اهتم باللقاء الأول في تعاملك مع الآخرين

لن يزول اللقاء الأول من ذاكرة الشخص، بل يبقى في مخيلته فترة زمنية؛ ما دام أن هناك بعض اللفتات الجميلة، واللمسات الملحوظة، فتريد أن تكسب الآخرين، وتستحوذ على قلوبهم، فتأكد أنَّ اللقاء الأوَّل مهم جدًّا، وعليك أن تجعله من أولويات اهتماماتك، في كل لقاء أو مناسبة، أو جلسة حوار.

  • التصنيفات: فقه المعاملات - تزكية النفس -

وهذه - في نظري - أهم قاعدة في فنِّ التعامل مع الآخرين؛ فلن يزول اللقاء الأول من ذاكرة الشخص، بل يبقى في مخيلته فترة زمنية؛ ما دام أن هناك بعض اللفتات الجميلة، واللمسات الملحوظة، فتريد أن تكسب الآخرين، وتستحوذ على قلوبهم، فتأكد أنَّ اللقاء الأوَّل مهم جدًّا، وعليك أن تجعله من أولويات اهتماماتك، في كل لقاء أو مناسبة، أو جلسة حوار.

 

فتأمَّل هذه اللفتة التقديريَّة النَّفيسة، التي حفظتها لنا ذاكرة الصحابي كعب بن مالك الشاعر: "لمَّا دخل هو والبراء بن مَعْرُور على النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم العباس رضي الله عنه - وكان جالسًا بجانبه -: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل»؟، قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشاعر»؟!، يقول رضي الله عنه: "فما أنسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الشاعر"[1]، فانظر إلى هذا التأثير العظيم لهذه الكلمة، كيف اهتزَّ لها كيانه، وحفظتها ذاكرته، فلم ينس هذا الموقف، بل ظلَّ عالقًا في ذهنه، محفورًا في عقله.

 

فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة، والمثال الذي يُحتذى به؛ حيث إنه الخبير في النفوس؛ فيعطي كلَّ شخص قيمته، وكلَّ فرد قدْرَه، فلقد جاءه وفد عبدالقيس، فقال لهم: «مَن الوفد، -أو من القوم-»؟، قالوا: ربيعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بالقوم أو -بالوفد- غير خزايا ولا ندامى» [2]، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرص منذ اللقاء الأول أن يقابلهم بهذه الكلمات الجميلة، والعبارات الرائعة المؤثِّرة، التي تحبُّها النفوس، وتتشوَّق لها الأسماع.

 

• وقد أكَّدت الدراسات في أمريكا بجامعة هارفرد أنَّ الانطباع الأول يتكوَّن خلال 30 ثانية، فيكون الحبّ بمقدار حرارة اللقاء.

 

ومن الأمور المهمَّة التي ينبغي الاهتمام بها، ومراعاتها في اللقاء الأوَّل:

1- أظهِرْ محبَّتك للطرف الآخر، وأعلِن ذلك من أوَّل لقاء.

2- سلِّم عليه ببشاشة وابتسامة (وسأفرد الابتسامة في قاعدة).

3- صافحْه بحرارة وترحاب (وليس معنى ذلك الشدة)، وقد ثبت علميًّا أن هناك تيَّارًا يخرج من اليد المصافِحة إلى اليد المُصَافَحة، يسري ويتَّجه إلى القلب، فترتاح للشخص من أول لقاء، أو تنفر منه كذلك من أول لقاء؛ لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجنَّدة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» [3].

 

4- أثناء الحديث معه نادِه بأحبِّ الأسماء إليه.

5- كرِّر اسمَه في حديثِك معه، ولقِّبه إذا كان له لقب: كالمهندس، أو الدكتور، أو رتبة ونحو ذلك.

6- احفظ اسمَ جليسك، وكرِّرْه بينك وبين نفسك؛ حتى لا تُضطرَّ لأن تُعيد عليه السؤال في ذلك مرَّة أخرى.

7- استخدم لغة الجسد؛ مثل: الاتِّصال باليد، الابتسامة؛ فلقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي عبدالله بن عمر رضي الله عنهما حينما حدَّثه[4].

8- ركِّز على الموضوع الذي يتحدَّث فيه الطرف الآخر، ولا تحقرْه، أو تستهجن كلامَه، ولو قد سمعتَه من قبل، يقول التابعي عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "إن الرجل ليحدِّثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعْه، وقد سمعتُه قبل أن يُولَد"[5]؛ فهذا مثال على حال السلف؛ ما كان أحدهم يُحقِّر شخصًا يتكلم، أو يقاطع شخصًا لأنه يعرف حديثَه مسبقًا، بل يدَعُه يُكمل حديثَه، وكأنَّه لم يسمعْه، بل إنَّه يستحثُّه على إتمامه، ويُرِيهِ من نفسه كأنه أوَّل مرَّة يسمعه.

 

• أذكر أنِّي زُرت صديقًا لي كان مريضًا، فلمَّا دخلتُ عليه وجدتُ أنَّ عنده أحد الدكاترة، ولم يكن ملتحيًا، فما أن دخلتُ ورأى هيئتي؛ حتى تغيَّر وجهه، واشمأزَّت نفسه، وكأني ضربتُه أو سببْتُه، ورأيتُ ذلك ظاهرًا عليه؛ وأنا لم أسلِّم عليه بعدُ، وقبل أن أصافحَه عرَفتُ أنه قد أخذ فكرة عن الملتحين غير جيدة، أو أنَّه يرى أنني سأضايقه؛ كونه غيرَ ملتحٍ أو نحو ذلك، الشاهد أنني وضعتُ في ذهني هذه القاعدة: اهتمَّ باللقاء الأوَّل، فصافحتُه بحرارة، وبششْتُ في وجهه، وابتسمتُ له، وعرَّفني زميلي عليه: الدكتور فلان والمستشار وعضو هيئة التدريس في الجامعة الفلانية، فرحبتُ به، وقلتُ له: إني أتشرَّف بمعرفتك، وأخذتُ أسأله كالتلميذ أمام أستاذه، وأكرِّر كلمة الدكتور، وعبارات التقدير له، وأمُّه تناديه لكي يخرُجَا، وهو يسترحِم والدته للجلوس قليلاً، وهذا الجلوس القليل استغرق الساعتين، وفي نهاية اللقاء أخرَجَ من جيبه بطاقة مكتوبًا فيها اسمُه ومنصبه وجواله، وقال لي: أي خدمة أتشرَّف بها؟ فشكرتُه، وكررت له سعادتي بالجلوس معه، ولما خرج قال لي زميلي المريض: ماذا صنعتَ؟! لقد سحرْتَه.

 

• أحد جيراننا كنت إذا خرجتُ من بيتنا إلى الصلاة ورأيته، لا أحرص أن ألتقي به، ولكني أسلِّم عليه من بعيد، دون الحديث معه، فذات يومٍ حرصتُ أن أطبِّق بعض هذه القواعد التي كتبتُها في فنِّ التعامل مع الآخرين، وأنظر ما يحدث لي معه! فأحسستُ به وهو يخرج من باب بيتِه، فقاربتُ خطاي حتى ألتقي به وهو خارج، ولمَّا خرج سلَّمت عليه، وصافحته، وابتسمتُ له، فردَّ علي وابتسم في وجهي، ثم ناديتُه بأحب الأسماء إليه، وكنيته (أبو عبدالعزيز)، ثم تحدَّثتُ معه في حديث هو يحبُّه ويعرفه، عن عمله في شركة الكهرباء، وكان الحديث شائقًا، حتى وصلنا بابَ المسجد، وصلينا بجانب بعضنا بعضًا، وخرج قبلي، وإذا به ينتظرني عند الباب، وأكملنا الحديث إلى باب بيته، واستمرَّت هذه المودَّة، كلما خرج من بيته للصلاة يلتفتُ وراءه فإذا رآني انتظرني حتى أصلَ إليه، ونسير معًا إلى المسجد.


[1] مسند الإمام أحمد 15371، السيرة النبوية لابن هشام 2/288، الروض الأنف للسهيلي 2/261.

[2] صحيح البخاري 53، 87، صحيح مسلم 17.

[3] صحيح مسلم 2638.

[4] صحيح البخاري 6416.

[5] سير أعلام النبلاء للذهبي 5/86.

__________________________________________________________
الكاتب: د. إبراهيم بن فهد بن إبراهيم الودعان