إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ

خالد سعد النجار

وفي الآية من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي: من الأمر بالكتابة للمتداينين، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة

  • التصنيفات: التفسير -

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{282} وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{283} }

هذه الآية الكريمة أطول آية في كتاب الله؛ وهي في المعاملات بين الخلق؛ وأقصر آية في كتاب الله تعالى قوله عز وجل: { {ثم نظر} } [المدثر:21] وأجمع آية للحروف الهجائية كلها آيتان في القرآن فقط؛ إحداهما: قوله تعالى: { {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً} } [آل عمران:154]، والثانية قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه...} [الفتح:29]، فقد اشتملت كل واحدة منهما على جميع الحروف الهجائية.

{ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} } داين بعضكم بعضا في شراء أو بيع أو سَلم أو قرض {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فأما الآجال المجهولة فلا تجوز {فَاكْتُبُوهُ} لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود، وظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب، ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: { {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} } والرهن لا يجب إجماعا، وهو بدل من الكتابة عند تعذرها، فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا.

وصرح بعدم الوجوب بقوله: { {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} }، فالتحقيق أن الأمر في قوله: {فَاكْتُبُوهُ} للندب والإرشاد؛ لأن لرب الدين أن يهبه ويتركه إجماعا، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس، قاله القرطبي.

وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة .. قاله ابن عطية، وهذا القول هو الصحيح.

{ {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ} } التثنية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين لأن يتهم في الكتابة، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعاً على ما سطره الكاتب { {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} } وفيه أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط، حتى يجيء مكتوبه معدّلاً بالشرع، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلاَّ فقيهاً ديناً.

وقال القفال: أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلاً إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل، فيحتاج الحاكم إلى التوقف.

{ {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} } لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق { {وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ} } وجمع بين اسم الذات (الله) وبين وصف (الرب)، وإن كان اسم الذات منطوقاً على جميع الأوصاف. ليذكره تعالى كونه مربياً له، مصلحاً لأمره، باسطاً عليه نعمه. وقدم لفظ: الله، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم.

 { {وَلاَ يَبْخَسْ} } ينقص { {مِنْهُ شَيْئاً} } لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل، وليذكره كله {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} لا يحسن التصرفات المالية، وقيل الأحمق، وقال الشافعي: المبذر لماله المفسد لدينه {أَوْ ضَعِيفاً} كالشيخ الهرم أو الصغير السن { {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} } كالأخرس أو المريض العقلي أو الغائب عن موضع الإشهاد { {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} } وكيله { {بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ} } لم يقل شاهدين، فشهيد للمبالغة، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه، فأمروا بطلب الأكمل، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلاَّ وهو مقبول عندهم { {من رِّجَالِكُمْ} } أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار { {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} } بتعذرهما أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له { {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} } ولا يجوز استشهاد المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال.

{ {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} } قيداً في الجميع، ولذلك جاء متأخراً بعد ذكرهم جميعا. والعبرة «بالرضا» عند عموم الناس؛ لا برضا المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.

قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين والكفاءة.

وقال الشعبي: ممن لم يطعن في فرج ولا بطن.

وقيل: المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال: أن يكون حراً، بالغاً، مسلماً، عدلاً، عالماً بما يشهد به، لا يجر بشهادته منفعة لنفسه، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.

وعن محمد: لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة، ولا شهادة مخنث، ولا لاعب بالحمام يطيرهنّ.

وعن الشافعي: إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته.

وعنه: إذا كان أكثر أمره الطاعة، ولم يقدم على كبيرة، فهو عدل، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون، والسمت الحسن، وحفظ الحرمة، وتجنب السخف، والمجون، لا تفسر بنظافة الثوب، وفراهة المركوب، وجودة الآلة، والشارة الحسنة. لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.

{ {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} } ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة، ولذلك قوبل بقوله: { {فتذكر} }

من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: «فتذكرها الأخرى»؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: {فتذكر إحداهما الأخرى} لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.

 { {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} } وهذا النهي ليس نهي تحريم، فله أن يشهد، وله أن لا يشهد.

وقال الشعبي: إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد، وإن وجد فهو مخير.

ولما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة، نهى أيضاً عن السآمة في كتابة الدين، كل ذلك ضبط لأموال الناس، وتحريض على أن لا يقع النزاع، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهمٌ فيه أو إنكار، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف، وقدم الصغير اهتماماً به، وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ} لا تضجروا أو تملّوا من الكتابة ولو كان الدين صغيراً {أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} نص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره، فيكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره، لأن الأجل بعض أوصافه.

{ {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ} } أعدل في حكم الله وشرعه { {وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} } أثبت لها وأكثر تقريراً لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب { {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} } أقرب أن لا تشكوّا بخلاف الشهادة بدون كتابة

ثم رخص تعالى رحمةً منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس، ويقبض الثمن فيه، فقال { {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} } أي: تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها { {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} } ولم يبين الله تعالى في هذه الآية اشتراط العدالة في الشهود، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وقوله: { {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} } [الطلاق:2] { {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ} } في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها { {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} } وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها.

والواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على { {اتقوا الله} }؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى، وعدمها - وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.

{ {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} } وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر، وليست في معنى واحد، فالأولى: حث على التقوى، والثانية: تذكر بالنعم، والثالثة: تتضمن الوعد والوعيد.

{ {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} } الرهان جمع رهن، وذلك بأن يضع المدين رهناً لدى دائنه عوضا عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال عدم ائتمانه، والخوف منه.

وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر، ومع وجود الكاتب، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار، لأنه مظنة فقدان الكاتب، وإعواز الإشهاد، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة، ونبه بالسفر على كل عذر، وقد يتعذر الكاتب في الحضر؛ كأوقات الاشتغال والليل وقد صح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهن درعه في الحضر، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه.

{ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ} } فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق، وحين أداء ما لزمه من الدين، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء.

وهذه الآية تفيد أن الكتابة والإشهاد والرهن للندب والإرشاد وليس للوجوب .. قال ابن العربي المالكي: إن هذا قول الكافة. وهو الصحيح ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. وقد باع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتب، ونسخة كتابه: "هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً، -شَكَّ عَبَّادٌ- لا دَاءَ [مرض]، وَلا غَائِلَةَ [سكوت البائع عما يعلم من مكروه في المبيع ككونه آبقا]، وَلا خِبْثَةَ [الأخلاق الخبيثة كالإباق والزنا والسرقة]، بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ". وقد باع ولم يشهد واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة. اهـ.

{ {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} } لأن الكتمان من عمل القلب فنسب الإِثم إليه.

وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد، ألا ترى أنك تقول: أبصرته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي. فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم، ومكان اقترافه، وعنه يترجم اللسان.

ولئلا يظنّ أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. { {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} }

وفي الآية من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي: من الأمر بالكتابة للمتداينين، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة، ومن أمره ثانياً بالكتابة، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن، أو لوليه إن لم يمكنه، ومن الأمر بالاستشهاد، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيراً، ومن الثناء على الضبط بالكتابة، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق، ومن الأمر بالتقوى، ومن الإذكار بنعمة التعلم، ومن التهديد بعد ذلك، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة، ومن النهي عن كتم الشهادة، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم، ومن التهديد آخرها بقوله: { {والله بما تعملون عليم} }

فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفوس والدماء، فقال:  «من قتل دون ماله فهو شهيد»  وقال:  «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» ولصيانتها والمنع من إضاعتها، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس، وحجر الجنون، وحجر الصغر، وحجر الرق، وحجر المرض، وحجر الارتداد.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]