًا مُنْذُ فَارَقْتُكَ إِلاَّ بِلَيْلٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« وَلِمَ عَذَّبْتَ نَفْسَكَ؟ صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَوْمًا ». قَالَ : زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً قَالَ :« صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَوْمَيْنِ ». قَالَ : زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً قَالَ :« صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ». زَادَ الراوي عَبْدُ الْوَاحِدِ :« مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ». قَالَ : زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً قَالَ :« صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ ». يَقُولُهَا ثَلاَثًا. وَفِى رِوَايَةِ مُوسَى قَالَ : زِدْنِي قَالَ :« صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ. صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ. صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ ». وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثِ فَضَمَّهَا ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا)) والحديث قد ضعّفه جمهور المحدثين، لكن لو افترضنا صحته فإنه يحث على الصيام من الأشهر الحرم كلها التي هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، فهذه هي الأربعة الأشهر الحرم ورجب منها بلا شك، وهي المذكورة في قوله تعالى: {(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)} [التوبة36] ، أما تخصيص شهر رحب وحده بالصيام -وكلّه لا بعضه وحسب-، واعتقاد سنية ذلك الصيام وفضله، وتشبيهه برمضان، فهذا الذي ننكره وبشدة ونحذّر منه في مثل هذا المنشور وغيره، وقولي هذا ليس بدعاُ من القول بل قد سبق لإنكار ذلك جماهير العلماء، وأكتفي بالنقل عن بعض المحققين من أهل العلم المشهورين: فقد قال إمام الحديث والمحقق الكبير والحافظ الحجة ابن حجر العسقلاني في كتاب ألّفه عن بدع وعجائب ما يحدث العوام في هذا الشهر من عبادات فأسمى كتابه المطبوع حاليا: تبـيــين العجب فيما ورد في فضل رجب قال في أوائل صفحاته: «لم يردْ في فضلِ شهرِ رجبٍ، ولا فِي صيامِه، ولا صيامِ شيءٍ منه معيَّنٍ، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصةٍ فيهِ حديثٌ صحيحٌ يصلحُ للحجَّةِ، وقد سبقني إلى الجزمِ بذلك الإمامِ أبو إسماعيل الهرويُّ الحافظُ، رويناهُ عنه بإسنادٍ صحيحٍ، وكذلك رويناهُ عن غيرِه», وقال أيضاً:(( "وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة: فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة، ونحن نسوق الضعيفة، ونشير إلى الموضوعة إشارة مفهمة"))ا. هـ, ثم شرع في سوقها وبيان ضعفها أو وضعها، والكشف عن رجال إسنادها من الضعفاء والوضّاعين.
وقال الحافظِ ابنِ رجبٍ رحمه الله في كتاب له بعنوان: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف قال: «وَأَمّا الصِّيَامُ: فلمْ يَصِحَّ في فضلِ صومِ رجبٍ بخصوصِه شيءٌ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه». وبمثل قولِ الحافظِ ابنِ حجرٍ وابن رجبٍ رحمهما الله قال كثيرٌ من العلماءِ المحقِّقين كابن تيمية قال: ("وأما صوم رجب بخصوصه: فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات")، وقال تلميذه ابنُ القيِّم رحمه الله في كتابه (المنار المنيف): «وكلُّ حديثٍ في ذكرِ صومِ رجبٍ وصلاةِ بعضِ اللَّيالِي فيهِ؛ فهُو كذبٌ مُفترى».
ومن أقوال العلماء أخيرا أنقل قول الإمام العلاّمةُ المحقّق المحدّث الحجة الشوكانيّ رحمه الله في كتابه( السيل الجرار) وقد شمل كلامه كلما نريد قال: «لم يردْ في رجبٍ على الخصوصٍ سنّةٌ صحيحةٌ، ولا حسنةٌ، ولا ضعيفةٌ ضعفاً خفيفاً؛ بل جميعُ ما رُوي فيه على الخصوصِ؛ إمّا موضوعٌ مكذوبٌ، أو ضعيفٌ شديدُ الضَّعفِ».
وفي ختام هذا المبحث أسوق حديثا في المتفق عليه «عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (" كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ "» ولو صدقوا في عبادتهم لعملوا وفق سنة نبيّهم صلى الله عليه وسلّم.
*2-صلاة الرغائب:*
-لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوّره فلو تحدّثنا في البداية عن صفتها سائقا الحديث الموضوع الذي ذكرها، ثم أنقل كلام بعض العلماء المحقّقين في حديثها وبدعيتها، فعن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:( "ما من أحد يصوم يوم الخميس (أول خميس من رجب) ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة يعني ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة و((إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ)) ثلاث مرات، و((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) اثنتي عشرة مرة ، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة ، فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين، فيقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت العزيز الأعظم ، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله حاجته ، فإنها تقضى" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده ، ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال ، وورق الأشجار ، ويشفع يوم القيامة في سبعمئة من أهل بيته ممن قد استوجب النار").
هذا الحديث وغيره من أحاديث إثبات صلاة الرغائب ذكرها وبيّن كذب ووضع وبطلان تلك الأحاديث ابن حجر في كتابه السابق (تبـيــين العجب فيما ورد في فضل رجب) وكان مما قاله بنصه: (وهذا حديث موضوع ظاهر الوضع، قبّح الله من وضعه فوالله لقد وقف شعري من قراءته في حال كتابته، فقبّح الله من وضعه، ما أجرأه على الله وعلى رسوله، والمتهم به عندي: داود بن الحبر، أو العلاء بن خالد، كلاهما قد كذب، ومكحول لم يدرك أبا الدرداء، ولا والله ما حدث به مكحول قط، وقد رواه عبد العزيز بن أحمد الكسائي، بطول في كتاب " فضائل شهر رجب " من طريق الحارث بن أسامة: عن داود بن المحبر)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث صلاة الرغائب: (إنه موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة بالحديث)، وقال مرّة في الفتاوى: ( والأثر الذي ذُكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً)، ونقل الاتفاق أيضاً ابن النحاس في كتابه تنبيه الغافلين قال: (وهي بدعة-أي صلاة الرغائب-، والحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين)، وقال ابن القيم: (وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري وأبو بكر بن السمعاني وأبو الفضل بن ناصر وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون؛ لأنها أُحدثت بعدهم، وأوّل ما ظهرت بعد الأربعمائة، فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها].
وقد أوضح الطرطوشي بداية وضعها فقال: (وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابلس، يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك).
وأخيراً أذكر كلام الإمام النووي إذ قال عن صلاة الرغائب: (هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها).
*3-الإسراء والمعراج:*
-هذه الليلة ليلة عظيمة جد عظيمة، وحدث ضخم وفوق المتصّور، وبُوركت تلك الليلة لعظمة الحدث الذي وقع فيها، لكن شاءت إرادة الله أن لا يُنقل إلينا تاريخ وقوعها؛ ولهذا اختلف العلماء كثيرا متى كانت تلك الليلة، فلقد قال ابن تيمية: (لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به)، وقال ابن حجر ناقلا عن ابن دحية: "وذكر بعض القصّاص أن الإسراء كان في رجب، قال: وذلك عين الكذب"، وقال ابن رجب: "وروي بإسناد لا يصح، عن القاسم بن محمد، أن الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره".
وحتى لو ثبت تعيين ليلة الإسراء والمعراج فإنه لا يشرع لأحد تخصيصها بشيء من عبادة؛ لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من صحابته أو التابعين لهم بإحسان أنهم جعلوا لليلة الإسراء مزية عن غيرها، بل لم يهتموا بنقل ليلة وقوعها فضلاً عن الاهتمام بالتعبّد فيها، وقد نُقلت إلينا السيرة النبوية ولم ينقل تاريخ وقوعها، ثم لو كان لها مزية لذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وقوعها ضمن حديثه عن الأحداث التي وقعت له من فرض الصلاة وغيرها، لكن كل ذلك لم يحدث، وإذا كان كذلك فلا عبادة إلا وفق ما شرع الله ورسوله وإلا فهي مردودة على صاحبها، وهكذا نقول في إقامة الاحتفالات بذكراها، وما يتضمنه الاحتفال بها من بدع ومنكرات.
*4-عتيرة رجب:*
-العتيرة هي ذبيحة كان يذبحها أهل الجاهلية في شهر رجب خاصة، وجعلوا ذلك سنة متبعة فيما بينهم كذبحنا أضحية في عيد الأضحى.
وقد اختلف أهل العلم في حكمها: فذهب الأكثرون إلى أن الإسلام أبطلها، واستدلوا بحديث في المتفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ» وَالفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ وفي اليوم العاشر منه؛ تقربا وعبادة، وسُمّيت عتيرة؛ لأنها تُعتّر أي تذبح، وما ورد من حديث في إثباتها فليس في الصحيحين ومن صحّحه فقد ذهب جماهير العلماء إلى نسخه كما نقل النووي في "شرحه لمسلم" عن القاضي عياض قوله : " إن الأمر بالعتيرة منسوخ عند جماهير العلماء " وكذا قال ابن المنذر وعلّل النسخ؛ لتأخر إسلام أبي هريرة، وأن الجواز كان في صدر الإسلام ثم نُسخ، وقال الحسن البصري: "ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم ويعتر".
*5-العمرة في رجب:*
-قد ورد حديث في المتفق عليه يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب لكن أنكره جمهور العلماء بل أنكرته عائشة في يوم تحديث ابن عمر به وسكت ابن عمر ونصّه: «( سأل مجاهدُ وعروةُ ابنَ عمر كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرْبَعَ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمَّاهْ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَتْ: مَا يَقُولُ قَالَ: يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمُرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، قَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلاَّ وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ)» أي وهو حاضر معه، تريد عائشة المبالغة في نسبة النسيان إلى ابن عمر رضي الله عنهما وسبحان الذي لا ينسى، ومثلما قالت عائشة قال جمهور الفقهاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط، ففي حديث أنس في البخاري عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ قَالَ: (" اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةً مِنَ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ ")، ولا يعني هذا أن العمرة في رجب مكروهة، أو لا أجر فيها، أو بدعة أبدا وإنما القصد: أنه لا مزية للعمرة في رجب عن غيره من الأشهر إلا رمضان ففي البخاري وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ؟»، قَالَتْ: أَبُو فُلاَنٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا، قَالَ: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» يعني في الأجر لا في إسقاط الفرض باتفاق الفقهاء.
*6-الزكاة في رجب:*
وهكذا لا مزية لشهر رجب عن غيره بإخراج زكاة أو صدقة فيه، وأنقل كلام الإمام ابن العطّار قال: "وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له ، بل حكم الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجباً أو غيره"، وقال الحافظ ابن رجب: «وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فقدِ اعتادَ أهلُ هذِه البلادِ -يعني: بلادَ الشَّامِ- إخراجَ الزكاةِ في شهرِ رجبٍ، ولا أصلَ لذلك في السنّةِ، ولا عُرِف عن أحدٍ من السَّلفِ».
*7-نسف ادعاء حوادث رجب العظيمة:*
قال ابن رجب: «وقد رُوي: أنّه كان في شهرِ رجبٍ حوادثُ عظيمةٌ و لم يصِحَّ شيءٌ من ذلك».