الدور الأعظم
منصور بن محمد المقرن
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ"
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
تبتهج الشعوب الإسلامية – وحُقّ لها ذلك-إذا رأت زعماءها ووزراءها يُشيّدون مشفىً، أو يُعبِّدون طرقاً، أو ينشرون تعليماً، أو يُرسِّخون أمناً، أو يُعِفُّون فقيراً، لكنّ أعظمَ ما تسعد به تلك الشعوب، ويعتبرونه أهم مسؤوليات زعمائهم ووزرائهم هو: حفظُ دينهم. فما أجمل أن يتوّج علاج الأبدان بعلاج الأرواح، وما أحسن أن يُزيّن تعليم الإنسان بتعليم الإيمان، وما أكمل أن يدعو الإعلام لمكارم الأخلاق!
فحفظ دين الأمة هو أول واجبات الزعماء، ففي الحديث المتفق على صحته، «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته» .. الحديث.
قال الخطابي: "فَرِعَايَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ: حِيَاطَةُ الشَّرِيعَةِ"، وقال الطيبي في شرح المشكاة: "فعلى السلطان حفظ الرعية فيما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نُعّموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"، وقال في موضع آخر "جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه إنما خلق الخلق لذلك".
قال الماوردي في الأحكام السلطانية: "الإمامة: موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا".
وقال: "والذي يلزمه (أي السلطان) من الأمور العامة عشرة أشياء: أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نَجَمَ مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة وبيّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل".
وذكر رحمه الله أن تفويض السلطان لوزرائه وولاته لا يُعفيه من المسؤولية أمام ربه تعالى، حتى لو كان سبب هذا التفويض أنه يرغب في الاستزادة من العبادات لنفسه، وذلك لأن هؤلاء الوزراء والولاة قد يخونون الأمانة، فقال عن الأمور التي تلزم السلطان: "العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يُعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)} ، فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عَذَرَه في الاتباع حتى وصفه بالضلال".
ولم يستثن الماوردي أمراء الأقاليم (المناطق) من وجوب الحفاظ على الدين، فذكر من أعمالهم: "والرابع: حماية الدين والذب عن الحريم، ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل".
ولا شك أن مَرَدّ هذه المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق السلطان وأعوانه، هو أن كثيراً من الناس مُتبِعون لأهوائهم، غير ملتزمين بأحكام دينهم، فإن تُرِكوا وما أرادوا هلكوا، وأهلكوا المجتمع معهم، فكان لابد من سلطان يهابونه، وينقادون لأمره، وقد قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : "إن الله ليزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن"، قال البقاعي في نظم الدرر: "فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها، فالـمُلك والدين توأمان، فالدين بلا مُلكٍ ضائع، والملك من غير دين باطل"، ومن أجل هذا تظافرت الآيات والأحاديث وأقوال العلماء على وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، وخطورة الاستخفاف بهم، وتأليب العامة عليهم.
من جهة أخرى، فإن علماء الإسلام لم يكتفوا ببيان المهمات العامة للسلطان وأعوانه، بل تحدثوا عن بعض تفصيلات هذه المهمات، فقد قال الإمام مالك رحمه الله: "أرى للإمام : أن يتقدم إلى الصيّاغ في قعود النساء إليهم، وأرى ألا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصيّاغ"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ"، وقال تلميذه ابن القيم : "أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفُُرَج ومجامع الرجال".
ومن قلّّبَ كتب السيرة والسير، وجد فيها تطبيقات عملية لمقتضى تلك النصوص والأقوال:
فمنها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم"، قال ابن عباس: "فأخرج النبي r فلاناً، وأخرج عمر فلاناً"
ومنها: القصة المشهورة عن عمر بن الخطابرضي الله عنه ، أن رجلاً يُقال له صبيغ قَدِم إلى المدينة فأصبح يُثير فيها شبهاً، ويسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وأعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى أدمى رأسه. فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي.
ومنها: أن عمر رضي الله عنه حرّق بيت رويشد الثقفي، لأنه كان يبيع الخمر. وقال له: "أنت فويسق، ولست برويشد".
ومنها: أن أبا معاوية الضرير حَدّث عند هارون الرشيد، بحديث «احتجَّ آدم وموسى». فقال رجلٌ شريف من وجوه قريش: فأين لقيه؟ .. فغضب هارون الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث! .. فما زال أبو معاوية يُسَكِّنه ويقول: "بادرة يا أمير المؤمنين ولم يفهم"، حتى سكن"
ومنها: أن خالد بن عبد الله القسري والي هشام بن عبدالملك على العراق قبض على الجعد بن درهم وهو أوّل من قال أن القرآن مخلوق، ثم أتى به مشدوداً في صلاة عيد الأضحى، فصلى خالدٌ وخطب، ثم قال في آخر خطبته: "اذهبوا وضحوا بضحاياكم تُقبَل، فإني أريد أن أُضحي بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلّّم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ اللهُُ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول علواً كبيراً". ثم نزل فقتله.
ومنها: أن المهدي وابنيه الهادي والرشيد حاربوا الزندقة، فقتلوا من الزنادقة خلق كثير.
ومنها: أن محمد الفاتح أوصى ابنه فقال له: "واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدِّم الاهتمام بأمر الدِين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش".
يجدر بالذكر، أن النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية – حرسها الله- قد نصَّ على حماية الدين والذب عنه، ففي المادة الثالثة والعشرين منه: "تحمي الدولة عقيدة الإسلام … وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله".
كتبه / منصور بن محمد المقرن