بينيت وسيطَا عند بوتين.. حين يتوسّط المحتل لدى الغازي
إسرائيل الآن تحاول الظهور بثوب المحايد الذي يرضي جميع الأطراف، فهي تتوسط لدى الروس، وتتبرع للأوكرانيين بالمساعدات الإنسانية، وليست الأسلحة، كما تحاول الخروج ببعض المكاسب الأخرى من خلال استقطاب المزيد من يهود العالم إلى الأراضي المحتلة،
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
فيما كان العالم يترقب ما يحدث في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، وتحسب كل دولة حسابات مصالحها لتعلن عن التوجه الذي ستدعمه أم أنها ستبقى على الحياد، كان الإسرائيليون في الأراضي المحتلة هم أول من خرجوا في مظاهرات دعمًا وتأييدًا للأوكرانيين في مواجهة الغزاة الروس، كان المشهد غريبًا ومثيرًا للسخرية في آنٍ واحد، تزامن ذلك مع ظهور عدد من رجال الدين اليهودي وهم يلفون أنفسهم بعلم أوكرانيا عند حائط المبكى في القدس ويأدون صلاوتهم التلمودية، واكتملت عبثية المشهد عندما رأينا فجأة نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، يذهب كوسيط دبلوماسي للتوسط لحل الأزمة، يطير إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين، ثم يحط في برلين للقاء المستشار الألماني أولاف شولتز، قبل أن يتحدث عبر الهاتف لثلاث ساعات مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ثم يطلع الإدارة الأمريكية على خلاصة جهوده وينسق مع الفرنسيين ما توصل إليه، لتتواصل غرابة المشهد عندما يصبح المحتل الإسرائيلي لأراضي فلسطين وسيطًا لدى الغزاة الروس الطامحين لغزو أوكرانيا والسيطرة على أراضيها!
حين توجه بينيت إلى موسكو سرًا في الصباح الباكر من يوم السبت 5 مارس/آذار 2022م، كان قد انتهك بذلك عطلة السبت الدينية المقدسة لدى اليهود، وهو وقت لا يمارس فيه بينيت عادة مهامه الحكومية، لاحقًا أشار متحدث باسم حكومة الاحتلال إلى أن "اليهودية تسمح بانتهاك العطلة عندما يكون الهدف هو الحفاظ على حياة الإنسان"، بالرغم من أن قادة الكيان الصهيوني كثيرًا ما انتهكوا عطلات السبت لكن من أجل التنكيل بشعب فلسطين، لكن توسط بينيت في هذه الأزمة لم يأت من فراغ، فقد سبق ذلك مناشدات عديدة من الرئيس اليهودي الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مطالبًا فيها يهود العالم، وبالأخص يهود إسرائيل، للتدخل على خط الأزمة وتقديم كل سبل الدعم لأوكرانيا، وهنا جانب عبثي آخر حين نجد قتلة المدنيين والأطفال في فلسطين وفي المنطقة العربية، مطالبين بالوقوف في وجه الروس للحيلولة دون قتل المدنيين والأطفال في أوكرانيا، قال زيلينسكي: "أنا أخاطب الآن جميع يهود العالم، ألا ترون ما يحدث؟ لهذا السبب من المهم جدا ألا يلزم ملايين اليهود حول العالم الصمت الآن، فالنازية ولدت وسط الصمت، لذلك ارفعوا الصوت حيال قتل المدنيين، ارفعوا الصوت حيال قتل الأوكرانيين".
لا يريد الإسرائيليون أن يخسروا شيئًا بسبب هذه الحرب، لذا فإن قادة الكيان الإسرائيلي يتجنبون حتى الآن الإدلاء بإدانات قوية لروسيا، سعيًا للحفاظ على العلاقات الأمنية الحساسة مع موسكو، كما أنهم رفضوا إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا على الرغم من الطلبات المتكررة من كييف بهذا الصدد، وعلى الجانب الآخر فإنهم يسمحون بالتظاهرات المؤيدة لأوكرانيا ويدعمون حالة التضامن الشعبي مع الأوكران، هذا هو التوازن الذي تجد إسرائيل نفسها تؤديه بينما تشتعل الحرب مرة أخرى على حافة أوروبا، فمن ناحية يجب أن تقف إلى جانب حلفائها الغربيين وأن تدعم زيلينسكي، وتساعد السكان اليهود في البلاد على الهروب من أهوال تلك الحرب، لكن من ناحية أخرى فإن إسرائيل تتردد في استعداء روسيا التي تعتمد عليها لتسهيل عملياتها العسكرية المجاورة في سوريا، فمنذ التدخل الروسي في سوريا عام 2015 تغيّر مجرى الصراع لصالح بشار الأسد، وأصبحت موسكو الآن القوة الرئيسية في سوريا، حيث تلقي بالقنابل على المدنيين السوريين في المناطق التي لا تزال خارج سيطرة النظام، والأهم هنا أنها تسمح للقوات الجوية الإسرائيلية بالعمل ضد حزب الله اللبناني والجماعات الأخرى المدعومة من إيران الناشطة في الصراع داخل سوريا، كما أنها تضمن للكيان الإسرائيلي حالة من الاستقرار على حدود هضبة الجولان المحتلة، كما روسيا أيضًا من بين القوى التي تتفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي في فيينا، حيث بات الاتفاق وشيكًا فيما تعارضه إسرائيل، على اعتبار أنه لا يقيّد الأنشطة النووية الإيرانية بشكل كاف، وناقشت إسرائيل هذه المعارضة مع روسيا بشكل متكرر في الماضي على أمل أن يقف الروس في صفها، إضافة إلى ذك فإن إسرائيل تخشى أن تثير خطواتها غير المدروسة حالة من العداء ضد المجتمعات اليهودية الكبيرة في الداخل الروسي.
لكن تجنب استفزاز روسيا يضع إسرائيل على المحك في علاقتها طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، انضمت إسرائيل إلى إدانة روسيا في الأمم المتحدة لكن بشكل متأخر ومتردد، وقد يكون الخوض في وساطة دولية في ظل الحرب القائمة بمثابة حقل ألغام لإسرائيل، إنها تعتمد على علاقاتها مع واشنطن بشكل يجعلها لا تستطيع تحمل إغضاب الأمريكيين، علاوة على ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت الجهود التي قيل إنها يتم تنسيقها مع الحلفاء الأوروبيين ستؤتي ثمارها، بعد عقود طويلة من الاستفادة تقليديًا من الوساطة الدولية مع الفلسطينيين والدول العربية تتجه إسرائيل ببطء نحو أن تصبح الوسيط، قد يساعدها في ذلك أنها لم تنخرط حتى الآن في خطاب معادٍ صريح لموسكو، وهو ما يؤهل رئيس وزارئها أن يكون هو الرابط الدبلوماسي الرئيسي للغرب مع الكرملين، وهو موقف حساس شديد الضغط، لكن المشكلة الكبرى هي أن بينيت يفتقر إلى الجاذبية والخبرة الدولية لسلفه بنيامين نتنياهو، فقد وصل بينيت إلى السلطة فقط خلال العام الماضي في إطار اتفاق بين 8 أحزاب متباينة أيديولوجيًا، وبالرغم من المناصب الوزارية المختلفة التي شغلها في الماضي، إلا أنها لم تمكنه من الحصول على سمعة دولية تؤهله لهذه الوساطة بين زيلينسكي وبوتين، لكن على أي حال وسواء ساعدت هذه الوساطة الإسرائيلية في نزع فتيل الأزمة الأوكرانية أم لا، فإن بينيت قد جنى بالفعل بعض المكاسب ومن المنتظر ان يجني المزيد، فبينما كان سلفه نتنياهو يفتخر بصورته كرجل دولة عالمي، وكان يُظهر نفسه دائما وهو يقف إلى جانب العديد من قادة العالم عبر اللوحات الإعلانية الضخمة في جميع أنحاء الأراضي المحتلة عبر 4 انتخابات متتالية بين عامي 2019 و2021، تمكن بينيت أخيرًا من تصوير نفسه إلى جانب بعض القادة، ونشر مكتبه خلال الأيام القليلة الماضية صورًا وهو يتنقل من عاصمة إلى أخرى، قد يكون من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان ذلك سيُترجم ذلك إلى دعم شعبي لبينيت أم لا، خاصةً وأن نسبة تأييده في استطلاعات الرأي منذ أن أصبح رئيسًا للوزراء منخفضة للغاية.
بأي حال فإن إسرائيل الآن تحاول الظهور بثوب المحايد الذي يرضي جميع الأطراف، فهي تتوسط لدى الروس، وتتبرع للأوكرانيين بالمساعدات الإنسانية، وليست الأسلحة، كما تحاول الخروج ببعض المكاسب الأخرى من خلال استقطاب المزيد من يهود العالم إلى الأراضي المحتلة، حيث أعلنت وزارة الهجرة والاندماج في حكومة الاحتلال أن حوالي 200 ألف أوكراني من أصل يهودي مؤهلون للحصول على الجنسية الإسرائيلية إن أرادوا ذلك، كما أنها ستعترف بالمهاجرين الأوكرانيين الفارين من الصراع كلاجئين، وسيحصل اللاجئون على مبلغ من الحكومة يتراوح بين 6 آلاف و15 ألف شيكل حسب وضعهم العائلي، لدعمهم في هذه الظروف العصيبة. وبشكل عام، ليس لدى إسرائيل الأدوات الدبلوماسية للتوسط بشكل مناسب في مثل هذه الأزمة المعقدة، لا يكفي أن تكون صديقًا للطرفين قد تحل أزمة بينهما، وبغض النظر عن حسن النية الإسرائيلية إن وجدت، فإن التأثير الإسرائيلي لا يمكنه أن يضغط على بوتين للتراجع عن مساره، وسبق وأن فشلت جهود فرنسا وتركيا – وهما لاعبان أكبر بكثير من إسرائيل على الصعيد الدولي - في الحيلولة دون وقوع الأزمة، فهل سينجح بينيت في التوسط لدى بوتين؟، هل يمكن أن ينجح المحتل في أن يثني الغازي عن القيام بمثل ما قام به؟
____________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر