أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ -2
خالد سعد النجار
{ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} } هو نبي الله ورسوله داود، وكان يومئذ غير نبي ولا رسول في جيش طالوت.
- التصنيفات: التفسير -
روى مسلم عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ» .
«وفي حديث مسلم أيضا أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ فَقَرَأَ ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى فَقَرَأَ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا قَالَ أُسَيْدٌ فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا قَالَ فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي إِذْ جَالَتْ فَرَسِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَانْصَرَفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ) »
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة أصحاب السكينة، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم.
وقد جاء في الصحيح: «(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) » فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان، واستقرار ذلك في قلوبهم، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه والتفكر في أساليبه، ما يطمئن إليه قلبه، وتستقر له نفسه، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك، فحين تلا نزل ذلك عليه.
ويقال: جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح، والعصا، وآثار أصحاب نبوتهم، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم، وفرق بين مقر تداولته الأيدي، قد فر مرة، وغلب عليه مرة، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن.
{ {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} {} } وهم الأنبياء تركوا العلم، والحكمة؛ لأن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً، ولا ديناراً؛ وإنما ورثوا العلم .. كرضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى عليه السلام، وعصاه ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه.
والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد.
{ {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} } أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لبني إسرائيل وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل.
{ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ} } أي في إتيان التابوت على الوصف المذكور { {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} } الإشارة { {ذَلِكَ} } إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم، بدون قتال، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام، وفي مجيئه من غير سائق. ولا إلف سابق.
فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا لقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيدهم لم يغلبهم عليه عدوهم.
والآيات إنما ينتفع بها المؤمن وحده، وأن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم.
وفي الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث يؤيد الأمور بالآيات لتقوم الحجة؛ لقوله تعالى: { {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه} }؛ ولو شاء الله عزّ وجلّ لفعل ما يفعل بدون آية، وانتقم من المكذبين، والمستكبرين؛ ولكن من رحمته عزّ وجلّ أنه يبعث بالآيات حتى تطمئن القلوب، وحتى تقوم الحجة؛ ولهذا ما من رسول أرسل إلا أوتي ما على مثله يؤمن البشر؛ وحصول الآيات حكمة ظاهرة؛ لأنه لو خرج رجل من بيننا، وقال: أنا رسول الله إليكم: ««افعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه؛ وإلا فإن دماءكم وأموالكم حلال لي»» «» ؛ فإنه لا يطاع؛ ولكن من رحمة الله عزّ وجلّ، وحكمته أن جعل للرسل آيات حتى تقوم الحجة، ويستجيب الناس.
فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج { {فَلَمَّا فَصَلَ} } انفصل من الديار وخرج يريد العدو { {طَالُوتُ} } قال عكرمة : لما رأى بنو إسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه، فقال لهم طالوت: لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها، ولا صاحب زرع لم يحصده، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها، ولا من له أو عليه دين، ولا كبير، ولا عليل { {بِالْجُنُودِ} } واشتقاقه من الجند وهو: الغليظ من الأرض إذ بعضهم يعتصم ببعض { {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم} } مختبركم، وتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم: لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على المتمثل، وغضبه على العاصي { {بِنَهَرٍ} } والنهر بتحريك الهاء، وبسكونها للتخفيف، ولعله هو نهر الأردن { {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} } كثيراً كَرْعاً بلا واسطة، وكانوا في حرّ شديد وعطش شديد { {فَلَيْسَ مِنِّي} } ليس من أتباعي في هذه الحرب، ولا أشياعي، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان، نحو قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( «من غشنا فليس منا» )، ( «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود» )، وهذا نظير قوله تعالى: { {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} } [آل عمران:28] { {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} } لم يذقه، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، لأن الطعم ينطلق على التذوق، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب، إذ يحصل بإلقائه في الفم، وإن لم يشربه، نوع راحة.
{ {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} } أخذ الماء بيده لا بيديه، ووجه تقييده بقوله: { {بِيَدِهِ} } مع أن الغرف لا يكون إلا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب، فيتناوله بعضهم كرها، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد.
وفي الآية: أن الله عزّ وجلّ عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: { {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} }
{ {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} } كَرعُوا، وسقطوا على وجوههم { {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} } قيل: ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر، على عدد أهل بدر، وذلك لقلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب.
ومن الفوائد بالآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله؛ لقوله تعالى: { {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} }؛ وهذا أمر يشهد به الحال. قال الله تعالى: { {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} } [سبأ:13]؛ وقال تعالى: { {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} } [الأنعام:116]؛ وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف؛ فالطائع قليل، والمعاند كثير.
{ {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} } جاز المكان أي: قطعه { {هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ} } والمراد بعضهم بدليل قوله تعالى: { {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} ...} { {لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ} } قائد قواد الفلسطينيين { {وَجُنودِهِ} } هؤلاء مخذِّلون؛ وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون. والفرق بين المخذل، والمرجف، أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً... وما أشبه ذلك.
{ {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} } يَتَيَقَّنْون { {أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ}} أي يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الآخر، وهذا كقوله تعالى: { {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} } [الانشقاق:6] {كَم مِّن فِئَةٍ} كم للتكثير، أي ما أكثر ما تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة، والفئة: الجماعة، يفيء -أي يرجع- بعضها إلى بعض {قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} كما حدث في غزوة بدر.
{ {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} } هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس؛ فقال تعالى: { {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} } [الحديد: 4]؛ هذا عام، وقال تعالى: { {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} } [المجادلة: 7] ؛ فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة، والنصر، والتأييد؛ وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد؛ ومنها ما يقتضي التأييد؛ ومنها ما هو لبيان الإحاطة، والشمول؛ فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى: { {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} } [النحل: 128]، وقوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقوله تعالى عن نبيه محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى: { {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} } [النساء: 108]
ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى: { {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} } [الحديد: 4] .
فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عزّ وجلّ، وإثبات العلوّ له؟.
فالجواب: أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالًّا في الأمكنة التي نحن فيها؛ بل هو معنا وهو في السماء، كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك مع أنها في السماء.
والصبر ثلاثة أنواع:
الأول: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة، فيقوم بها من غير ملل، ولا ضجر.
الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول، أو عمل.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة، والخاصة.
وأعلاها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.
{ {وَلَمَّا بَرَزُواْ} } ظهروا في ميدان المعركة، وامرأة برزة أخذ منها السن، فلم تستر وجهها، ومن ذلك البراز { {لِجَالُوتَ} } اسمه في كتب اليهود جليات كان طوله ستة أذرع وشبرا، وكان مسلحا مدرعا، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجبنهم { {وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} } أصبب الصبر في قلوبنا صبّا حتى تمتلئ فلم يبق للخوف والجزع موضع { {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } } فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم
{ {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} } جاءوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر. لم يقولوا: على أعدائنا؛ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم؛ وهذا في غاية ما يكون من البعد عن العصبية، والحمية؛ يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.
وفي دعائهم ترتيب بليغ؛ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً.
{ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} } هو نبي الله ورسوله داود، وكان يومئذ غير نبي ولا رسول في جيش طالوت.
لما التقى الجيشان جيش الإِيمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج له داود من جيش طالوت فقتله، والتحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت على عدد أفراده ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلا لا غير لقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل بدر، (إنكم على عدة أصحاب طالوت).
وكان داود من قبل راعي غنم أبيه، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت، وله نبوغ في رمي المقلاع، فيوم التقى الفلسطينيين مع جيش طالوت وخرج زعيمهم جالوت للمبارزة، لم يستطع أحد مبارزته، فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب بالحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه، وانهزم الفلسطينيين، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود، وصار داود بعد حين ملكا عوض شاول، ثم آتاه الله النبوة فصار ملكا نبيا، وعلمه مما يشاء.
{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} فلما مات طالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} منها صنعه الدروع { {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} } [الأنبياء:80]
{ {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} } بالجهاد والقتال { {لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} } وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد، وأهل الكفر على أهل الإِيمان، و«الفساد» ضد «الصلاح»؛ ومن أنواعه ما ذكره الله تعالى بقوله: { {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} } [الحج: 40]
{ {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ} } صاحب فضل و«الفضل» هو العطاء الزائد الواسع الكثير { {عَلَى الْعَالَمِينَ} } حتى الكفار؛ لكن فضل الله على الكفار فضل في الدنيا فقط بإعطائهم ما به قوام أبدانهم؛ أما في الآخرة فيعاملهم بعدله بعذابهم في النار أبد الآبدين؛ وأما بالنسبة للمؤمنين فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا والآخرة.
ذيلت هذه الآية العظيمة، كل الوقائع العجيبة، أشارت بها الآيات السالفة: لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم، ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان، وحكمة من حكم التاريخ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية، وقبل إدراك ما في مطاويها.
ثم التفت إلى رسوله محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له: تقريراً لنبوته وعلو مكانته { {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} } الحق في الأخبار: هو الصدق؛ وفي الأحكام: هو العدل، والقرآن كله حق من الله، ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله تعالى: {بالحق} للمصاحبة، والملابسة أيضاً؛ فهو نازل من عند الله حقاً؛ وهو كذلك مشتمل على الحق؛ وليس فيه كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه؛ بل أحكامه كلها عدل؛ وأخباره كلها صدق.
{ {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} } فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل.
حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم، إلا من طبع الله على قلبه. نعوذ بالله من ذلك.
فهو خطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تنويها بشأنه، وتثبيتا لقلبه، وتعريضا بالمنكرين رسالته.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار