هذا أعظم ما فيه
خص الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم بجملة مكارم، تُثبت صدق نبوته، وشرف منزلته. ومن أجلها شأنًا وأعظمها فخرًا، إكرامه بالقرآن الكريم، كتاب يتلى آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر الأولين، وبُشرى للمصدقين، ووعيد للمكذبين.
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -
جــاء النّبيون بالآيات فانصرمت[1]
وجـئتنا بحكـيمٍ غير مُنصـرمِ
آياته كلما طـال المـدى جُــدد
يزينهنّ جلال العـتق والقـدمِ
خص الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم بجملة مكارم، تُثبت صدق نبوته، وشرف منزلته. ومن أجلها شأنًا وأعظمها فخرًا، إكرامه بالقرآن الكريم، كتاب يتلى آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر الأولين، وبُشرى للمصدقين، ووعيد للمكذبين.
وإن كتابًا تكلم بآيه الرب العظيم، ونزل به الروح الأمين، على قلب سيد الأولين والآخرين، في أعظم شهر هو شهر رمضان وفي أعظم ليلة هي ليلة القدر - لحريّ بكل مؤمن أن يُنيخ المطايا عنده، ويجُلي فكره للنظر في آياته، وينهل من معينه الطاهر وفيضه الزاخر.
وإن قرآنًا تعجبت الجن من عظمته فآمنت، وانطلقت تنذر قومها، لحقيق بالمؤمن أن يشغله هم التفكر فيه، ليحيا بذكره ولو رمي بالتيه. قال الحق تعالى: {وَإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْـجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ 29 قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْـحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ 30 يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 31].
إنه وعظ يشفي الصدور، ويلين الصخور. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
ولا عجب اليّوم أن نقرأ عن رجال سبقوا كانوا بين عَبرة يَذرونها، وتوبة يُظهرونها بعد كل آية يقرؤونها.
فتَّشوا عن مصادر قوة الإيمان فألْفَوها في محكم الرحمن، ونقبوا عن اليقين فوجدوه بين آيات المتين، وأرادوا أن يُخمدوا جمرة الغضب فعمدوا إلى كتاب أعجز العرب، وبحثوا عن الهداية والشفاء فرأوهما في كلام إله السماء. قال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: ٤٤]. وراموا إذعان القلوب؛ فلم تتكاءد أن تخضع لبيان علام الغيوب. قال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
وما ابتغوه وجدوه فلِمَ حصدوا هذا كلّه؟
مكمن هذا العيش النضير، هو تدبر آي الحكيم الخبير.. قرأوا حروفه بقلوبهم وبصيرتهم، لا بألسنتهم وأبصارهم.
ولأننا نقرأ القرآن فلا يُجاوز حناجرنا، ولا تستقر حلاوته في وجداننا، غاب عنا أجل ما فيه، وأسمى مسائل تدبر معانيه. ولم نزل على هذا الحال حتى استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير. وكان المصابَ الجلل قلوبٌ تصد عن فقه كلام ربها، وتركن إلى كلم أهل الحيف والزلل، من شعر وطرب وقصص وروايات وإنشاد أبيات.
بل قد نسمع آيات تدك الجبال دكًّا، فتذرها قاعًا صفصفًا، ونحن نمتطي اللهو ونعتده وننكمش في غيّنا ونضحكه. قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْـحَدِيثِ تَعْجَبُونَ 59 وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ 60 وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61].
ومن رحم هذه الحال المحزنة في تعاملنا مع كلام ربّنا، خرجت هذه الكلمات لتُجيب عن كثير من التساؤلات: ماذا يعني تدبر آيات القرآن؟ وما أمارات التدبر المفيد؟ وكيف كان حال السلف مع القرآن؟ وما هو أهم داعٍ إلى هجر التدبر؟ وكيف السبيل إلى تدبر آيات التنزيل؟ وما هي ثمرات التدبر الحكيم؟
فماذا يعني تدبر آيات القرآن؟
التدبر كالتدبير لغةً: وهو النظر في عاقبة الأمور[2]، وفي الاصطلاح: قريب من التفكر، إلا أن التفكر تصرُّف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرُّفه في النظر في العواقب[3].
ولئن كانت بين التفكر والتدبر حدود فارقة[4]، فإن تدبر القرآن إمعان النظر في الدليل لفظًا ومعنًى، ثم التطلع إلى عاقبة ومصير المخاطب فيه.
بل تدبر القرآن قد جمع بين إيراد الدلائل وبيان العواقب. والأول طريق إلى الثاني؛ فمن أدام النظر في دلائل وحدانية الله وقدرته، وإحاطة علمه، ودلائل طرق الهدى، وسُبل الضلال، ثم أخلص الفكر، تبينت له عاقبة كل فريق، كونها مبينةً على أخبار تلك الدلائل الواردة.
ونحو هذا: أن يقرأ المؤمن آيات ودلائل النعم، وهي كثيرة تترى، حتى إذا تفكر فيها تفكر المتبصر، انجلت له حقيقة وجود الله، وعلم عِلم المتيقن عظمة المنعم وقدر النعم، ومصير المقر المعترف بها، وعاقبة المنكر لها.
ما هي أمارات التدبر المفيد؟
ما أقبل عبد بقلبه على تلاوة كلام ربه إلا لاحت عليه علامات تُثبت صدق تدبره لهذا البيان العجيب، دلّ ظاهر القرآن على أهمها، فمن ذلك: اقشعرار الجلد، ووجل القلب، وذُروف العين، قال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقال في موضع آخر: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: ٢].
قال الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83][5]: «وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتماوتون» هذه أماراته الصحيحة، وعلاماته الناصعة، وشواهده الساطعة، لا تكاد تخفى إلا عن أهل العمى، ولا تتستر على من جعل همه الوقوف عند كل آية يمتع بصره، ويجلي فكره في تدبرها.
هذه بشائر لأولى الألباب، تروق لها أنفسهم، وتشرئب لها أعناقهم، وتطمئن بها أفئدتهم، غرتها هذه الطلائع لتظهر بَعدُ دوحةٌ[6] ثمارها يانعة، وقطوفها دانية، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها.
فكيف كان حال الرعيل الأول مع القرآن؟
عن حصين بن عبدالرحمن قال: قلت لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: «كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة القرآن؟ قالت: كانوا كما ذكرهم الله، أو كما وصفهم عز وجل، تدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم»[7].
كانت حياتهم بالقرآن يحيون به، ويعيشون من أجله. يُمتّعون أبصارهم بمرآه، ويغسلون أفئدتهم بماء آياته، فيُجلون عنها صدأ القسوة، ويفتحون أقفالها.
وإليك نُتفًا من أخبارهم تُثبت لكل ذي عقل ولب ما لهذا القرآن من المكانة العظيمة عند من فقه صدق أخباره، وأنفذ أوامره، وانزجر بنواهيه.
عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاء»[8].
وفي خبر ابن الدغنة «أن أبا بكر ابتنى مسجدًا بفناء دار ابن الدغنة وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فتنقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه. وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك عينيه، إذا قرأ القرآن»[9].
وقال علقمة بن وقاص: «صليت خلف عمر بن الخطاب، فقرأ سورة يوسف، فكان إذا أتى على ذكر يوسف، سمعت نشيجه من وراء الصفوف»[10].
وقال القاسم بن محمد: «كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة، فأسلم عليها فغدوت يومًا، فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: ٧٢]، تدعو وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة تصلي وتبكي»[11].
وقال بشير: «بتّ عند الربيع بن خيثم ذات ليلة، فقام يصلي فمر بهذه الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}، فمكث ليلة حتى أصبح، ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد»[12].
هذا تعلقهم بحباله، وتفكرهم في آياته.. فما أهم داعٍ إلى هجر تدبره، ومفارقة عُروته؟!
إن أعظم الدواعي والأسباب إلى هجر تدبر كلام رب الأرباب، استعصام القلب بحب الدنيا، والركون إليها وأنسه إلى كلام المفتونين بها، خاصة إذا تعلق القلب بكلام أهل الطرب والعبث والغناء، فالمصيبة أعظم، والبُعد أنأى.
قال ابن القيم رحمه الله: «شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة، لجالت في معاني كلامه، وآياته المشهودة، ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم، وطرف الفوائد. إذا غُذّي القلب بالتذكر، وسُقي بالتفكر، ونُقِّيَ من الدغل رأى العجائب»[13].
وإذا تمكنت تلك الأسباب كانت النتيجة قلبًا قاسيًا مُتقاذفًا متنازحًا، لتردفها المأساة العُظمى: خلوه من محبة الله، فإذا حصل؛ لم تدخل محبة كلام مولاه إلى هذا المقام، إلا كما يدخل الجمل في سم الخياط.
ولما كان موطن التدبر هو القلب، قال الله مخاطبًا خطاب المستفهم العالم بالأسباب: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24][14]، قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: «أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مُطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه».
ومتى تعلق القلب بغير الله، واعتد بسواه، وكان أُذنًا للأغاريد، أقفل أبوابه، وصده عن تدبر كلام خالقه. قال الحق عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الزمر: ٢٢].
فلا تعجب أن حُرمت نعمة تدبر القرآن، وفي قلبك غير الملك الديان، فاعمَد إلى أن يكون هذا المحل الشريف لله وحده، ومن بعدُ تُرزق تدبر كلامه، والأنس به، والتلذذ بسماعه، والشوق إلى لقائه. واعلم أن هذا الموطن لا يقبل شريكين في منزلة واحدة من المحبة والتوقير.
وكيف السبيل إلى تدبر آيات التنزيل؟
ما جدّ المخلصون وقصد الصادقون غاية أعظم من التفكر في آيات كتاب ربهم، وإنما تُطلب الغايات من أصحابها وأهلها. وأوضح السبل إلى نعمة التدبر؛ علمك أنها لا ترجى إلا من عند الله، فهو المتفضل بها عليك، ولا يُوصَل إلى الله وآياته بغير الله - تقدست أسماؤه - فانهض نهضة الشمّير، وقفْ على بابه، واسأله سؤال الفقير، وذُلّ الخاشع، وانكسار الخاضع؛ تُعطى هذا الفضل في باقي أيامك.
ومن أوضح السُّبل: هجر ما اعتادت عليه النفس، وقطع العلائق والعوائق عنها، من سكون وراحة، وسعة معصية؛ وما تعلق بالقلب من حب الدنيا ولذاتها، والاطمئنان إلى حديث الناس وعيهم؛ إذ الوصول إلى المطلوب متوقف عليها.
فإذا ظهر هذا من صاحب الفاقة والحاجة، انجلت علامات صحة الإرادة، وصدق العزيمة في الوصول إلى تدبر كلام الله. قال ابن القيم رحمه الله في معرض حديثه عن مثل هذه الإشارات: «أن يكون هم المريد رضا ربه، واستعداده للقائه، وخوفه على وقت مر في غير مرضاته، وأسفه على قربه، والأنس به، وجماع ذلك أن يصبح ويمسي، وليس له هم غيره»[15].
ومتى تقرر هذا بدأت مرحلة تصفية القلب، وخلوصه مما علق به، حتى يكون مقامًا طاهرًا حاضرًا لاستقبال فيض زاخر من أعذب الكلام، وأحسن البيان، لأن محبته لا تستقر إلا في غورٍ خالص نقيّ.
نزِّه فؤادك من سوانا تلْقنا
فجنابنا حِـلٌّ لكلّ مُنَــــــــزَّهِ
والصّبر طلسم لكنز وصالنا
مَن حَلَّ ذا الطلسم فاز بكنزهِ
ومن أبين سُبل الهداية إلى تدبر كلام الرحمن؛ سبيل اقتفى أثره رجال صادقون، هم من آيات ربهم مشفقون، فشاد ما أسّسوه، وثمّر ما غرسوه، ولزم مضمارهم من أتى بعدهم، ليجد ما وجدوه. طريق شعاره: «اقرأ القرآن كأنك المخاطب فيه»، عن أحمد بن ثعلبة قال: «سمعت سلم بن ميمون الخوّاص يقول: قلت لنفسي: يا نفس اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به فجاءت الحلاوة»[16].
ومن لطيف ما يُذكر في بيان هذا السبيل ما أورده الإمام ابن القيم بقوله: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه. فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله»[17].
هذه أقوم السبل إلى تدبر آيات التنزيل، وإنما اقتصر الكلام عليها لأهميتها في فتح أقفال القلب، حتى ينقذف إليه نور كلام الرب.
على أن هذه الجزئية من الموضوع قد أفاض العلماء في تفصيلها بتوضيح سبل أخرى، تقيم المائل وتؤمن السائل، منها: أن تختار في أول طريقك إلى تدبر القرآن الآيات التي أثنى الله فيها على ذاته العلية، فتلزم قراءتها، وتعيد تلاوتها خاصة في جوف الليل الآخر.
ومنها كذلك، أن تُفرز من كتب التفسير وهي كثيرة، تفسيرًا جامعًا في بابه، شافيًا في توضيح تأويل آي القرآن، كـ:«أضواء البيان» للأمين الشنقيطي، أو تسيير الكريم الرحمن لناصر السعدي، أو «إيجاز البيان عن معاني القرآن» لأبي الحسين الغزنوي، أو «التحرير والتنوير من التفسير» لطاهر بن عاشور. ومما يعين مريد التدبر معرفة أساليب كلام العرب ومناحيهم، وأضرب البلاغة في بيانهم؛ كون القرآن نزل بلسانهم.
وليعلم من صدقت سريرته في إخراج هذا الدر من اللُّجِّي، أن المضيّ في رحاب هذه السّبل يحتاج إلى نفَس طويل، ودأب حثيث، وبذل جُهد مُكدّ:
إن كنت تبغي بهم لحوقا
فابذل لمولاك منك جهدا
ولا تكن طامعًا بفـوز
ولم يــر الله منك كــــــــدّا
فما هي ثمرات التدبر الحكيم؟
تدبر القرآن بضاعة العاقل التي لا تخسر، وربحها يظهر في أرض المحشر. من تدبر القرآن أورثه العلم بالله، والعلم به يورثه الرهبة منه وخشيته تعني مراقبته سرًّا وعلنًا، وكذلك تأتي المحبة من بعد. قال إبراهيم بن الأشعث: «سمعت الفضيل يقول: «رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله»[18].
من تدبر القرآن رُفع ذكره وقدره، فعن المُزنيّ قال: «سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته»[19].
من تدبّر القرآن طال قلقه، وامتد رجاؤه، واشتد شوقه، وعظُم خوفه، ولان قلبه، وذرفت عيناه، وهانت الدنيا عنده. روى حوشب عن الحسن قال: «يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولن في الدنيا حُزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثُرنّ في الدنيا بكاؤك»[20].
من تدبر القرآن قدم بين يديه ذُخرًا يغنيه يوم فقره، هو من أجل الأعمال. للأخطل[21]:
والناس همهم الحياة ولا أرى
طول الحياة يزيد غيَر خـبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذُخرًا يكون كصالح الأعمــال
من تدبر القرآن، استشعر وفادته على ربّه وهو قائم في مصلاه ليُحسن الله وفادته عليه يوم يلقاه.
من تدبر القرآن، أتبع السيئات بالحسنات، وأصلح الهفوات قبل الفوات.
من تدبر القرآن، علم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى.
من تدبر القرآن، بكى ذنوبه بدمع يضارع المُزنَ حال مُصابه.
من تدبر القرآن، أظهر الإحسان قبل إغلاق بابه.
من تدبر القرآن، أصغى إلى العظات، وألغى الكلم المحفظات.
من تدبر القرآن اقتنع بالكفاف، وامتنع عن الحرام، واستمع للعظات، وارتدع بالوعيد. عن ابن مالك قال: قال جعفر: «سمعت جدي الحسين بن عبدالعزيز يقول: من لم يردعه القرآن والموت ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع»[22].
المتدبر للقرآن أكمل الناس معرفةً بالله. قال ابن القيم: «وأعمُّ هؤلاء معرفةً، من عرفه من كلامه؛ فإنه يعرف ربًّا قد اجتمعت له صفات الكمال، ونعوت الجلال، مُنزّه عن المثال، برئ من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن، وكل وصف كمال»[23].
وإليك ترياق من فذّ ملأ الآفاق: «اخرج بالعزم من هذا الفناء الضّيق المحشو بالآفات ،إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت، فهناك لا يُتعذّر مطلوب، ولا يُفقد محبوب»[24].
ها نحن نُدعَى إلى إجابة داعي السماء: «يا قومنا أجيبوا داعيَ الله»، وليس لنا بعد هذه الدعوة والاستقصاء، إلا أن نهيأ قلوبنا لتكون مساكن طيبة، تنظر في الآيات، وتتدبرها في الآصال والغدوات.
فهلم إلى حدائق ذات بهجة، وبساتين ذات نظرة، وريحانة من رياحين الجنة، من شمها راقت نفسه إلى عناقيد حِسان، ليس فيها نقصان، إذا أبصرها لم يرضَ إلا المُقام في أعالي الجنان، والازدلاف من الرحمن.
أتـاك حــديث لا يمُـلّ
شهـيٌّ إلينا نثره ونظـامُــــــه
إذا ذكرته النفس زال عناؤُهـا
وزال عن القلب الُمعنَّى ظلامُـه
[1] صرمه، يصرِمه صرمًا، ويُضم: قطعه بائنًا، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (4/136)، مادة «صرم».
[2] القاموس المحيط،(1/26)، مادة «دبر».
[3] التعريفات للجرجاني، باب «التاء»، ص: 56.
[4] الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، ص: 75.
[5] تنبيه: البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه ليس مقصودًا لذاته، ولا هو المراد في الأصل؛ إنما المقصود حضور القلب وتدبره لما يتلو ويسمع فيُحدث له ذلك إيمانًا ويقينًا ورغبة ورهبة ومحبة وشوقًا، فتوجب له هذه الأمور خضوعًا وخشوعًا وذلًا وانكسارًا، يصاحب ذلك رقة وبكاء. انظر: «عودوا إلى خير الهدى»، لإسماعيل المقدّم، ص: 21.
[6] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/258-259)،_ الدوحة: الشجرة العظيمة، فقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي، ص: 54.
[7] رواه الإمام أحمد (1/381)، وأبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، والحاكم (4/417-418)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة ، رقم (331).
[8] رواه أبو داود رقم (904)، والترمذي في الشمائل رقم (276) ص: 169 والنسائي (3/13) وصححه النووي.
[9] رواه الإمام أحمد (6/198)، والبخاري برقم (3905).
[10] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (14/8).
[11] السمط الثمين، ص: 90.
[12] حلية الأولياء، (2/112).
[13] الفوائد، لابن القيم، ص: 143.
[14] تفسير القرآن العظيم ،لابن كثير( 4/262).
[15] الفوائد، ص: 169.
[16] سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/180).
[17] الفوائد، ص: 13.
[18] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/426-427).
[19] سير أعلام النبلاء،(10 /24).
[20] سير أعلام النبلاء، (5/575).
[21] انظر: الشعر والشعراء، ص: 393، وخزانة الأدب، (1/489)، والسير (5/589).
[22] سير أعلام النبلاء، (12 /334).
[23] الفوائد لابن القيم، ص: 255.
[24] الفوائد، ص: 63.
______________________________________________________-
الكاتب: مأمون بن القاسم العباسي