الصحة النفسية في الإسلام
سعى الإسلام من خلال تشريعاته إلى تهذيب النفس وتخليصها من أدران الشر ونوازع الباطل، وجعلها بذلك سليمة، معافاة، قوية، قادرة على الفعل الإيجابي والإصلاح المجتمعي، تمهيداً لأن يكون المسلم مواطناً صالحاً.
- التصنيفات: الآداب والأخلاق - مجتمع وإصلاح -
سعى الإسلام من خلال تشريعاته إلى تهذيب النفس وتخليصها من أدران الشر ونوازع الباطل، وجعلها بذلك سليمة، معافاة، قوية، قادرة على الفعل الإيجابي والإصلاح المجتمعي، تمهيداً لأن يكون المسلم مواطناً صالحاً.
وعلى هذا الأساس، تعد الصحة النفسية من أسمى مقاصد الإسلام، لما لها من دور في إصلاح الفرد وتأهيله لخدمة المجتمع في ما يعود عليه بالنفع العميم، وهكذا قصدت التشريعات إلى تخليص الإنسان من كل ما يمكن أن يجعله فرداً سلبياً غير ذي نفع. وتتحقق الصحة النفسية بعدة أمور متواشجة لا تنفصل، يكمل بعضها بعضاً، نبرزها في ما يلي:
يبعث الإيمان في قلب المسلم يقيناً مطلقاً بالأمان والراحة والطمأنينة، فبه يقتنع أن الله هو المدبر المسير والخالق الرازق الهادي إلى سواء الصراط. فما على المسلم، والحال هذه، إلا أن يوجه اهتمامه وتركيزه إلى ما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع العميم بعيداً عن فلسفة التشاؤم والشك، فكل ما كان وما يكون مقدر من الواحد الفرد الصمد.
إن الإيمان بالله وعبادته أصل الطمأنينة التي هي نور غيبي يُقذف في القلب محققاً الشعور بالتوازن، والإيمان في عمقه شعور بمعية الله، لذلك كان أكثر الأسباب تحقيقاً للصحة النفسية التي تقوم على الطمأنينة.
الصلاة:
تعد الصلاة عمود الدين وأسّه، بها يربط المسلم صلته بربه ويرتاح من تعب الحياة (أرحنا بها يا بلال)، وفي الصلاة ترسيخ لحاجة الإنسان إلى مدد من السماء يعينه على غربته الحياتية ويقويه على مواجهة أمواج الحياة العاتية، إنها ارتقاء إلى مدارج السمو، فيها يحس الإنسان بإنسانيته، كما يحس بقدره وقيمته وبأنه غير مستطيع أن يعيش دون فيض رباني، ونور إلهيّ، ومدد سماوي يبعث في نفسه الراحة.
وبالصلاة يجتنب الإنسان الفواحش والمنكرات، {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، ويفضي ذلك إلى سلوك يومي يشمل الفعل والقول، ومعنى ذلك أن الصلاة يمتد مفعولها وتأثيرها إلى تهذيب اللسان والقلب وما يرتبط بهما.
في الصلاة مفارقتان غريبتان تجتمعان فيها وحدها: يتخلص المسلم من الطاقة السلبية، ويعبّئ طاقة إيجابية تقويه، وكل ذلك في السجود والتلاوة والدعاء والركوع، وكلما انحنى المسلم عابداً سما في مدارج الرفعة وارتقى.
الذكر عادة يومية يمارسها المسلم، تشحنه بطاقة إيجابية مصدرها خفي، وتبعث في النفس حياة وقوة، وبهذه العبادة ترتاح القلوب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وبالإعراض عنها تقسو القلوب، وتتجهم الوجوه، وتغلظ الطباع: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
إن ذكر الله استشعار لمعية الخالق الدائمة، وطلب المدد منه في كل لحظة، فيه يدوم الاتصال الذي لا ينقطع بمجرد الانتهاء من الصلاة.
القرآن بلسم شافٍ للنفوس والقلوب المرهقة من تعب الحياة، وهو بعد ذلك دواء إلهي، في قراءته يكلمك الله فيكون ذلك مدخلاً لطمأنينة قلبية تصير معها النفس جنة يانعة، والغفلة عنه تجعل النفس صحراء قاحلة يباباً.
به تتجدد الصلة بخالق السماوات وتشفى الصدور، وفي زجره ونواهيه تحذير للنفس من مغبة التكبر والتسلط والإذاية، وهو بذلك يمارس فعلاً تربوياً تهذيبياً يدفن به نوازع الشر في النفس الإنسانية، ويحقق بذلك الصحة النفسية.
الصوم أحد أرقى العبادات، به تُروَّض النفس الحرون وتُلجَم، ويتحقق الصفاء النفسي الناتج عن راحة المعدة والقلب، وما يتبعه من تخلص الجسم مما هو مضر، والصوم أكثر العبادات تحقيقاً للراحة النفسية وتكريساً لخلق الصبر والقناعة والإحساس بالآخرين لمن صام تعبداً لا عادة. إنه عيادة مجانية ورياضة نفسية، وقد قال المصطفى: «صوموا تصحوا»، وقال: «الصوم جنة» على الإطلاق، فلم يحدد الوقاية أو الحماية جاعلاً إياها محتملة لكل ما من شأنه أن يؤذي الجسم والنفس.
الصدقة تطفئ غضب الرب، وتحمل معاني الإحساس بالآخرين والتكافل، وتقوي الروابط الاجتماعية، وتغرس في القلب الرحمة، وتحارب صفة البخل والمنع الفطرية في الإنسان، مما يفضي إلى نفس تنكر ذاتها من أجل الآخرين، وهو أسمى ما قصد إليه الدين الحنيف بتعاليمه السامية.
تخلص الصدقة النفس من مرض الأنانية، وتقوي الإحساس بالغير، وهو ما يحقق عملية التطهير: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، وكلما تطهر المرء من أمراضه القلبية سما وزكا وصح.
وفي الحرص على الصدقة يقين بأن المال مال الله أودعه عندك، فلا بد من إعطاء الفقير منه. وتشيع في بعض بلدان المسلمين عبارة «اعطني حق الله»، وهي عبارة عميقة لمن تدبر.
التقوى حائط منيع يقي المؤمن من الوقوع في كل ما يبعده عن الصراط المستقيم. إنها وقاية ومناعة قلبية ضد ما هو محرم، وهي المخرج من كل مصيبة وضيق وتعب يلم بالمسلم، وجالبة كذلك للرزق: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣]، أي يرزقه صحة وعافية وطمأنينة، ولاحظ كيف أطلق المخرج والرزق، فلم يقيد أو يحدد.
لقد سعى الإسلام بهديه النوراني إلى خلق نفس مطمئنة سوية تواجه الحياة والمشاكل بقوة ومناعة وتفاؤل، وتقاوم المثبطات وأمواج الشر العاتية بكثير من الإيمان الراسخ الذي لا تزحزحه الجبال ولا تزعزعه أعتى قوى الشر، وبذلك يكون المسلم نافعاً لمحيطه ومجتمعه قائماً على الإصلاح وأداء الرسالة.
_________________________________________________________
الكاتب: د. سعيد البكور