ذم الرياء

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

ترك العمل خوفاً من قولهم: إنه مراء هو عين الرياء, فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم, فماله ولقولهم قالوا: مراء, أو قالوا: إنه مخلص ؟

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

المنتقى من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: ذم الرياء

ذم الرياء:

الرياء حرام, والمرائي عند الله ممقوت, وقد شهدت لذلك الآيات, والأخبار, والآثار.

أما الآيات: فقوله تعالى: {( فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون )} [الماعون:4-6] وقوله عز وجل: {( والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور )} [فاطر:10] قال مجاهد: أهل الرياء.

وقال تعالى: {( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )} [الإنسان:9] فمدح المخلصين بنفي كل إرادة سوى وجه الله, والرياء ضده. وقال تعالى: {( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) } [الكهف:110] نزل ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته, وأعماله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «( من راءى, راءى الله به, ومن سمع, سمع الله به.)» وقال عليه الصلاة والسلام: «( إن أخوف ما أخوف عليكم الشرك الأصغر ) قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ( الرياء ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل: من عمل لي عملاً, أشرك فيه غيري, فهو له كله, وأنا برئ, وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك.)»

 ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يطأطئ رقبته, فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب

وقال علي رضي الله عنه: للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده, وينشط إذا كان في الناس, ويزيد في العمل إذا أثني عليه, وينقص إذا ذم.

حقيقة الرياء:

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية, والسمعة من السماع, وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير. فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله.

دواء الرياء:

الرياء محبط للأعمال, وسبب للمقت عند الله تعالى, ومن كبائر المهلكات, وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته, ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق.

وفي علاجه مقامان: أحدهما: قلع عروقه وأصوله, والثاني: دفع ما يخطر منه في الحال المقام الأول: في قلع عروقه واستئصال أصوله, وأصله حب المنزلة والجاه...فليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له, ونافع لذيذ, إما في الحال وإما في المآل, فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه. كمن يعلم أن العسل لذيذ, ولكن إذا بان له أن فيه سماً أعرض عنه, كذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة. ومهما عرف العبد مضرة الرياء, وما يفوته من صلاح قلبه, وما يحرم عنه في الحال من التوفيق, وفي الآخرة من المنزلة عند الله, وما يتعرض له من العقاب العظيم, والمقت الشديد, والخزي الظاهر. فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة, وما يحبط من ثواب الأعمال,....هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهمّ بسبب ملاحظة قلوب الخلق, فإن رضا الناس غاية لا تدرك, فكل ما يرضي به فريق يسخط به فريق, ورضا بعضهم في سخط بعضهم, ومن طلب رضاهم في سخط الله, سخط الله عليه, وأسخطهم أيضاً عليه, ثم أي غرض له في مدحهم, وإيثار ذم الله لأجل مدحهم ؟ ولا يزيده مدحهم رزقاً ولا أجلاً, ولا ينفعه يوم فقره وفاقته, وهو يوم القيامة.

فإذا تقرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها, فترت رغبته وأقبل على الله قلبه, فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه.

وأما الدواء العملي: فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات, وإغلاق الأبواب دونها, كما تغلق الأبواب دون الفواحش, حتى يقنع قلبه بعلم الله, واطلاعه على عبادته, ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به.

المقام الثاني: في دفع العارض منه أثناء العبادة, فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة, وقطع الطمع, واستحقر مدح المخلوقين, وذمهم, فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات, بل يعارضه بخطرات الرياء, فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء...فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: مالك وللخلق علموا, أو لم يعلموا, والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره ؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد, ذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء, وتعرضه للمقت عند الله في القيامة, وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله.

الرخصة في قصد إظهار الطاعات:

اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء, وفي الإظهار فائدة الاقتداء, وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء, ولكن في الإظهار فائدة, ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية, فقال: {(  إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم  )} [البقرة:271] والإظهار: قسمان.

القسم الأول: إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها, كما روى عن الأنصاري الذي جاء بالصرة, فتتابع الناس بالعطية لما رأوه, فقال عليه الصلاة والسلام: ( من سن سنة حسنة فعُمل بها, كان له أجرها, وأجر من تبعه.)

القسم الثاني: أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ, وحكمه حكم إظهار العمل نفسه, والخطر في هذا أشدّ لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان, وقد تجرى في الحكاية زيادة

 

ترك الطاعات خوفاً من الرياء ودخول الآفات:

اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفاً من أن يكون مرائياً به, وذلك غلط وموافقة للشيطان,...لأن الشيطان يدعوك إلى ترك العمل, فإذا لم تجب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء, فإذا لم تجب ودفعت, بقي يقول لك: هذا العمل ليس بخالص, وأنت مراء وتعبك ضائع, فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص فيه ؟ حتى يحملك بذلك على ترك العمل, فإذا تركته فقد حصّلت غرضه.

ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً من الناس أن يقولوا: إنه مراء فيعصون الله به. فهذا من مكايد الشيطان, لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين, وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك. ثم إن كان فلا يضره قولهم, ويفوته ثواب العبادة.

وترك العمل خوفاً من قولهم: إنه مراء هو عين الرياء, فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم, فماله ولقولهم قالوا: مراء, أو قالوا: إنه مخلص ؟ فهذه كلها من مكايد الشيطان على العباد الجهال ولا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء, وهو أنه ضرر في الآخرة, ولا نفع فيه في الدنيا, ليلزم الكراهة والإباء قلبك, وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي, وترك العمل لأجل ذلك يجرّ إلى البطالة, وترك الخيرات, فما دمت تجد باعثاً دينياً على العمل فلا تترك العمل, وجاهد خاطر الرياء, وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين, وهو مطلع على قلبك, ولو اطلع الخلق على قلبك وأنت تريد حمدهم لمقتوك, بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك فافعل.

فإن قال لك الشيطان: أنت مراء, فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه, وخوفك منه, وحيائك من الله تعالى.

              كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ