التحكيم

... لَما وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا فيمن له الشرف بوضعه، فكل يدعي أحقية هذا الشرف، وكادت تحدث حرب بين الأطراف وينقلب فرح التجديد إلى حزن مأساوي وإراقة للدماء...

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

عزَمَتْ قريش على إعادة بناء الكعبة ورفع بنيانها، فقد كان بنيانها غير سامق مع عطب في أخشاب السقف؛ قال ابن الأثير في الكامل: "كان سبب هدمهم إياها أنها كانت رضيمة - حجارة مصفوفة - فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها"، وكان البحر قد ألقى بسفينة إلى شاطئ جدة لتاجر رومي فتحطمت، فقوَّت من عزيمة قريش على استعمال أخشابها في البناء، كما ذكر أن أفعى ضخمة كانت تخرج من بئر الكعبة، فتتسلق جدار الكعبة، وكانت إذا اقترب منها أحدٌ كشَّت وفغَرت فاها، فلا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

 

ولما عزمت قريش على بناء الكعبة وجمعوا المال لأجل ذلك، زالت العقبات سريعًا؛ فقد أتى طائر كبير فاختطف الأفعى وذهب بها، فاطمأنت قريش إلى أن عملها في البناء ميسر، ثم هابوا هدمها ونقضها، وقام أبو وهب بن عمرو المخزومي فتناول حجرًا، فوثب من يده، فقال: لا تدخلوا فيها إلا مالًا حلالًا طيبًا، ويروى هذا عن الوليد بن المغيرة، ثم بدأ نقضها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا خيرًا، ثم هدم ناحية الركن، وتربص الناس به تلك الليلة؛ ليروا إن أصابه شيء، وإلا أقدموا على إتمام الأمر، فقام في الصباح دون أن يمسَّه أذى، فأقدم الناس على هدمها إلى أن وصلوا إلى الأساس، وهو حجارة خضر كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض، ويروى أن رجلًا وضع عتلة بين حجرين في هذا الأساس، وأراد اقتلاع أحدهما انتقضت مكة بأسرها واهتزت، فوقفوا عند هذا الأساس، وشرعوا في البناء، ولَما وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا فيمن له الشرف بوضعه، فكل يدعي أحقية هذا الشرف، وكادت تحدث حرب بين الأطراف وينقلب فرح التجديد إلى حزن مأساوي وإراقة للدماء، وهنا اقترح أحد هؤلاء الزعماء - أبو أمية بن المغيرة - تحكيم أول داخل من باب المسجد، فوافقوا، فكان الداخل محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك في الوقت ابن خمس وثلاثين سنة، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا به، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هَلُمَّ لي ثوبًا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه، وهكذا وأد الفتنة بهذا الحل العبقري، وهذا من بشائر الخير الذي يصيب قومه بفضل الله، ثم ببركة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}  ﴾ [الأنبياء: 107].

 

وبعد هذه الفترة وحتى سن الأربعين حبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخَلوة في غار حراء، وكان يمضي فيه الليالي ذواتِ العدد، لقد هيأ الله له الزوجة الصالحة خديجة ذات الثراء التي تمده بالحنان والمال، وتصبر على خَلوته، وهي له محبة وودودة، وكانت تعد له الزاد الذي يكفيه الأيام، وإذا تأخر خرجت بنفسها تتفقده وتزوده بالطعام والشراب إلى أن يرجع من خَلوته، فكانت امرأة ذلك الموقف التي لا تتأفف ولا تشكو مما يفعل، فهي تعتقد أنه الرجل المناسب الودود، وأن ما يفعله هو لأمر قد أعده الله له، وأنه يختلف عن أقرانه وعن بقية الرجال، ففيه شيء مميز عنهم، وأن القدر لا بد سيظهره على جليته في يوم من الأيام لتتبيَّن صدق فراستها فيه؛ إضافة لما لاحظته عليه من صدق الحديث وطيب المعشر، وحبه للناس والفقراء، ومساعدة الضعفاء، والبر بأهله وعمه الذي رباه، حيث لاحظ كثرة عياله وضيق ذات يده، فاتفق مع عمه العباس أن يعيل النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا ويضمه إليه، ويعيل العباس جعفرًا، وكان هذا من نعمة الله على عليٍّ الذي شهد بدء الدعوة، فكان أول الفتيان إيمانًا، وكذلك رفع مكانة غلامه زيد الذي أهدته له خديجة ليخدمه، وما كان منه يوم علم أبواه أنه في مكة، فكان لزيد بن حارثة قصة، قال ابن هشام في السيرة: "قدم حكيم بن حزام من الشام برقيق فيهم زيد بن حارثة وصيف - حسن الشكل - فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد وهي يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدًا، فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعًا شديدًا، وبكى عليه حين فقده - وعلم أنه بمكة - فقدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وطلب فداءه بالمال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك»، فقال: بل أقيم عندك، فلم يزَلْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله وأسلم وصلى معه".

__________________________________________________
الكاتب: د. محمد منير الجنباز