من أقوال السلف في الموت وأحوالهم عند الاحتضار -2

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

قال جماعة, يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت ؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة, فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب.

  • التصنيفات: الموت وما بعده -

التقوى تنجي من كرب الموت:

    ** قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى:  { وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}  [الطلاق:2] قال: من الكرب عند الموت.

    ** قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: ننجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.

    ** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من أطاع الله واتقاه وحفظ حدوده في حياته, تولاه الله عند وفاته, وتوفاه على الإيمان.

    قال بعضهم: كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح, ليكون أهون عليه عند نزول الموت, أو كما قال.

    • من مات فقد قامت قيامته:

    ** قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أيها الناس! إنكم تقولون: القيامة, القيامة, وإنه من ماتَ فقد قامت قيامتُه.

    ** قال عبد الواحد بن الخطاب: سمعت زيادا النميري، ونحن في جنازة وذكروا القيامة,  فقال زياد: من مات فقد قامت قيامته

    ** قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: كانت جماعة تقول: قيامةُ كُلّ نفس موتها.

    ** قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله ببن باز رحمه الله: أنت لا تدري متى تقوم قيامتك،....فكل من مات فقد قامت قيامته.

    • مرحباً بالموت:

    عن معاذ بن جبل رضي الله عنه, لما أن حضره الموت, قال: مرحباً بالموت مرحباً, زائر مغب, حبيب جاء على فاقة. اللهم إني كنت أخافك, فأنا اليوم أرجوك.

     

    الموت خير للمؤمن من الفتنة, ولا يرتاح حتى يموت:

    ** قال الربيع بن خيثم رحمه الله: ما غائب ينتظره المؤمن خيراً له من الموت.

    ** قال الشيخ صالح آل الشيخ: المؤمن لا يرتاح حتى يموت, لأن قلوب العباد عرضة للتقلب والتنقل, واليوم كثرت المغريات والشهوات والشبهات, فقد يصبح العبد مؤمناً ويمسى غير ذلك, فإذا جاءه الأجل وهو ثابت على الإيمان يحصل له الراحة والاطمئنان, فلا يطمئن المؤمن حتى يلقى الله عز وجل وهو ثابت على إيمانه.

    الإنسان يبصر بالموت ما لا يبصره في حال الحياة:

    قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز محمد آل الشيخ: الظاهر من قوله سبحانه وتعالى:{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ} [ق:22] أن الإنسان يبصر بالموت ما لا يبصره في حال الحياة, كأن ترى مثلاً: السماء في الليل ظلماء سوداء, وذاك بالحجاب الحاجز على العين, مثلما تدخل غرفة مظلمة, ولا تنظر فيها شيئاً بينما يكون فيها كتاب, ويكون فيها فراش, وفيها كذا وكذا, ولكن العين لا تبصر ما في هذه الغرفة المظلمة, لأن حاستها محدودة, لكن لو كشف ذلك الغطاء, لأبصرت كل ما في الظلام, وهذا هو الذي يحصل بالموت, فإن الإنسان يبصر بالموت الملائكة, ويبصر العذاب, ويبصر النعيم, ونحو ذلك مما يكون بعد الممات. نسأل الله عز وجل لنا ولكم العفو والعافية

    نعيم لا موت فيه:

    قال مطرف بن عبدالله بن الشخير رحمه الله: أفسد الموت على أهل النعيم نعيمهم, فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.

    الموت فضح الدنيا:

    قال الحسن البصري رحمه الله: إن الموت فضح الدنيا, فلم يترك لذي لب فرحاً.

    كاس الموت:

    قال إبراهيم بن الأدهم: إن للموت كاساً لا يقوى على تجرعه إلا خائف وجل طائع كان يتوقعه.

    • صديق بعد الموت:

    قال حاتم الأصم: أردت أن اتخذ صديقاً لي بعد الموت فصادقت الخير ليكون معي إلى الحساب, ويجوز معي إلى الصراط, ويثبتني بين يدي الله عز وجل.

    • كراهية الموت:

    قال جماعة, يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت ؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة, فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب.

    قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: لا يحلُّ لأحد أن يدعو على نفسه بالموت لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنَّينَّ أحدٌ منكم الموت لِضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بُدَّ مُتمنيًا للموت فليقُلِ: اللهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتمنَّى الإنسان الموت، فكيف بالذي يدعو على نفسه بالموت؟ والواجب على مَنْ أُصيب بأمرٍ يضيق به صدرُه، ويزداد به غمُّه أن يصبر، ويحتسب الأجر من الله، وينتظر الفَرَج، فهذه ثلاثة أمور: الصبر، واحتساب الأجر، وانتظار الفَرَج من الله عز وجل.

    • تنبيه المُحتضر على إحسان الظن بالله تعالى:

    قال الإمام مسلم رحمه الله: فيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى, وذكر آيات الرجاء, وأحاديث العفو, وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين, وذكر حسن أعماله عنده, ليحسن ظنه بالله تعالى, ويموت عليه.

    • مفارقة الروح الجسد:

    قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعاً, فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته, واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخوله فيه حتى صارا كالشيء الواحد, فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم, ولم يذق ابن آدم في حياته ألماً مثله, وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران:185]  

    • نزع الملائكة للأرواح:

    قال العلامة السعدي رحمه الله: قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } وهم: الملائكة, التي تنزع الأرواح بقوة وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح فتجازى بعملها {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} وهي الملائكة أيضاً تجتذب الأرواح بقوة ونشاط, أو النشط يكون لأرواح المؤمنين, والنزع لأرواح الكفار.

    • المُحتضر إن رأى ما يسره أحب لقاء الله وإن رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا:

    قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: المرء عند حضور أجله إذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا ولا لقاء الله, لسوء ما عاين مما يصير له, وإذا رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته, لحسن ما عاين وبُشر به.

    استبشار المؤمن عند موته, ونشاط روجه للخروج:

    قال الإمام القرطبي رحمه الله: عن ابن عباس قال: أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج, وذلك أنه ما مؤمن يحضره الموت إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت, فيرى فيها ما أعدَّ الله له من أزواجه وأهله من الحور العين, فهم يدعونه, فنفسه إليهم نشِطة أن تخرج فتأتيهم.

    ** قال زيد بن أسلم في قوله تعالى: { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}  [الأحقاف:12] قال: يبشر بذلك عند موته وفي قبره ويوم يبعث, فإنه لفي الجنة, وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه .

    ** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: ما يحصل للمؤمن من البشرى, ومسرة الملائكة بلقائه, ورفقهم به, وفرحه بلقاء ربه, يهون عليه كل ما يحصل من ألم الموت, حتى يصير كأنه لا يحس بشيء من ذلك.

    • تأسف السلف عند موتهم على انقطاع أعمالهم:

    ** بكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال: إنما أبكى على ظمأ الهواجر, وقيام ليل الشتاء, ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر,

    ** بكى عبدالرحمن بن الأسود رحمه الله عند موته وقال: وأسفاه على الصوم والصلاة, ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.

    ** بكى يزيد الرقاشي رحمه الله عند موته وقال: أبكى على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار. ثم بكى.

    ** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء؟

    شهوات للصالحين عند موتهم:

    ** الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي, مرض مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام, فكان ابنه كثيراً ما يسأله: ما تشتهي ؟ فيقول: أشتهي الجنة, رحمه الله, ولا يزيد على ذلك, وأجابه مرة: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه.

    ** إسماعيل بن محمد بن يوسف البرزالي, مرض بالسل ستة أشهر, وحصل له في المرض إقبال على الطاعة وملازمة الفرائض, حتى كان يصلي إيماء, قال له والده قبل موته بيوم: أيش تريد ؟ قال: أشتهي أن يغفر الله لي.

    ** لما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة, فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: أنتظر من الله رسولاً, يبشرني بالجنة, أو بالنار. ولما حضرت عامر بن عبدالقيس الوفاة,  بكى, فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: ما أبكى جزعاً من الموت, ولا حرصاً على الدنيا, ولكن أبكى على ما يفتوني من ظمأ الهواجر, وعلى قيام الليل.

    سماع بعض المحتضرين عند موته:

    ** لما حضرت بلالا الوفاة قالت امرأته: واحزناه, فقال: بل واطرباه, غداً نلقى محمداً وحزبه. وقال المأمون: يا من لا يزول ملكه, ارحم من قد زال ملكه.

    ** لما حضرت معاوية بن سفيان الوفاة, قال: اللهم أقلّ العثرة, واغفر الزلة, وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك, ولم يثق بأحد سواك.

    ** لما احتضر عمر بن عبدالعزيز قال: اخرجوا عني, فقام مسلمة وفاطمة على الباب, فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست بوجوه إنسٍ ولا جانٍ, ثم قال:  {تلك الدَّارُ الْآخِرَةُ}  [القصص:83] ثم هدأ الصوت, فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك, فدخلوا فوجدوه قد قبض.

    قال العلامة العثيمين رحمه الله قد سُمِع بعضُ المحتضرين وهو يحتضر عند الموت يقول: روح ريحان وجنة نعيم، مما يدلُّ على أنه بُشِّر بذلك، أسألُ الله أن يجعلني وإياكم منهم

    • تحسر المفرط عند الموت:

    ** قال الحافظ ابن رجب: ويتزايد الألم بمعرفة المحتضر بأن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذره يأكله الهوام ويبليه التراب حتى يعود تراباً, وأن الروح المفارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو النار, فإن كان مصراً على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار فتتضاعف بذلك حسرته وألمه, وربما كشف له مع ذلك عن مقعده من النار فيراه, أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره, وهذا هو المراد بقول الله عز وجل:  {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}   [القيامة:29] على ما فسر به كثير من السلف, فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت, فلا تسأل عن سوء حاله, وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالباً, قال الله تعالى:   { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}    [ق:19]

    ** قال العلامة السعدي رحمه الله: قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}  [المؤمنون:99] يخبر تعالى عن حال من حضره الموتى من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال إذا رأى مآله وشاهد قبيح أعماله, فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك ليقول ﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾  من العمل, وفرطت في جنب الله. { كلا} أي: لا رجعة له ولا إمهال, قد قضى الله أنهم لا يرجعون.

    فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان, وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن.

    فائدة:

    ** الخليفة المأمون, قال وهو يحتضر: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه...يا من لا يموت ارحم من يموت, ثم قضى ومات.

    ** الخليفة المعتصم قال في مرض موته:  {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً}   [الأنعام:44] وجعل يقول: ذهبت الحيلة فليس حيلة, حتى صمت.

    ** لما احتضر الواثق, أمر بالبسط فطويت, والصق خده بالأرض, وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه, ارحم من قد زال ملكه.

    • موعظة:

    ** قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: فما أحسن حال من ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت, وأشغل نفسه بخدمة مولاه, وقدم من دنياه لأخراه, ورغب في دار لا يزول نعيمها, ولا يهان كريمها. عباد الله اسعوا في فكاك رقابكم, وأجهدوا أنفسكم في خلاصها قبل أن تزهق, فوالله ما بين أحدكم وبين الندم, والعلم بأنه زلت به القدم, إلا أن يحوم عقاب المنية عليه, ويفوق سهامها إليه, فإذا الندم لا ينفع, وإذا العذر لا يسمع, وإذا النصير لا يدفع, وإذا الذي فات لا يسترجع.

    وختاماً فيقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسنة, يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا, يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور,...ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور.

    اللهم أيقظنا من غفلتنا, ووفقنا للاستعداد للموت, والعمل له.

                                     كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ