إسنادُ أعداءِ السنَّة: حدَّثته نفسه عن السّفيه عن إبليس

وسيم فتح الله

لن تنقطع مع طرح سنن الآحاد والاقتصار على المتواتر، فإنهم لن يلبثوا أن يقولوا: وما حاجتنا للمتواتر وعندنا القرآن، حتى ينتهي بهم الأمر إلى قولهم وما حاجتنا بالقرآن وعندنا هذا الإسناد : حدثتني نفسي عن السفيه عن إبليس

  • التصنيفات: الدفاع عن علماء أهل السنة والجماعة -

 

الحمد لله باعث الرسل رحمةً للعالمين، والصلاة والسلام على رسوله في الأولين والآخرين، وعلى أصحابه الأخيار والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛

فإن الله تعالى قد خلق الخَلق، وابتلاهم بالموت والحياة لِيَبلوَهم أيُّهم أحسن عملاً، وجعل لهم نوازع الفطرة بين الفجور والتقوى، فلم يكن شيء أكثر نفعاً للعباد مِن إرسال الرسل لِيرشدوا الناس إلى ما ينفعُهم في تزكية نفوسهم على جادة التقوى، ولِينذروهم ويُحذِّروهم ما يَطيش بهم عنها ويردِيهم في مهاوي الفجور والردى. ولا شك أن حاجةَ الناس إلى الرسل أشدُّ من حاجاتهم إلى الطعام والماء والهواء، فبالأخيرة تقوم الأبدان، وبالرسل وهديهم وسننهم تقوم الأرواح، وما مَثلُ من عاش بجسده ميت الروح إلا كَمَثل جذعٍ يابسٍ من الشجر لا يصلح إلا للحطب والنيران.

ولقد شاء الله تعالى بحكمته الباهرة أن يجعل لِرُسُله صلوات ربي وسلامه عليهم عدواً من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: ( {وكذلك جعلنا لكل نبيٍّ عَدُوّاً مِن المجرمين وكفى بِربِّك هادياً ونصيراً} )[1]، وكفى بمعاداة الرسول جريمةً، وكفى بالله لِمن اتَّبع الرسولَ والتزم سنَّته ولم يَأْبَه لمشكِّكٍ فيها هدايةً ونصرةً على أعدائه وأعداء الرسل وأعداء المؤمنين بهم إلى يوم الدين. ولقد فصَّل الله تعالى في طبيعة هؤلاء المجرمين أعداءِ الرسل حيث قال عز وجل:  {وكذلك جعلنا لكل نبيٍ عدواً شياطين الإنس والجِن يُوحِي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُروراً ولو شاء ربُّك ما فَعلُوه فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون}[2]؛ ومن هنا من هذا التفصيلِ القرآني تدرك حقيقةَ هذا الإسناد الإبليسي الذي اتخذه أعداءُ الرُسُل وأعداءُ الحديث والسنَّة، فَهُم يُوحُون إلى بعضهم البعض، ويَروون عن بعضهم البعض وساوسَ صدورهم المشكِّكَة في السنَّة الطاعنة فيها، ويُسندون وساوسهم وشكوكهم هذه عن أساتذتهم السفهاء الذين اسْتَخَفُّوا بعقولهم وعقول مَن يُحدِّثونهم بباطل القول طعناً في الحديث وترغيباً عن السنَّة، وإنما يُحدِّثُ هؤلاء عن أستاذهم الأول إبليس اللعين، ذلك الذي مَرَد على الحق وسعى في إلقاء حديثه الباطل وبثه بين أتباعه ليضاهي به حديث الوحي، ولكن هيهات هيهات، وقد قال الله تعالى: {وما أرسلنا مِن قَبلك مِن رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تَمنّى ألقى الشيطان في أُمنِيَّتِه فينسخُ الله ما يُلقي الشيطانُ ثم يُحْكِمُ الله آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ} [3]؛ فالله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الوحي مما قد يلقيه الشياطين مِن الباطل في قلوب أتباعه، وسواءٌ أكان هذا الباطل محاولةَ دسِّ شيءٍ في كتاب الله المحكَم أم كان هذا الباطل محاولةَ وضعِ شيءٍ مِن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظ وحيه المعجز قولاً وهو القرآن، ووحيه المكمِّل معنىً وهو السنة النبوية المطهرة، وإنما نبّه الله تعالى على ذلك قطعاً لدابر المشكِّكين الذين يريدون صرف الناس عن اتِّباع الوحي من خلال التشكيك بحقيقته – كما فعل المستشرقون قريباً وفعل الكفار المشركون من قبلهم حين شككوا في حقيقة الوحي- أو من خلال التشكيك بمصداقيته وحجيته أو ببعض منه كما يفعل أذناب المستشرق اليهودي البائس جولدتسيهر في هجومه الممنهج على السنة تشكيكاً وتعطيلاً، حتى إذا هلك بشخصه وفنيت حُجَجُه الواهية على أيدي ثلة من علماء المسلمين جاء أفراخُه اليوم لِيعيدوا نِباحَه بصوتٍ باهتٍ وحُجةٍ تافهةٍ لا تعكس سوى ضآلة عقولهم، وإيحاش قلوبهم، وقيح صدورهم الممتلئة حقداً على هذا الدين العظيم...

ثم تأمل هذا الإسناد الذي يروي به هؤلاء ضلالاتهم ويبثون به شبهاتهم: حدثتني نفسي الأمارة بالسوء قالت: حدثني المستشرق اليهودي الهالك إجناتس جولدتسيهر[4] قال: حدثني إبليس اللعين قال معانداً رب العزة مستكبراً عن أمره : فَبِعزَّتِك لَأُغوينَّهم أجمعين...  

فتأمل هذا الإسناد المظلم الذي يريد به هؤلاء أن ينقدوا وينقحوا صحيح البخاري وصحيح مسلم والسنن والمسانيد، في حين أن الأَولى بهذا الذي حدثته نفسه بالسوء راوياً بلسان الحال أو المقال عن السفيه جولدتسيهر عن إبليس أن دواوين السنة الصحيحة كصحيح البخاري ومسلم بحاجة إلى تنقية وتطهير وتصفية إن الأَولى به أن يُنَقِّحَ قلبَه مما فيه من جهلٍ، ويُنقِّحَ صدره مما فيه من غِلٍّ، ويُنقِّحَ لسانه مما فيه من كذبٍ وضلالٍ، ويُنقِّحَ جوارحَه من السعي في معاندة رب العزة المتكفل بحفظ قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ...

واعلم أيها المسلم المتابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن جهابذة الأمة لم يتوانوا أو يتقاعسوا يوماً في حراسة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونقلهما إلى أجيال الأمة المتلاحقة نقلاً سليماً محفوظاً في الصدور، مقيَّداً في السطور، لا يشك في صدقه إلا مغلوبٌ على أمره، وإن شأنَ الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة شأنُ محاولات التأويل الباطلة الأخرى لكتاب الله عز وجل ليست سوى أقاويل مفضوحة قد تصدى لها العلماء بالضبط والنقد بكل أمانةٍ، وبكل شجاعةٍ، لا يخشون في الله لومة لائم، قد أفنَوا في ذلك الأعمار وضحوا بالغالي والنفيس. وإن تأليف العلماء في الأحاديث الموضوعة والضعيفة وتأليفهم في علوم الرجال والجرح والتعديل والعلل والنقد وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ليدل على أمرين اثنين ؛

أولهما تنبه العلماء مِن لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا إلى محاولات الكذب على رسول الله لأنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: حدثنا علي بن الجعد قال: أخبرنا شعبة قال: أخبرني منصور قال: سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت علياً يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فليلج النار"؛ فكانوا على مر العصور يتصدون لهؤلاء الكَذَبة الوضّاعين، وإن من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم زعم أن الحجة بحديثه صلى الله عليه وسلم لا تقوم إلا بالحديث المتواتر وأن ما سواه من أحاديث الآحاد لا تقوم به حجة ولا تستنير به المحجة، يريد بهذا الزعم البائس أن يلغي آلاف الأحاديث النبوية الصحيحة من قلوب المسلمين وحياتهم لِيسير بهم على سُبُل الضلال والضياع كما حدث الإمام البخاري في صحيحه قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، لكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالِماً اتَّخذَ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأَفْتوا بغير عِلم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» "، قلت: ولئن بقي من العلماء نفرٌ عظيم تقوم بهم الحجة اليوم بفضل الله تعالى فإن التحذير النبوي قائمٌ من رؤوس الضلال الذين يتخذهم الناس قادةً أو يُنَصِّبون أنفسَهم قادةً على الناس يسألونهم في شؤون دينهم فيفتونهم بالجهل فيَضِلون ويُضلونهم أجمعين، فجزى الله الإمام البخاري خير الجزاء على حفظه هذا الحديث الصحيح العظيم لنا.

والأمر الثاني أن العلماء حين ألّفوا وصنّفوا في الأحاديث الموضوعة والضعيفة قد قطعوا الطريق على المشككين في أصل السنة وحجيتها، لأن فِعلَهم يدل بدلالة الحال والمقال على حجية السنة الصحيحة سواءٌ أكانت من أحاديث الآحاد – وهي جُلُّ السنة – أم المتواتر وهي أقلها، فلو كانت الحجة في المتواتر فحسب لما أَفنَوا أعمارهم في ضبط الكثير مع إمكان ضبط وتحقيق الأقل والعكوف على العمل به وتحذير الأمة مما سواه، فلا يأتي بعد ذلك داعيةُ سوءٍ جاهلٌ بمكان السنة وبعلومها يروي عن شيوخه من أمثال جولدتسيهر عن شيخهم إبليس اللعين ليطعن في حجية السنة ليُسقطَ معظمَها من الاعتبار بدعوى الاقتصار على المتواتر أو الاقتصار على نصوص السنة التي توافق هوى مرضى القلوب المائلين إلى إخوانهم وأوليائهم الذين ذكرهم الله تعالى فقال:  {وإنَّ الشياطين لَيُوحون إلى أوليائهم لِيُجادِلوكم وإنْ أَطعتُموهم إنَّكم لَمُشركون} [5].

ثم إنك أيها المسلم إما أن ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمورَ مِن ربِّه جلَّ وعزَّ بقوله: {يا أيها الرسولُ بَلِّغ ما أُنْزِلَ إلَيك مِن رَبِّك وإنْ لم تَفعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسالَتَه}[6]؛ إما أن ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد بلّغ الرسالة إلى هرقل ملك الروم وكسرى عظيم فارس وغيرهما ممن أوفد إليهم كتبه مع آحاد رسله، فأقام عليهما الحجة الرسالية وفعل ما أمره به ربه وإما أن لا ترى ذلك، فإن كانت الأولى فقد بانت لك سفاهة رأي القائلين بعدم حجية أحاديث الآحاد، ولا يسع مسلماً أن يقول بالثانية، فإذا علمت هذا وتبين لك خبثُ طَويّةِ الطاعنين في حجية أحاديث الآحاد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبينت لك خطورةُ ما كان يحذر منه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال:"إياكم وأصحابَ الرأي فإنهم أعداءُ السنن، أَعْيَتهم الأحاديثُ أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فَضَلُّوا وأَضَلُّوا"[7]، نعم هُم أعداء السنة على الصحيح، وهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وهم أعداء الله تعالى على الصحيح، أولئك الذين يتجرأون بسفاهات عقولهم وظُلُماتِ نُقُولِهم على الطعن في حجة الله تعالى على خلقه، وكأنهم بلسان حالهم يقولون إن الله تعالى لم يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم إلا كما يبعث البرق ليضيء ظلامَ ليلةٍ واحدةٍ ثم تعود الأرض إلى ظلامها ويعود الناس إلى جاهليتهم، ولو كانت الحجة في الكتاب وحده مع إطلاق العنان لكل من يريد ليفهمَه ويطبِّقَه كما يريد لما أَعجزَ اللهَ تعالى أن ينزل عليهم الكتاب جملةً واحدة في كتابٍ أو صحيفةٍ لتقتصر مهمة الرسول على مناولة هذا الكتاب، ثم ليقرأه مَن شاء، وليتركه مَن شاء، وليفسره كلُّ مَن شاء كما يشاء بلا تفصيلٍ مِن رسولٍ، ولا هديٍ مِن رسالة، ولكن هيهات أن يهدي الله للإيمان مَن وطّن قلبه على الشك والطعن، فقد فضح الله تعالى هؤلاء فقال عز وجل:  {ولو نزّلنا عليك كتاباً في قِرطاسٍ فَلَمَسُوه بأيدِيهم لَقالَ الذين كفروا إِنْ هذا إلا سِحرٌ مبينٌ}[8]، واعلم أن حجة هؤلاء وشبهاتهم لن تنقطع مع طرح سنن الآحاد والاقتصار على المتواتر، فإنهم لن يلبثوا أن يقولوا: وما حاجتنا للمتواتر وعندنا القرآن، حتى ينتهي بهم الأمر إلى قولهم وما حاجتنا بالقرآن وعندنا هذا الإسناد : حدثتني نفسي عن السفيه عن إبليس...

فيا أيها المسلم، قم الساعة فاجمع أهلك واقرأ عليهم شيئاً من صحيح البخاري وتصور وأنت تقرأ إسناده حياةَ كلِّ رَجُلٍ مِن رجال الإسناد، وتصور كيف كانت حياة هؤلاء موقوفةً على خدمة السنة شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار، ثم قارن هؤلاء الرجال الذين حفظ الله تعالى بهم الدين عن رسوله الأمين بأولئك المفترين على الله ورسوله يَبغون تعطيلَ دِينه واللَّغوِ في شريعته، ثم تساءل أين تحب لنفسك ولأهلك أن تكون يومَ يقومُ الناسُ لِربِّ العالمين؛ أتود أن تكون مع فريق الإمام البخاري قال: حدثني مكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" «مَن يَقُل عليَّ ما لم أَقُل فَلْيَتبوَّأ مقعده من النار» "، أم تكون مع فريق مَن حدّثته نفسُه الأمَّارة بالسوء عن السفيهِ الطاعن في السنَّة عن إبليس اللعين...

اللهم اجعلنا في أحبِّ الفريقين إليك، فإنَّا نشهد أن رسولك صلى الله عليه وسلم قد بلّغ ما أمرته أن يبلغنا به، ونشهد أنه قد أقام علينا حُجَّتك بحديثِه الذي نقله لنا العدولُ عن العدولِ عن العدولِ مِن هذه الأمة، فآمنَّا بذلك، واتخذناه دِيناً، ولَزِمناه طريقاً حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا ونحن راضون عنك، ونلقى نبيَّك على الحوض فلا نكون ممن صرفتهم عنه لِما بَدَّلوا مِن الدِّين مِن بعده، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...

 

وكتب المصدِّقُ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم / وسيم فتح الله

شعبان 1443 للهجرة  

 


[2]  سورة الأنعام 112

[3]  سورة الحج - 52

[4]  مسشترق يهودي مجري أقام دراساته الاستشراقية على تشكيكك المسلمين في أصول دينهم والطعن في السنة والوحي وتصدى له ولأمثاله من الطاعنين في السنة ثلة من كبار علماء الإسلام في زمانه ، وانظر كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله وكتاب حجية السنة وتاريخها للدكتور الحسين شواط حفظه الله

[5]  سورة الأنعام - 121

[6]  سورة المائدة - 67

[7]  رواه ابن عبد البر بإسناده في الجامع في بيان العلم وفضله

[8]  سورة الأنعام - 7