(3) المسلمون والعصرانية
عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
العالم الإسلامي أمام العصرانية
- التصنيفات: الإسلام والعلم - - ثقافة ومعرفة -
العالم الإسلامي أمام العصرانية:
كان العرب ومن حولهم من الأمم – قبل الإسلام – يتشبثون بعقائد خرافية، ويتدينون بنحل منحرفة عن سواء السبيل، ويحكمون حياتهم بأعراف، وتقاليد رفعوها من أنفسهم، وحاكوا فيها من يجاورهم من أقوام.
بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – من بين العرب بدين الإسلام، فقدم للناس دين ربه، من خلال وحي إلهي تلقاه.
– عقائد يقينية قي قضايا الوجود التي تهم الإنسان في حياته.
– وأحكاماً عبادية، وخلقية، واجتماعية كاملة في كل شؤونه.
{وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً}[27]. [سورة الأنعام: 115].
وتلقى العرب ثم من حولهم هذا النور المبين والحق الشافي، فاستقامت به حياتهم الفكرية والعملية، واستوت به حضارتهم المتفردة بجمعها بين العلم الصحيح، والخلق القويم.
واعتصموا بهذا الهدي من التيه مع التائهين.
ولكن الأمة الإسلامية لم تبق على هذا الاعتصام الذي كان عماد رشادها في قرونها الأولى.
بدأت ترتخي يدها في الاستمساك بحبله شيئاً فشيئاً، وتضعف صلتها به، وتتقبل بدائل من خارجه في عاداتها وعباداتها، بل وعقيدتها، فشاعت البدع والضلالات في العقائد والعبادات.
وتحكمت الأعراف والعادات في السلوك والعلاقات.
وفشا الجهل بالدين، مما أدى إلى إنقلاب المفاهيم، وتلاعب الدجالين فيهم.
وتقهقروا فكرياً في كل جوانب العلم فقهاً وإيماناً وعلوم وسائل، حتى هيمنت النصوصية التي كان منتهى طالب العلم منه، حفظ النص، وفك بعض رموزه، أو حفظ القواعد دون تطبيق لها في حركته العلمية والعملية.
وهكذا أصبحت حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العصور المتأخرة حياة راكدة متخلفة مهترئه[28].
كان العالم الغربي في هذا الوقت الذي يسير فيه العالم الإسلامي في طريق التقهقر فكرياً، وحضارياً – في فورة نهضته المدنية وانطلاقته التحررية – خاصة من إسار الكنيسة – حيث بدأت تتشكل لديه ملامح تقافة حضارية فاعلة.
وهكذا:
منذ قرنين تقريباً التقى المسلمون بالغربيين لقاءً مختلفاً عن لقاءاتهم السابقة بغيرهم من الأمم، لقاءات الفتح والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلام الكفر إلى نور الحق والإيمان.
أجل.
لقد كان هذا اللقاء الأخير تفاعلاً فكرياً بين طرفين:
الغرب.
والمسلمين.
الغرب ممثلاً بثقافة حية متوثبة، سواء في علمهـا التقني التطبيقي أو في فلسفاتها الاجتماعية، أو في مواقفهـا الحادة الثائرة، بعداً عن الدين واستهتاراً بالأخلاق، وتهالكاً على المادة، وطموحاً إلى التغيير والسيطرة داخل بلادها، وخارج حدودها. والمسلمين ممثلين بثقافة ذات أساس علمي مكين، لأنه وحي إلهي معصوم. ولكنها في واقع حياتهم متكلسة متقهقرة محتاجة إلى البعث والإحياء.
وفي دائرة هذه المعادلة أطل الغرب على المسلمين، فأخذ زمام المبادرة منهم في تحريك جوهم الساكن، الذي سكن معه مركبهم، وراح يقذف على المسلمين أنواعاً من المشاريع النهضوية التي تستهدف إحداث تغيير ثقافي، مستغلاً كل القنوات المتاحة التي من أهمها تَنَفُّذُهم الفكري والتعليمي، والسياسي، في فترة الإستعمار، أمَا أهمها: فهم أبناء العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو استهوتهم أحواله، وبهرهم بريقه، ومن ثم أشربوا مذاهبه فحملوها إلى بلادهم على أنها طوق النجاة من الواقع الأليم لأمتهم العربية والاسلامية، وهؤلاء هم رواد العصرانية الأوائل في العالم الإسلامي[29].
وهكذا ابتدأت حركة العمرنة عند المسلمين، من واقعهم كان منطلقها: المسلمون متخلفون، وبحاجة إلى نهضة وبعث.
وهذا ما لا يخالفهم فيه غيرهم من المسلمين.
إنما الخلاف فيما وراء ذلك في منهج النهوض الذي يلوح به العصرانيون وهو أن تقام حياة المسلمين على أساس ما انتهى إليه الفكر البشري في هذا العصر في سائر النظم والمعارف والفنون.
ما هو هذا الفكر البشري؟
إنه فكر الغرب – فلسفاته، ونظمه، وآدابه.
وهكذا اكتمل المسلسل.
إنحراف من المسلمين عن دين ربهم، أورثهم إنحطاطاً، وتخلفاً، هيأ هذا التخلف ساحتهم لتعلو فيها صيحات العصرانيين، بل هيأ كثيراً منهم لتقبل العصرانية.
ومع هذا فإن للغرب ذاته إستعماراً، واستشراقاً، وتنصيراً، وتغفيلاً دوراً قوياً في دعم مسيرة العصرانية بتمكين رجالها من المناصب، وسلخهم عن دينهم ما استطاعوا إلى ذلك طريقاً.
وقد سلكت العصرانية في العالم الإسلامي مسلكين:
1 – مسلك الدعوة الصارخة والفرض الحاسم للاندفاع في حضارة العصر والتضحية بمن يعوق عن ذلك من دين وتقاليد، بل والتضحية بمن يعوق ذلك من الذين يقفون أفراداً وحركات في وجه مسخ الأمة المسلمة.
وقد تم ذلك بوسيلتين:
* بقوة الحكم والتطبيق العملي كما فعل أتاتورك، وجمال عبدالناصر، وبورقيبة، وأحزاب البعث.
* بحركة الفكر من قبل المنسلخين من إهاب أمتهم، كما تعكسه دعواتهم الحركية – مثل: طه حسين، وعلي عبدالرازق، وزكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم، وفؤاد زكريا، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وكثير من الوضعيين، واليساريين، والوجوديين.
2 – مسلك العصرنة العملية التخطيطية التي ئغمئرن شؤون الدولة في نظمها، وحياة الناس في جوانبها المختلفة، من خلال الإقتصاديين في الإقتصاد، والسياسيين في المبادىء العامة، وأهل الأدب والفن في مشاعر الناسى ورؤاهم، وأهل الفكر في مجالات العلم، وطرائق التربية، ومناهج التعليم، وهلم جرا.
والعصرانيون في البيئة الإسلامية أنواع:
– ما بين منسلخ من الإسلام ملقحٍ بمذهبية بديلة، ومن ثم يشعر أن وجوده في البيئة الإسلامية، وفي مجتمع يحكمه الإسلام لا قيمة له ولا فاعلية، ما دام أن الإسلام الذي انفصل عنه هو المهيمن والمعيار، ولذا يحاربه.
– أو معاد لعلماء الإسلام والملتزمين به لا يجد سبيلاً لثأره منهم، إلا بمحاربة الدين الذي يحملونه.
– أو نصراني لا يسعده أن يسود الإسلام في أرض هو فيها.
– أو صنيعة من صنائع الأعداء يهدف معهم إلى كسر شوكة الإسلام طلباً لعرض من الدنيا، أو نتيجة غسيل مخ تم له[30].
– أو مخدوع يجهل حقيقة الإسلام وحقيقة العصرانية، ولا يدري أن هذه العصرنة إفساد في الدين وانحراف عن سبيله.
– أو لا مبال بأمر دينه – الإسلامي – ترك قياده لثلة الأصدقاء، أو لزملاء العمل، أو لمصطادي الفارغين، فكان أن استهووه في تيار العصرانية ليكثر سوادهم، أو يتشيع لهم، أو يخدمهم بمركزه، أو يروج لهم في أوساطه، وبين أترابه، وربما كان أكثر هذه الفئة الأخيرة من الشباب الذي فقد حضانة سليمة، فأصابوا منه مقتلاً باحتضانهم له لتسخيره، وإن لم يع من عصرانيتهم شيئاً، إلا السخرية بالدين وسب حملته، والإكبار لكل ما عند الغرب، لأنه من عند الغرب.
* واقع الأمة تحت تسلط العصرانية:
وتظاهرت أمور عديدة لخدمة العصرانية:
1 - الإستعمار الغربي بجيوشه، واستشراقه، وتنصيره.
2 - الابتعاث إلى الغرب.
3 - الحكومات المنحرفة التي هيأت للعصرانيين وسائل التممير في المجتمعات المسلمة، وحاربت بالمقابل الاتجاه الإسلامي.
4 - السرطان الشيوعي الذي جند عملاءه اليساريين لتدمير الدين والقيم، إلى غير ذلك. مما جعل الخناق يحكم بشدة على الأمة المسلمة، حيث أورث:
– واقعاً حياتياً للمسلمين ممسوخاً بعيداً عن الدين، ضائعاً في وجهته، يزداد إنحطاطاً، وتدهوراً، متقلباً بين شعارات العصرانيين من ليبرالية إلى إشتراكية، إلى ماركسية، إلى قومية... ما بين تبعية مكشوفة لأحد النظم الاستعمارية سابقاً – والبنى الفكرية الغربية لاحقاً، تلك البني التي تُبًزَّر لتجعل السبيل الأمثل لحياة الإنسان، وبين تجديف بين تلك النظم لتلفيق مذهبيات مشكلة من تلك البنى الفكرية.
– واقعاً مضطرباً بين أنماط التصورات والصور الحياتية التي تعرض على المسلم بمنحاها الغربي المصادم لوجهة الإسلام الواضحة لديه فيها في المناهج التعليمية، والدراسات الإنسانية، والمؤسسات الإجتماعية، والحركات االفنية والأدبية والبث الإعلامي.
يرافق هذا كله مقاومة عدائية جادة لأي تحرك إسلامي إيجابي – فردياً، أو جماعياً لتحطيمه والحيلولة دون امتداده، وتأثيره في الحياة التي استبدوا فيها به.
ومع أن الصحوة الإسلامية بدأت تبعث الحياة والصحة في هذا الواقع المهترئ، وتصعد من حركة النقد الاسلامي للاتجاه العصراني، فضلاً عن الفشل المتتابع الذي كشف للكثير عن إفلاس العصرانية، ونفاق كثير من دعاتها، مما جعلها الآن في حالة جزر واضح.
مع هذا فإنه ما يزال الإعلام، والتعليم، والحكم، والمؤسسات الفاعلة وكثيرمن الأحوال!، والنقابات، ونحوها من مراكز التأثير تحت هيمنه تيار العصرانية في أغلب مناطق العالم الإسلامي، مما يعني عدم انحسارها عن الساحة، وإن حاولت تغيير شعاراتها، ومنافقة الواقع الذي بدأت تربته تتغير من تحتها بتأثير صيب الصحوة الإسلامية المبارك.
ولكي تعلم أن العصرانية ما تزال حتى الآن متنفذة – في أكلح وجوهها – في دنيا العرب ومسيطرة على مراكزها المؤسسية المؤثرة، وأنها لما تزال سائرة في عملية إغواء الأمة وإرباك نهضتها.
لكي تعلم ذلك، ينبغي أن تعرف أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكوا)[31] قد وضعت ما أسمته بـ(الإستراتيجية الثقافية للدول العربية)، من أجل أن تسترشد بها الدول العربية الأعضاء في الحمل الثقافي والمناهج التربوية والبرامج الإعلامية.
وقد أقرت هذه الاستراتيجية من قبل المجلس الوزاري للمعنيين بالثقافة عام 1451هـ – الذي دعا إلى نشرها وتعميمها والاسترشاد بها في خطط التنمية الثقافية للدول الأعضاء.
وقد دعي للمشاركة في إحداث هذه الخطة الشاملة على مستوى العالم العربي أكثر من ستمائة مفكر عربي، وباحث، ليس فيهم عالم أو مفكر إسلامي واحد، بل إن أكثرهم ممن اشتهر بعدائه للإسلام والقرآن، وانسلاخه عن عروبته[32].
ولأن هذا مجرد مثال أذكر لك ملخصاً لبعض مقولات تلك الإستراتيجية:
1 - إنتشار (الفكر الغيبي) أي: الإيمان بالغيب أهم أسباب إنتكاسة الحضارة العربية.
2 - إذا كان الدين عنصر الوحدة في القرون السابقة، فإن القومية هي عنصرها في العصر الحديث.
3 - دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حركة سياسية تسرت باسم الدين.
4 - من المستحيل أن نقبل تقنيات الغرب وعلومه، ونرفض في نفس الوقت فلسفاته، ونظمه.
5 - الحضارة الأوروبية حضارة مطلقة قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
6 - لا يمكن أن نتحرر من الغرب حتى نتحرر من تراثنا ذاته.
7 - النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كان يدير سياسته بفكر عقلاني، لا ديني.
8 - على استراتيجية الثقافة العربية أن تحذر السقوط في حبائل الفكر الديني[33].
___________________________________________________________