اللعبة الأمريكية في أوكرانيا
التحذيرات الأمريكية المتكررة الصادرة حول الهجوم الروسي الوشيك على أوكرانيا، تصب في إيجاد حالة تخويف لأوروبا واجبارها على التصدي للدب الروسي وتلجم تطلعاته العالمية، وبذلك تتفرغ أمريكا للصين
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
"المسرحية السياسية في أوكرانيا ستتوقف قريبا"
هكذا تحدث أستاذ السياسة في جامعة أوكرانيا في احدى الفضائيات، معقبا على المشهد الذي يجري حاليا في أوكرانيا والذي يثير العالم محتبسا أنفاسه، منتظرا بين لحظة وأخرى اندلاع حرب قد يمتد لهيبها إلى أوروبا.
ولكن حديث الأكاديمي الأوكراني السابق يعزز فرضية يجري تداولها على نطاق واسع، في أن ما يجري في أوكرانيا يبدو أنه لعبة أمريكية.
وتمضي هذه الفرضية فتقول، إن أمريكا تريد التركيز على احتواء الصين باعتبارها التهديد الأخطر على زعامتها العالمية، ولكن تخشى أن ينتهز بوتين الفرصة بانشغال أمريكا ليفرض ما يريد ليس في أوكرانيا فقط ولكن في مناطق تهدد المصالح والأمن القومي الأمريكي، وفي نفس الوقت فهناك تردد أوروبي في مساندة أمريكا.
ولذلك صعد بايدن في أوكرانيا مع التلويح بعدم التدخل المباشر، وذلك ليضع أوروبا في مواجهة روسيا وتتفرغ أمريكا لمشكلتها الكبرى مع الصين.
أمريكا في النهاية لا يهمها حرب أو لا حرب، يهمها فقط استغلال المشاكل واستثمارها في سبيل الاحتفاظ بمكانتها على قمة النظام العالمي.
فهل هذه الفرضية صحيحة؟
لكي نختبر صحة هذه الفرضية، علينا بتتبع أهداف واستراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية وسلوكها السياسي في العالم.
الاستراتيجية الأمريكية في أوكرانيا
في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي انتهت بانتصار الحلفاء في الشرق والغرب، بعد التدخل الحاسم للولايات المتحدة سواء في الجبهة الشرقية حين تمكنت من دحر اليابان واحتلالها، أو في الجهة الغربية بعد أن تزعمت البريطانيين والفرنسيين وقادتهم إلى اجتياح ألمانيا النازية من جهة الغرب، وتلاقت مع القوات السوفيتية القادمة من الشرق لتتقاسم مع الاتحاد السوفيتي ما يقرب من نصف قرن الزعامة العالمية.
وما لبثت الولايات المتحدة أن تمكنت من اسقاط الاتحاد السوفيتي باستراتيجية الاحتواء من غير الاحتياج لدخول حرب مباشرة معه، حين استنزفته سواء على صعيد جره الى معارك أدت إلى تبديد قواه، أو من خلال الدخول معه في سباق للتسلح والتي كان آخرها منظومة حرب الفضاء والتي استنزفت ميزانية الاتحاد السوفيتي، وعجلت في انهياره الاقتصادي والتي أعقبها تفكك الإمبراطورية الروسية واستفراد الولايات المتحدة بالزعامة العالمية.
حاولت الولايات المتحدة للمحافظة على قمة النظام الدولي رسم استراتيجية تقوم على عدة محاور أساسية: كان أبرزها الأحلاف الإقليمية والتي تضمن لها تواجدها في جميع مراكز العالم الساخنة، خاصة التي تتعلق منها بالأمن القومي الأمريكي، أو محاصرة القوى الكبرى التي تحاول منافسة الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي، وتحويله الى نظام متعدد القوى، وفي مقدمتها الصين، ثم روسيا.
فعلى سبيل المثال، أقامت أمريكا حلفين قريبين من الصين، حلف أوكوس وحلف أكواد.
الأول يضم بالإضافة الى الولايات المتحدة أستراليا وبريطانيا، والثاني هو الأخطر يضم الهند واليابان وأستراليا.
وبالنسبة لروسيا تم تفعيل حلف الناتو لحصار روسيا ومنع تمددها مرة أخرى، فبعد انتهاء الحرب الباردة، أضاف الناتو 14 دولة جديدة، منهم 10 أعضاء سابقين في حلف وارسو، وأربع من جمهوريات يوغوسلافية سابقة في الفترة من 12 مارس 1999 إلى 27 مارس 2020.
وفي عام 1999 انضمت كل من جمهورية التشيك والمجر وبولندا إلى الحلف ليكونوا أول دول من الكتلة السوفيتية السابقة تنضم إلى الناتو.
وتبع ذلك في 2004، انضمام خمسة أعضاء جدد، منهم ثلاث دول أعضاء سابقون في الاتحاد السوفيتي وهم إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، والمعروفين بدول البلطيق، ليعود الناتو من جديد ويكون متاخم لروسيا، إلى جانب ذلك ضم الناتو في 2004، كل من بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.
ولم يكتف الناتو بذلك، بل يسعى لضم دولتين كانتا جزء من الاتحاد السوفيتي وهم أوكرانيا وجورجيا، وهذا هو أساس المشكلة الحالية.
حيث فوجئ العالم بتصعيد جديد لتلك المشكلة، عبر اعلان أوكرانيا أنها تريد الانضمام الى حلف الناتو، مقابل رفض روسي صارم، ولكن كان الأخطر هو الإعلان الأمريكي المتتابع أن تقديرات أجهزة الرصد والاستخبارات لديها أن هناك تحضير لعملية عسكرية روسية كبيرة ضد أوكرانيا، وأن بعض هذه التقديرات تقول إن القوات الروسية تعتزم احتلال كييف عاصمة أوكرانيا.
فما تفسير تلك التحذيرات الأمريكية؟
ترى مجلة شتيرن الألمانية أن الولايات المتحدة ومنذ ثلاثة شهور تقوم بنشر معلومات سرية حول التحركات الروسية بشكل غير مسبوق، في إطار تحذيراتها المتكررة من هجوم روسي وشيك على أوكرانيا، لكن ما قد يبدو شفافية وانفتاحا للوهلة الأولى ليس سوى شكل جديد من أشكال الحرب، وتتساءل المجلة عن سبب نشر إدارة بايدن تلك المعلومات السرية.
وحاول الكاتب في واشنطن بوست أنتوني فايولا أن يجيب عن هذا السؤال فيقول إن تحذيرات إدارة بايدن من غزو روسي لأوكرانيا تبدو وكأن قناة الطقس تتبع الإعصار، ووفقاً لفايولا، فإن أحد المطلعين يسمي هذه (استراتيجية مكبر الصوت) لبايدن. ويوضح أنه من خلال إظهار جزء على الأقل من أوراقها على الطاولة، يمكن لواشنطن أن تقنع الرأي العام الدولي وحلفائها بالخطر الحقيقي الذي تمثله روسيا، وفقاً للشعار القائل: إذا صرخت بصوت عالٍ وفي كثير من الأحيان، فسيتم الاستماع إليك. ويشير فايولا أن هذا الصراخ لا يتعلق بالشفافية الدبلوماسية، بل بالحسابات السياسية. وبحسب تقارير إعلامية، فقد تم تنسيق الكشف عن المعلومات بدقة بين مجلس الأمن القومي وأجهزة الاستخبارات وأجهزة أمنية أخرى.
لا شك أن الصين تشكل التحدي الأبرز لإدارة بايدن، حتى أنه قبل نهاية عام 2019، كتب كورت كامبل وجيك سوليفان مقالا مشتركا في دورية فورين أفيرز الشهيرة، طالبا فيه بضرورة انتهاء مرحلة الشراكة مع الصين دون رجعة، والاستعداد لمرحلة المواجهة، وبعد عامين من نشر هذه الدراسة، أصبح كامبل المستشار الأهم للرئيس الأميركي جو بايدن بشأن الصين، وعُين مديرا للملف الصيني في مجلس الأمن القومي الذي يترأسه جيك سوليفان.
ولمعرفة ما يمثله التهديد الصيني مقارنة بالتهديد الروسي بالنسبة لأمريكا، فلننظر إلى وثيقة (التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي) والتي أصدرتها إدارة بايدن في بداية مارس2021، أي بعد شهر ونصف من صعودها إلى البيت الأبيض، والتي تضمنت توجهات الإدارة الجديدة لوكالات الأمن القومي حتى تتمكن من العمل على مواجهة التحديات العالمية، بعد 4 سنوات من حكم الرئيس السابق دونالد ترامب.
وفي هذه الوثيقة جاء ذكر الصين 15 مرة في الوثيقة التي لم تتعد 20 صفحة من الحجم الصغير، ولم تأت على ذكر روسيا إلا 5 مرات. وأشارت الوثيقة إلى ضرورة تأهب الولايات المتحدة لمخاطر الصين، بالقول يجب علينا أيضا أن نتأهب لحقيقة أن توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم يتغير، مما يخلق تهديدات جديدة.
وذكرت الوثيقة أن الصين على وجه الخصوص أصبحت وبسرعة أكثر حزما وتصميما، وهي المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وتحدي النظام الدولي المنفتح والمستقر.
ولكن ما هو التحدي الذي يمثله الروس للهيمنة الأمريكية على العالم؟
تحركت روسيا بوتين في اتجاهين: الأول تعزيز وجودها في شرق المتوسط بتدخلها في سوريا وتشييدها قاعدة حميميم على المتوسط، حيث المنافسة على الغاز في أشد مراحلها وروسيا هي المستهلك الأبرز للغاز الروسي الذي يمثل مصدر كبيرا للدخل الروسي، والاتجاه الثاني الذي تحرك فيه بايدن فكان جنوب المتوسط في الشمال الأفريقي وجنوب الصحراء في ليبيا ومالي وغيرها، وبذلك يشكل تهديدا لجنوب الناتو ومحاصرا له.
لذلك قبل شروع أمريكا في احتواء الخطر الصيني يجب عليها تهذيب الخطر الروسي، ومحاصرته أو مقايضة نفوذه في هذه المناطق بخاصرته القريبة سواء في جمهوريات آسيا الوسطى أو القوقاز وأخيرا في أوكرانيا والتي تبعد حدودها عن موسكو مسافة 490 كيلو متر.
ولابد لأمريكا من استخدام طرف آخر في محاولة احتواءها لروسيا، حتى تتفرغ للصين، فكان التفكير في أوروبا لتقوم بهذا الدور.
ولكن الطرف الأوروبي بدا متململا من أن يكون تابعا للحليف الأمريكي ويطمع في دور أكبر، وظهر ذلك في توجهات فرنسا وألمانيا أكبر قوتين في القارة، واللتين توجهان الاتحاد الأوروبي، وظهر الحديث عن تكوين جيش أوروبي موحد مستقل عن منظومة الناتو.
لذلك فإن التحذيرات الأمريكية المتكررة الصادرة حول الهجوم الروسي الوشيك على أوكرانيا، تصب في إيجاد حالة تخويف لأوروبا واجبارها على التصدي للدب الروسي وتلجم تطلعاته العالمية، وبذلك تتفرغ أمريكا للصين.
بايدن لا يهمه حرب أو لا حرب، هو أعلنها ان الناتو لن يتدخل عسكريا ولكن بعقوبات فقط تؤلم روسيا وتجبرها على الانسحاب الاستراتيجي من المناطق التي ذكرناها.
خيارات بوتين محدودة وتقتصر على تقليل الخسائر بقدر الامكان والخطوة التي اتخذها حتى الآن هي شكلية، واذا تجرأ على غزو أوكرانيا سيزيد خسائره وفي النهاية يحاول الصمود حتى لا ينسحب من شرق المتوسط وجنوبه، ولكن لن يصمد طويلا أمام اللعبة الامريكية.
_______________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي