منزلة: الحياء, الصدق, الإيثار, الخُلُق, التواضع
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
فوائد مختصرة من مدارج السالكين, للعلامة ابن القيم: منزلة: الحياء, الصدق, الإيثار, الخُلُق, التواضع, الأدب, اليقين
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
بسم الله الرحمن الرحيم
فوائد مختصرة من مدارج السالكين, للعلامة ابن القيم: منزلة: الحياء, الصدق, الإيثار, الخُلُق, التواضع, الأدب, اليقين
منزلة الحياء
* من منازل ﴿ { إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾: منزلة الحياء. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل وهو يعظ أخاه في الحياء, فقال: ( دعه, فإن الحياء من الإيمان )
* الحياء من الحياة...وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خُلُق الحياء, وقلَّة الحياء من موت القلب والروح, فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتمَّ.
* حقيقته: خلق يبعث على ترك القبائح, ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
* من كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يُستحيا منه.
* عمارة القلب بالهيبة والحياء, فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
منزلة الصدق
*من منازل ﴿ {إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾منزلة الصدق, وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين, والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران
* الصدق...سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيءٍ إلا قطعه, ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته
* أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين فقال ﴿ {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ﴾[التوبة:119]
* أخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه, قال الله تعالى: ﴿ {هذا يوم ينفعُ الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} ﴾ [المائدة:119]
* قال تعالى ﴿ {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المفلحون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين* ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} ﴾ الذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله
* حمل الصدق كحمل الجبال الرواسي, لا يطيقه إلا أصحاب العزائم.
* من علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه, ومن علامات الكذب: حصول الريبة, كما في الترمذي مرفوعاً من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: ( الصدق طمأنينة, والكذب ريبة)
* الصادق مطلوبه: رضا ربه, وتنفيذ أوامره, وتتبع محابه, فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها, ويستقل معها أنى استقلت مضاربها, فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكرٍ, ثم في غزوةٍ, ثم في حجٍ, ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع.
* الصدق قيل: موافقة السرِّ النطق. وقيل: استواء السرِّ والعلانية. وقيل: الصدق: * القول بالحق في موطن الهلكة. وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه.
* قيل: ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة. والهيبة, والملاحة.
* قيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك, ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
منزلة الإيثار
*من منازل ﴿ {إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾منزلة الإيثار, قال الله تعالى في مدح أهله: ﴿ {ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُحَّ نفسه فأُولئك هم المفلحون} ﴾ [الحشر:9]
* الإيثار ضدّ الشُّحِّ, فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه.
* البخيل: من أجاب داعي الشُّحِّ, والمُؤثر: من أجاب داعي الجود.
* الشحيح حريص على ما ليس بيده, فإذا حصل بيده شحَّ عليه وبَخِلَ بإخراجه, فالبخل ثمرة الشُّحِّ والشُّحُّ يأمر بالبخل قال النبي صلى الله عليه وسلم «(إياكم والشُّحَّ فإن الشُّح أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)»
* الجود مراتب...والجود بالنفس أعلى مراتبه
* الجود بالرئاسة, ثاني مراتب الجود, فيحمل ُالجواد جودهُ على امتهان رئاسته, والجود بها, والإيثار في قضاء حاجة الملتمس.
* الجود بالعلم وبذله أعلى مرتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال, لأن العلم أشرف من المال.
* الجود بالصبر والاحتمال...هذه مرتبة شريفة...ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.
*الجود بالعرض كجود أبي ضمضم رضي الله عنه, كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي فأتصدق به الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهم في حلٍّ, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم )
* الجود بالعرض....في هذا الجود من سلامة الصدر, وراحة القلب, والتخلص من معاداة الخلق.
* الجود بالخُلُق والبشر والبسطة, وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو, وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم, وهو أثقل ما يوضع في الميزان...والعبد لا يمكنه أن يسعَ الناس بماله, ويُمكنُه أن يسعهم بخُلقه واحتماله.
* الجود بترفيه ما في أيدي الناس...فلا يلتفت إليه, ولا يتشرف له بقلبه, ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه.
* لكل مرتبة من مراتب الجود مزية وتأثير خاص في القلب والحال, والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد, والإتلاف على الممسك, والله المستعان.
* ما يُعين على الإيثار ويبعث عليه...ثلاثة أشياء: تعظيم الحقوق, فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها, ورعاها حقَّ رعايتها. الثاني: مقتُ الشُّحِّ, فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار. الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق.
* إيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته, ولو أغضب الخلق, وهذه هي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, وأعلاها لأولى العزم منهم, وأعلاها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإنه قاوم العالم كله, وتجرد للدعوة إلى الله.
*ما آثر عبد مرضاة الله على مرضاة الخلق وتحمل ثقل ذلك ومُؤمنته وصبر على محنته إلا أنشأ الله من تلك المحنة نعمةً ومسرّة ومعونةً بقدر ما تحمله من مرضاته, فانقلبت مخاوفه أماناً ومظانُّ عطبه نجاة, وتعبه راحةً, ومؤمنه معونةً, وبليته نعمةً, ومحنته منحةً.
* جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته أن يسخط عليه من آثر رضاه ويخذله من جهته ويجعل محنته على يديه فيعود حامده ذاماً, ..فلا على مقصوده منهم حصل ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل وهذا أعجز الخلق وأحمقهم
* من آثر رضا الله فلا بد أن يُعاديه رُذالة العالم وسقطهم, وغرثهم وجُهالهم, وأهل البدع والفجور منهم, وأهل الرياسات الباطلة....فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب للرجوع إلى الله...ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقه الجبال
منزلة الخُلُق
* من منازل ﴿ {إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾منزلة الخُلُق, قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ { وإنك لعلى خُلُق عظيم} ﴾ [القلم:4] وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله ﴿خُذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين[[الأعراف:199]* قيل إنُّ أحسن الخلق بذل الندى وكفُّ الأذى واحتمال الأذى
* حسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر, والعفة, والشجاعة, والعدل.
* منشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل, والظلم, والشهوة, والغضب.
* الجهل يُريه الحسن في صورة القبيح, والقبيح في صورة الحسن, والكمال نقصاً والنقص كمالاً.
* الظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه, فيغضب في موضع الرضا, ويعجل في موضع الأناة, ويبخل في موضع البذل, ويحجم في موضع الإقدام, أو يقدم في موضع الإحجام, ويلين في موضع الشدة, ويشتدُّ في موضع اللين.
* الشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل
* الغضب يحمله على الكِبر, والحقد, والحسد, والعدوان, والسفه.
* كل خلق محمود مكتنف بخُلُقين ذميمين, وهو وسط بينهما وطرفاه ذميمان, كالجود الذي يكتنفه خُلُقا البخل والتبذير, والتواضع الذي يكتنفه خُلُقا الذل والمهانة, والكبر والعلو فإن النفس متى انحرفت عن الوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين
* تزكية النفس أصعب من علاج الأبدان وأشدُّ.
* من زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه دون معرفة الطبيب. فالرسل أطباء القلوب, فلا سبيل إلى صلاحها وتزكيتها إلا على أيديهم. وبمحض الانقياد والتسليم لهم. والله المستعان.
* فإن قلت: هل يمكن أن يكون الخُلق كسبياً, أو هو أمر خارج عن الكسب ؟ قلت: يمكن أن يقع كسبياً, بالتخلُق والتكلُف, حتى يصير له سجيةً وملكة.
* من منازل ﴿ {إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾منزلة التواضع, قال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان:63] أي سكينةً ووقاراً, متواضعين, غير أشرين, ولا مرحين, ولا متكبرين.
* كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ على الصبيان فيُسلم عليهم, وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث, وكان يكون في بيته في خدمة أهله, ولم يكن ينتقم لنفسه قط, وكان يعود المريض, ويشهد الجنازة, ويركب الحمار, ويجيب دعوة العبد.
* وكان يخصف نعله, ويُرقِّع ثوبه, ويحلب الشاة لأهله, ويعلف البعير, ويأكل مع الخادم, ويجالس المساكين, ويمشى مع الأرملة واليتيم في حاجتهما, ويبدأ من لقيه بالسلام, ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيءٍ.
* وكان هين المؤنة, لين الخُلق, كريم الطبع جميل المعاشرة, طلق الوجه, بساماً, متواضعاً من غير ذلةٍ, جواداً من غير سرفٍ, رقيق القلب, رحيماً بكل مسلمٍ, خافض الجناح للمؤمنين, لين الجانب لهم.
* التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والاستسلام له والإذعان...وإذا رأيت من أدلة الدين ما يُشكل عليك, وينبو فهمك عنه, فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنز من كنوز العلم لم تؤت مفتاحه بعد
* لا تصحُّ لك درجة التواضع حتى تقبل الحقّ ممن تحبُّ, وممن تُبغض, فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك...ومن أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته, فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته, حقاً كانت أو باطلاً, وتكلُ سريرته إلى الله تعالى.
منزلة الأدب:
* من منازل ﴿ {إياك نعبدُ وإياك نستعين} ﴾منزلة الأدب, قال الله تعالى ﴿ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } ﴾ [التحريم:6] قال ابن عباس وغيره: علموهم وأدبوهم.
* علم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب, فالأدب اجتماع خصال الخير في العبد, ومنه المأدبة, وهو الطعام الذي يُجمع عليه الناس.
* قال ابن المبارك رحمه الله: نحن إلى قليلٍ من الأدب أحوجُ منّا إلى كثير من العلم.
* سئل الحسن البصري رضي الله عنه عن أنفع الآداب ؟ فقال: التفقُّه في الدين, والزهد في الدنيا, والمعرفة بما لله عليك.
* حقيقة الآداب استعمال الخلق الجميل.
* الأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله, وأدب مع رسوله وشرعه, وأدب مع خلقه.
* أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يستر عورته, وإن كان خالياً لا يراه أحد, أدباً مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه, ومعرفة وقاره
* ومن الأدب مع الله الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة.
* سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف:31]فعلق الأمر باسم الزينة لا بستر العورة إيذاناً بأن العبد ينبغي له أن يلبس ثيابه وأجملها في الصلاة
* وسمعته يقول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن أشرف الكلام, وهو كلام الله, وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد, فمن الأدب مع كلام الله: أن لا يقرأ في هاتين الحالتين.
* قال المسيح: ﴿ {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ﴾ [المائدة:116] ولم يقل: " لم أقله " وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب.
*الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به فرأس الأدب معه كمال التسليم له, والانقياد لأمره, وتلقى خبره بالقبول والتصديق, ودون أن يُحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً, أو يُحمله شبهةً أو شكاً, أو يقدم عليه آراء الرجال.
* الأدب مع الخلق معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم فلكل مرتبةٍ أدب. فمع الوالدين أدب خاص, ومع العالم أدب آخر, ومع السلطان أدب يليق به, ومع الأقران أدب يليق بهم, ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه.
* أدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه, وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره. فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب, ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب.
منزلة اليقين
* من منازل ﴿إياك نعبدُ وإياك نستعين﴾: منزلة اليقين, وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد, وفيه تفاضل العارفون, وفيه تنافس المتنافسون, وإليه شمر العاملون
* إذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]
* اليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح. وهو حقيقية الصديقية.
*اليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين والصواب أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسُن اقتران الهدى به.
* متى وصل اليقين إلى القلب امتلا به نوراً, وإشراقاً, وانتفى عنه كل ريبٍ, وشك, وسخط وهم وغم. فامتلا محبةً لله, وخوفاً منه, ورضا به, وشكراً له, وتوكلاً عليه, وإنابة إليه.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ