صناعة المزاج
محمد بن إبراهيم الحمد
وكلمةُ المزاجِ تطلق إطلاقات باعتبارات, وربما دخلها ما دخلها من تَغَيُّرٍ شأنُها شأنُ كثيرٍ من الألفاظ التي يتجاذبها جانب التطور الدلالي, والانحطاط الدلالي.
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
المزاج كلمة شائعة, ومفهوم معروف؛ فله أصله اللغوي, وله اصطلاحه النفسي.
وكلمةُ المزاجِ تطلق إطلاقات باعتبارات, وربما دخلها ما دخلها من تَغَيُّرٍ شأنُها شأنُ كثيرٍ من الألفاظ التي يتجاذبها جانب التطور الدلالي, والانحطاط الدلالي.
فلفظ المزاج - عموماً -يُطلق على ما يُخْلَطُ به الشراب, وما ركِّب عليه البدن من الطبائع, والأحوال الصحية أو المَرَضِيَّة, وما فطر عليه الإنسان من الصفات والاستعدادات الجسمية, والعقلية.
وقد كان القدماء يرون أن مزاج كل إنسان ينشأ من تغلب أحد العناصر الأربعة: الدم, والصفراء, والسوداء, والبلغم.
وعلماء النفس لهم آراء, ودراسات حول المزاج, وأثره على الشخص, وعندهم ما يسمى بالأنماط المزاجية, والنفسية, وهي ما يعرِّفونها - كما يقول الأستاذ الدكتور سعيد غني نوري - بالصفات الوجدانية الثانية نسبياً, والتي تميز طبقية الشخص الانفعالية, وتُبنى على ما جُبل عليه من طاقة غريزية, وتعتمد على تكوينه الكيميائي والدموي, وتتصل اتصالاً وثيقاً بالنواحي الفسيولوجية والعصبية.
ويعرَّف المزاجُ النفسي بأنه المستوى الانفعالي المميز للفرد, والحالات الانفعالية التي يتسم بها سلوكُه في أغلب المواقف.
وهو -بعبارة أخرى- مجموعة الصفات التي تميز ردود الأفعال من شخص لآخر.
والمزاج أو الحالة المزاجية تختلف عن المشاعر في كونها أقلَّ تحديداً, وكونها لا تَنْجُم عن مؤثر, أو حدث معين.
والمزاج عموماً منه ما هو حسن, ومنه ما هو سيّئ.
والمزاج شعور داخلي, ويمكن في كثير من الأحيانِ الاستدلالُ عليه من تصرفات صاحبه, كما عبر عن ذلك زهير بقوله:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى عن الناس تعلمِ
وابن الرومي في قوله:
وقل من ضمنت خيراً طويَّته *** إلا وفي وجهه للخير عنوان
وهناك المزاج المريض الذي يصنف طبياً كذلك, وهو المصحوب بالاكتئاب, والتوتر, والهوس, ونحو ذلك من اضطرابات المزاج المعروفة.
وهناك المزاج المعروف بالسلبي الناتج عن ردة فعل تجاه أمر معين, وقد يستمر ساعات, أو أياماً, وقد يلازم بعض الناس أعواماً, بل قد يضل بعضهم حبيس ذلك طيلة عمره.
وغالباً ما يرتبط المزاج السلبي بالقلق, والتوتر, وسوء الظن, والشعور بالإحباط, والتلذذ بادعاء المظلومية, والنزوع إلى الشر والعدوانية.
وهناك ما يعرف بالشخص المزاجي الذي لا يثبت على حال معينة؛ فترى مشاعره تختلف من حين لحين, ومن حال إلى حال؛ فإذا هدأت نفسه, وسكنت رِيْحُه تعامل بلطف, وقابل الناس بالترحاب, وأظهر البهجة والتسامح.
وإذا تكدر مزاجه عكس الأمر تماماً؛ فتراه يتعامل بجفاء, ويقابل غيره بالكلوح والعبوس, وتراه متصلِّباً في مواقفه وآرائه.
ولا يعد من ذلك القبيل من تمر به لحظات سريعة عابرة تغير مزاجه لعارض يعرض, ثم يعود إلى طبيعته.
وإنما المحذور أن تستمر طويلاً.
وقد تدل تلك الحال على وجود اضطرابات نفسية.
ولهذا كان من الحكمة والعقل أن يكفَّ المتعامِلُ مع الشخص المزاجي من لوم نفسه, وإشعارها بالذنب كلما ثار ذلك المزاجي, أو تصرف تصرفاً لا يليق؛ فمزاجية ذلك الشخص - في الأغلب - نابعة منه لا من تصرفات من حوله.
وهناك أسباب عدة للمزاج السلبي منها البعد عن الله, والجهل, وقلة النوم, وتراكم الديون, والأمراض, وقلَّة الحركة، وغير ذلك من الأسباب التي تقود إلى تكدر المزاج.
والناس - بطبيعتهم- يكرهون تقلب المزاج, وأكثرهم لا يحسن التعامل مع من ذوي الأمزجة المتقلبة.
والعاقل من يراعي تلك الأحوال في الناس, ويتعامل معها بكل ذكاء وألمعية كما يتعامل مع النار والكهرباء دون أن يلحق بنفسه ضرراً من جرائهما.
والعاقل -كذلك- من يعرف الخلاص من تقلب مزاجه؛ فتراه يسعى سعيه, ويبذل غاية جهده لأن يصنع مزاجه, ويطوِّعه لما ينفعه, ولما يحببه للناس؛ فلا يستسلم لتقلُّب مزاجه, ولا يسترسل مع رعوناته وبَدَوَاته وجَفَواته.
وإن بدر منه شيء من ذلك سارع إلى قلعه, والخلاص منه؛ فيحاول قدر المستطاع السيطرة على نوازعه؛ فيسير بها على حد الاعتدال, ويحرص على هدوء النفس, واستدعاء السعادة, واستنزال السكينة, وتدبُّرُ العواقب, ولزومُ الصمتِ, والبعد عن اتخاذ القرارات حال تكدر المزاج.
ولقد جاء نصوص الوحيين موقظةً لهذه المعاني, حاثَّةً على لزوم الاعتدال, محذرةً من مغبة الاسترسال مع نزوات النفوس, واعتلالاتها؛ فأثنت على الصبر, وكظم الغيظ, والعفو, والصفح, وحذَّرت من الغضب, وما يدعو إليه من الطيش والانتقام؛ كي ينعم المؤمن بطيب الحياة، ويحسن التعامل مع سائر أحوالها.
وقد كان للشعراء, والأدباء, والحكماء, وعلماء الأخلاق والسير نظراتٌ في هذا الشأن؛ فكانوا يذمون تَقَلُّب المزاج, ويصفون صاحبه بمتلوّن الودِّ, ومتقلبِ الرأي, ويثنون على اعتدال المزاج, ويصفون صاحبه بثات الود, ومعتدل الأحوال.
ولهذا يقولون: إن أحكم بيت قالته العرب:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى *** وفؤادُه من حَرِّه يتأوه
ويصور ابن الوزير معنى اعتدال المزاج بأجمل صورة إذ يقول:
ومن كَمُلت فيه النهى لا يسره *** نعيمٌ ولا يرتاع للحدثان
ويثني أبو الطيب على أحد ممدوحيه بالاعتدال في كافة الأحوال؛ فيقول:
وحالاتُ الزمانِ عليك شتى *** وحالُك واحد في كل حال
ويقول في سيف الدولة مصوراً حاله في أحلك المواقف, وهو موقف الحرب, والقتال والموت؛ فيقول:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ *** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطالُ كلمى هزيمة *** ووجهك وضاح وثغرك باسم
وأبلغ منه قولُ أبي تمام في نوح بن عمرو:
لا تَدْعُوَنْ نوحَ بنَ عمرٍو دعوةً *** للخطب إلا أن يكون جليلا
يَقِظٌ إذا ما المشكلاتُ عَرَوْنَه *** ألفيتَه المتبسمَ البُهلولا
ثَبْتُ المقامِ يرى القبيلةَ واحداً *** ويُرى فيحسبه القبيلُ قبيلا
وقبل ذلك أثنى زهير بن أبي سلمى على الهرم بن سنان بقوله:
مَنْ يَلْقَ يوماً عِلاَّته هرماً *** يَلْقَ السماحةَ فيه والندى خُلُقا
وقال المنفلوطي معرض ذكره لصفات العظيم: " إن العظيم عظيم في كل شيء حتى في أحزانه, وآلامه " .
وقال: " الحزين الصابر هو الذي قضت عليه ضرورة من ضروريات الحياة أن يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه, فيودعها هناك, ثم يغلق دونها باباً من الصمت والكتمان, ثم يصعد إلى الناس باشَّ الوجه, باسم الثغر, متطلِّقاً متهلِّلاً كأنه لا يحمل بين جنبيه همًّا, ولا كدًّا ".
فما أحوجنا إلى أن نحكم صناعة أمزجتنا, والسير بها على خير ما يرام.
وما أحرانا أن نتفقَّه في كيفية التعامل مع سائر الأمزجة؛ حتى لا تنال منا تصرفات أصحابها نيلها؛ فتورثنا القلق, وتقطعنا عن مصالحنا, وما نحن بصدده من الأعمال التي تعود علينا بالمتعة والفائدة.
وما أجدر بنا أن نصنع لأنفسنا أمزجة هادئة مطمئنة تمكننا من العيش بسلام وهدوء, وحسن استقبال لسائر الحياة؛ فالعاقل الراسخ في رياضة نفسه هو الذي يصنع مزاجه وليس مزاجه هو الذي يصنعه؛ فاصنع مزاجَك, ولا يَصْنَعْكَ مِزاجُك، فذو المزاج المعتدل يبتهج بالحياة، فيزيده ابتهاجه قوة إلى قوته؛ فيكون أقدر على الجد والإنتاج، ومقابلة الصعاب من ذي المزاج المتقلب المستسلم.
ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن أسباب السرور، والنشاط، والإقبال على العمل والبحث - مرتبطة في الظروف الخارجية؛ فيشترط؛ لِيُسَرَّ، وينتج أن يكون ذا مال، وصحَّة، وبنين، وأجواء ملائمة، وصحبة موائمة، وبيئة عمل لا كدر فيها ولا تنغيص؛ فإذا حصل ذلك وإلا قال: على الدنيا العفاء.
بل هناك من يكون على درجة عالية من اكتمال ما يرغب من طيب العيش، واعتدال المزاج؛ فإذا سمع كلمة أوَّلها تأويلاً سيئاً، أو تعرض لموقف تافه حدث له، أو منه، أو من ربح خسره، أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث - تراه وقد تكدر مزاجه، واسودت الدنيا في عينه؛ فكدر على من حوله، وقلب فرحُهم ترحاً.
وخلاصة الأمر ألا تنتظر مزاجاً يأتيك من ههنا ولا من ههنا، ولا تعتقد أن جوَّك سيصفو، ومزاجك سيعتدل؛ لتنجز أبحاثك، وأعمالك.
وإنما انتزع ذلك انتزاعاً، واستَرِقْه استراقاً، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما العلم بالتعلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقَهْ، ومن يتصبَّر يصبِّره الله، ومن يستعفف يعِفَّه الله.
______________________
مدينة الزلفي 15 شعبان 1443هـ