الإسلام .. تحديات التشويه وضرورات التجديد

في ظلِّ ثورة الاتصال والمعلوماتية الراهنة التي ألغَتِ الحدودَ والحواجز بين الناس، فتحت العَولمةُ بفضائها المفتوح في كل الاتجاهات البابَ على مِصراعَيه لثقافة قَلِقة ومُرتابة، تجسَّدت في مجتمعنا العربيِّ والإسلامي، في مجموعة من المفكِّرين العرب والمسلمين المعاصِرين..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

في ظلِّ ثورة الاتصال والمعلوماتية الراهنة التي ألغَتِ الحدودَ والحواجز بين الناس، فتحت العَولمةُ بفضائها المفتوح في كل الاتجاهات البابَ على مِصراعَيه لثقافة قَلِقة ومُرتابة، تجسَّدت في مجتمعنا العربيِّ والإسلامي، في مجموعة من المفكِّرين العرب والمسلمين المعاصِرين، ممن انبهَروا وتأثَّروا بالثقافة الغربية، بدون فرز للإيجابي مِن مُعطياتها، والسلبي منها، الذي يعمل على تقويض عُرى الإسلام، بأدوات مِن الداخل؛ فبزعمهم الحاجة إلى التجديد والاجتهاد راحوا يَخلعون عن القُرآن الصِّفة الربَّانية له بطرُق لا علاقة لها بأصول العلوم الإسلامية المعروفة في الثقافة الإسلامية، بذَريعة النُّفور من التزمُّت الإسلاميِّ، والخروجِ مِن القوالب الجامدة، والحاجة إلى التنوير والتَّحديث؛ لمُواكَبة مُقتضيات التطوُّر، ومُسايَرة حركة العصْر؛ لذلك فإن الدِّين يجب أن يخْضَعَ -في حساباتهم- للنقد الصارم، وإعادة القراءة للوحي، كأيِّ تُراث آخَر، فالقرآنُ بفعل جمعِه وكتابته بعد وفاة الرسول لَم يعدْ وحيًا -كما هو مُتوارَث- بل هو نصٌّ أسطوري تاريخيٌّ، بفِعل الفكر الإنساني، والتأثيرات الأيديولوجية الإسلامية؛ حيث لَم يعُدْ نصًّا دينيًّا أصيلاً، بل أصبح نتيجةً لتلك المعطَيات نتاجًا إنسانيًّا، وهكذا فإنه يَنبغي التعامُل معه براغماتيًّا، وبدون تسليم يَقينيٍّ مُسبق، بمقتضى ما يتطلَّبُه راهن الحال مِن "الأنْسَنة"، و"التَّسيِيس" و"العَلمنَة"، وبذلك فهُم يَلتقون مع أهداف مشروع الهَيمنة والتغريب.

 

إنَّ نزْع الثِّقة عن أصالة القرآن الكريم، وإماطةَ حِجاب القَداسة عنه، واعتبارَه نصًّا أسطوريًّا قابلاً للنَّقد، والتعاطي معه بأدوات التناوُل المُعاصِرة، بزعم أنه لم يَصِلنا بسندٍ مقطوع الصحَّة؛ لأنه لم يُكتَبْ مُصحفًا كاملاً في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كُتِب واستُكمل العملُ في كتابته بعد وفاته - ما هي إلا مُغالَطات مُتهافِتة، دأَب المُستشرقون الأجانبُ، والمُستغربون العربُ والمسلمون السائرون في ركابهم، يسوقونها عند تعاطيهم مع موضوع جَمْع القُرآن وكتابتِه، خِدمةً لهذا الغرَض الممسوخ.

 

إنَّ التشكيك في أصالة نصِّ القرآن الكريم عن قصْدٍ، وإنكارَ نقاوة السنَّة النبوية، والزعم بأن الظروف السياسية والأوضاع الاجتماعية التي انتشَر فيها الإسلامُ، احتاجَتْ إلى أحاديثَ جديدةٍ لمُواجَهة مُستجدَّاتها، فاختلَقتْها الضَّرورات السياسية، لتدعم مَواقِفها السياسية والمَذهبية - ما هي إلا مُبرِّرات مُتهافِتة لتبرير فكرة أن القرآن والحديث النبوي بهذا التصوُّر هما جزءٌ مِن التراث الإسلامي، ومِن ثمَّ فإنه ينبغي لهما أن يخضَعا للدِّراسة النقدية الصارمة، مثل كل الموادِّ الموروثة، تحت تسويغ أن مسيرة تاريخ الشعوب التي اعتنَقت الإسلام وتنوعها، قد خلقَت أوضاعًا جديدة، وحالات مُستحدَثة لم تكنْ مألوفةً، وغير منصوص عليها في القرآن، ولا في الحديث، ولكي يتمَّ دمجُها وتمثُّلها في التراث، لَزِمَ المعنيِّين بالأمر يومذاك أن يُقرُّوها، ويُشرِّعوها، إما بواسطة حديث للنبي، وإما بواسطة آليات القياس، فكانت بذلك الإقرار تراثًا إنسانيًّا محضًا، يخلو مِن القداسة التي يَمتاز بها النصُّ القرآني أو النبوي، التي تُحصِّنه مِن المسِّ.

 

إن الحديث عن نقد الإسلام كدِين ينبغي أن يتمَّ وَفق منهجية العلوم الإسلامية، التي أبدعتْ رصيدًا هائلاً مِن المعرفة الإسلامية التي يَعترِف برصانتِها المُنصِفون مِن فلاسفةِ وكتَّابِ ومُفكِّري الغرب القُدامى منهم، والمُعاصِرين على حدِّ سواء، في حين أن الإصرار على أن يتمَّ التعاطي معه باعتماد أدوات النَّقد الحديثة التي أنتجَتْها الثقافةُ الغربية معايير للتقييم على مَقاساتها الحاضرة، وخاصَّة ما يتَّصل منها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، تحت مزاعم سَبرِ أغوار التراث الإسلامي التي ما زالتْ تَحفُّه قداسة الاعتبارات الدينية، مما يَحول دون التمكُّن مِن الكشْفِ عن ملامحه المعرفية، عند تناوله بأدوات تحليل بالية، مَوروثة عن الدِّراسات الإسلامية التقليدية وفقًا لمثل هذا التصوُّر الزائف، وواضح ما في ذلك الإصرار مِن مُجافاة صارِخة لمعايير الإنصاف، ومدى الظُّلم الذي يلحَق بالدين الإسلامي، عند نقدِه بأدوات ووسائل معرفة لا تَنتمي إليه، ولا تمتُّ له بِصِلة.

 

ولا شك أنهم في ذلك النهْج المُضلِّل يسعون لكي يُمرِّروا قناعاتهم المُغرِضة، بضرورة "علمَنَة" الدين الإسلامي، ليُخضعوه لمنهج البحث العلمي التجريبي، وأنسنته" عمليًّا؛ ليَخضع لمعايير التناول المعروفة في العلوم الاجتماعية؛ بدعوى أن تلك الطريق العلمية لم تُمارس في الدراسات الإسلامية، بسبب إقصائها مِن قِبَل الفُقهاء، والمُحدِّثين، والأصوليِّين المسلمين القدامى؛ لأسباب مختلفةٍ في حينها، فاعتَراه الجمودُ، مما حال دون تناوُله بمعاييرَ علمية، وموضوعية، مُتوافِقة مع ما هو مُتعارف عليه في الساحة العلمية اليوم.

 

لذلك فإن مثل هذه الأطروحات بهذه الطريقة المتعسِّفة ليست تجديدًا، وإنما هي نقد هدَّام لأصل الدِّين ذاته، فهي تَعمد بهذا النهج إلى استبعاد المُعطى الإيماني في النص الدِّيني؛ قرآنًا وسنَّة، باستِحضار تلك الذرائع الواهية، وتلغي بذلك المسعى الخبيث البُعدَ القِيَميَّ والأخلاقي في حياة المسلمين، القائم على قاعدة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، والمُرتكز في ثوابتِه الكُبرى على الإيمان الغَيبي المُتيقن بمصداقية أو بصِدْق التنزيل على قاعدة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.....} [البقرة: 1 - 3]، ومِن ثَم فإنَّ إصرارهم على استِبدال المنهج العلمي المادِّي بالمنهجية الإسلامية؛ هذا المنهج العلميُّ المادِّي الذي يَتسربل "الأنسنة" المُطلَقة، ويُقيِّد النص بالرؤية العقلية المحدودة، ويَمسخ الدِّين بـ"العلمنة" لأغراض اجتماعية، ومآرِب سياسيةٍ عند تفكيك بِنيَة التراث الإسلامي أثناء التناول، فإنه إنما يُجرِّد النهجَ العلمي -بهذه المُمارسة الخاطئة- مِن التوافُق مع قاعدة تطابق الوسيلة مع الغاية؛ باستخدام وسائل بحثٍ لا صِلة لها بالرصيد الفكري، والتراث الفقهي الإسلامي المنزَّل منه، والمُتراكِم منه بالاجتِهاد عبر الزمن، مما يُضفي على هذه الطريقة المَشبوهة صفةَ الغرض والتدليس، ويُجرِّدها مِن مِصداقية التلَقِّي بالقبول.

 

لذلك فإن التجاوز على الإسلام، ومحاولات تشويه اللغة العربية، التي هي لسان القرآن الذي اختاره الله -تعالى- ربُّ العالمين ليُخاطبهم به، ومساعي العمل على إحياء اللهجات المحلية لتكون وحدَها اللغة الأصلية للعرب، بعد أن تمكَّن الغربُ الاستِعماري مِن تخريج أفواج مِن الأُطُر العلمية المُنسلِخة من الدِّين والثقافة العربية الإسلامية، والذين أسَّسوا جمعيات ثقافية، وأنشؤوا مراكز دراسات بحثية، وشكَّلوا حركات سياسية؛ كي تكون واجهاتٍ مقبولةً تدعو إلى التحرُّر مِن الإسلام، والانسلاخ مِن العروبة، كمدخل إلى الضَّياع ومسْخ الهُويَّة، كجزء من إستراتيجية غربية شامِلة لتفتيت الأمة العربية الإسلامية، وإنهاك حالها، لتعويقها عن النُّهوض، وإبعادها عن ساحة التأثير، وذلك بالرغم مِن كل ما ظهَر في الغرب مِن دراسات مُنصِفة تُقرِّر مُوافَقة غيب القرآن للحقائق العلمية التجريبية في شتَّى ميادين المعرفة المعاصِرة.

 

ولا بدَّ من الإشارة في هذا المجال إلى خطورة هذا النهج الاستغرابي، الذي تُروِّج له أوساطٌ غربية مُعادية للإسلام والعروبة، بمُؤازَرة الطابور المُستغرِب من أبناء العروبة والإسلام، بقصد تقويض الدين الإسلامي من الداخل بأيدي أبنائه، للتمويه على النشاط الاستِشراقي الذي يتَّخذ من المنهجية العلمية ذريعةً مُتبرِّمة للمسِّ بثوابت الإسلام، وزعزعة أركانه.

 

ولا جرم أن ما يَتداولونه من أفكار ملفَّقة عن الإسلام هي مُخرَجات عقيمة لحضارة رفاهية مادية، لا تأصيل لمَراجِعها من وجهة نظرِ معرفة إسلامية، مما يتطلَّب من العرب والمسلمين وعيًا جادًّا بتلك المخاطر، واستنفارًا مُكثَّفًا لكلِّ عناصر القوة الكامنة في الأمة، علميًّا واقتِصاديًّا وبشريًّا، وزَجَّها في إستراتيجيَّة مُعاكِسة لإستراتيجية التعالي والازدِراء والإساءة إلى رموزهم والمسِّ بمقدَّساتهم، والسعي الجاد لإعادة صياغة الحال المُنهَك، على نحوٍ يُفضي إلى نهوض الأمة، والاقتِراب المتجسِّد بها مِن تاريخها المشرق، ويُمكِّنها مِن امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا والتصنيع باقتدار، بما يسَّره الله لها مِن إمكانات؛ من أجل النهوض بالحال المُزرِي؛ لكي يتخطَّوا مُستنقَع الوهن الراهن، ويُعيدوا لأنفسهم الاعتبار، ويُعاوِدُوا دورهم المسؤول على الساحة الإنسانية إبداعًا وعطاءً، ويَمنعوا استهانة غيرهم بهم، الذي ما انفكَّ يَستهزِئ بمقدَّساتهم، ويمسخُها بدون وجه حق، فيكونوا عندئذٍ كما أرادهم الله، خير أمة أُخْرجَتْ للناس على الدوام.

__________________________________________________
الكاتب: نايف عبوش