أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ -1

خالد سعد النجار

وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل ولذلك لم يقل: إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.

  • التصنيفات: التفسير -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }

مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، إما بالقتال أو بالطاعون، على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين، والإعلام بأنه: لا ينجي حذر من قدر، أردف ذلك بأن القتال كان مطلوباً مشروعاً في الأمم السابقة، فليس من الأحكام التي خصصتم بها، لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الإنفراد.

{أَلَمْ تَرَ} ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إيّاك، والاستفهام هنا للتشويق لأنه في أمر غيبي، لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب؛ فيُقَرَّر به، كقوله تعالى:  {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] والتشويق أيضا كما في قوله تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} } [الصف:10]، وقوله تعالى:  {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}  [الغاشية:1]

{إِلَى الْمَلإِ} أشراف القوم من أهل الحل والعقد بينهم الذين إذا نظر المرء إليهم ملئوا عينه رواءً وقلبه هيبة {مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} أي وفاته، وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم، فكانوا يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ} وتنكير نبي لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه.

وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل ولذلك لم يقل: إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.

  {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا}  أقم لنا ملكا {نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ} عساكم أن تجبنوا إن فرض عليكم  {الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ}  والمقصود من هذا الكلام التحريض: لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إل التقصير، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل، كما يقول من يوصي غيره: "افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل".

 {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أيُّ مانع يمنعنا من القتال وقد وُجد داعيه؟  {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا}  وذلك أن العدوّ وهم البابليون غزوا فلسطين بعد أن فسق بنوا إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنا والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين {وَأَبْنَائِنَا} لأن كثيراً منهم استُولي العمالقة على بلادهم، وأسروا أبناؤهم، رُوِيَ أن جالوت سبي من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين فارتحلوا إلى غير بلادهم [بيت المقدس] التي كان منشأهم بها، وهذا أصعب شيء على النفوس، أن يخرج من مسكن ألفه، ويفرق بينه وبين أبنائه، ولهذا دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  «اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر» 

كان قتيبة بن سعيد المحدّث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة، وحمل الناس العلم عنه، وكان ببغداد، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيراً ببغلان، قيل: وهي ضيعة من أصغر الضياع، فتمنى أن لو كان مقيماً بها، ويترك رئاسة بغداد، ودار الخلافة، وذلك نزوعا إلى الوطن.

فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل:  {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]  {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}  [إبراهيم:12].

 {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}  وهم من عَبَرَ النهر مع طالوت .. قال القشيري: أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم، فلذلك لم يتم قصدهم، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله، لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم، إذا الظلم وضع الشيء في غير موضعه.

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ} فإنه أبلغ في الإقناع، والتسليم من قوله: إني بعثت لكم {طَالُوتَ مَلِكًا}  قال المفسرون: إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فَأَتَى بِعَصَا وَقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ [أراد القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها] وقيل: الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا، وقيل للنبي: أنظر القرن فإذا دخل رجل فنَشَّ الدهن [صوت الغليان] الذي هو فيه فهو ملك بني إسرائيل، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان طالوت سقاء على ماء، قاله السدي، أو دباغاً على ما قاله وهب، أو مكارياً، وضاع حمار له، أو حمرٌ لأهله، فاجتمع بالنبي ليسأله عن ما ضاع له ويدعو الله له، فبينا هو عنده نش ذلك القرن، وقاسه النبي بالعصا، فكان طولها، فقال له: قرب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس، وقال: أمرني الله أن أملكك على بني إسرائيل.

والملك هو "شاول" وطالوت لقبه، وهو وزن اسم مصدر: من الطول، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت. وصف به للمبالغة في طول قامته.

{ {قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ} } الاستفهام للإِنكار { {لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} } بحجة أنه فقير ومن أسرة غير شريفة، فليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوذا، ومنه داود وسليمان. وليس من بيت النبوّة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} ليس بفقير؛ لكن ليس عنده مال واسع؛ وفرق بين الفقير المعدم، وبين من يجد، ولكن ليس ذا سعة - يعني ليس غنياً ننتفع بماله -، ويدبرنا بماله.

والملك يحتاج إلى أصالة فيه، إذ يكون أعظم في النفوس، لكنه فَقَدَ القوة الحسبية، وأيضا يحتاج الملك إلى غنى يستعبد به الرجال، ويعينه على مقاصد الملك، ولم يعتبروا السبب الأقوى، وهو: قضاء الله وقدره.

فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله { {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} } أن يسلموا لأمر الله، ولا تنكره قلوبهم، ولا يتعجبوا من ذلك، ففي المقادير أسرار لا تدرك، وتقدير الله عزّ وجلّ فوق كل تصور، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلاً.

{ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} } فبدأ بذكر ما لا جدال فيه - وهو اصطفاء الله عليهم -؛ ثم ذكر بقية المؤهلات {وَزَادَهُ بَسْطَةً} سعة، كقوله تعالى: { {وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} } [البقرة:245]، وقوله تعالى: { {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} } [الرعد: 26] {فِي الْعِلْمِ} وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة، فعنده الحنكة والرأي، وقيل: هو علم النبوة، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم {وَالْجِسْمِ} قال ابن عباس: "كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل، وأجمله وأتمه"، واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات، وهما الفخر بالعظم الرميم، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم.

فأعلمهم نبيهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي، وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لاسيما في وقت المضائق، وعند تعذر الاستشارة، أو عند خلاف أهل الشورى، وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش، وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم.

ولم يجيبهم نبيهم عن قوله: { {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} } اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله: { {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} }؛ فإنه يبسطه العلم وبالنصر يتوافر له المال؛ لأن المال تجلبه الرعية كما قال أرسطو، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار. وغني الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها، وأرزاق ولاة أمورها.

 { {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء} } فكان في قولهم { {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} } ادّعاء الأحقية في الملك، حتى كأن الملك هو في ملكهم، فأضاف الملك إليه عز وجل في قوله: {مُلْكَهُ}، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد، فلستم بأحق فيه، لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء.

{ {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته، وأفعاله، فوسع فضله على الفقير، عليم بمن هو أحق بالملك، فيضعه فيه ويختاره له.

وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة، لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوّة والملك، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوّة لا بالنسب، ودل أيضاً على أنه لا حظ للنسب مع العلم، وفضائل النفس، وأنها مقدّمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم، لعلمه وقدرته، وإن كانوا أشرف منه نسباً.

قال ابن عاشور: والسر في اختيار هذا الملك: أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير، لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم، وما يزالون يتوقعون الخلع، ولهذا كانت الخلافة سنة الإسلام. وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام: إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلا ذلك؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ. وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم. وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم، وإنما نظروا إلى قلة جدته، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال، وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح؟.

{ {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ} } علامة، كما قال تعالى: { {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} } [الشعراء:197] يعني علامة تدل على أنه حق { {مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} } تابوت العهد، ونسبة الإتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي، إنما يؤتى به، والتابوت صندوق التوراة، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون { {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} } طمأنينة القلب وهدوء النفس، وهذا من آيات الله... أي فيه ما تسكن إليه قلوبكم وتثبت عند الحرب. وكانوا يُقدمونه أمامهم في الحروب فلا يفرون، ويُنصرون على عدوهم.

وتأمل كيف أضافه إلى ربوبيته إشارة إلى أن في ذلك عناية خاصة لهؤلاء القوم؛ والسكينة إذا نزلت في القلب اطمأن الإنسان، وارتاح، وانشرح صدره لأوامر الشريعة، وقَبِلها قبولاً تاماً.