وجاءت زكاة رمضان (مصارف الزكاة)
وجاءت زكاة رمضان: وكما يجب على الغني أن يُخرج الزكاة فإنه يجب عليه كذلك أن يبحث عن المستحق لها، ليس إخراج الزكاة واجب فقط، بل والبحث عن المستحقين واجب آخر في هذا الركن العظيم
- التصنيفات: فقه الزكاة -
وجاءت زكاة رمضان، فتطاول كثير من الناس، ووزّعت على غير أهلها في بعض الأحيان، والله سائل من أخذ، وسائل من قسّم، وسائل من أخرجها عما أمره الله سبحانه وتعالى واستودعه، ومن الناس يا عباد الله، من قسّم زكاته على أقربائه؛ بحجة أن الصدقة لأقرب مسجد، وهذا حق في شأن الصدقة، أما الزكاة فلها مخارجها الشرعية المعتبرة، التي لا يجوز تعدّيها، ولا تجوز المجاملة على حساب حق الله فيها، لا تجوز المحاباة على حساب حق الفقراء والمساكين، بل يجب التحري يا عباد الله؛ فإن كان القريب من المحتاجين فهي صدقة وصلة رحم، وإلا فإنه لا يجزئه إلا إعادة إخراجها من جديد.
وجاءت زكاة رمضان، وارتفعت كثير من الكشوف التي كُتبت، ونُظر في البنوك إلى حسابات الأغنياء فعُرفوا، ثم أُرسلت إليهم هذه الكشوف، فهل يجوز الاعتماد عليها يا عباد الله؟ إن الله تعالى كما أمرنا بأداء الزكاة أمرنا بإيصالها للمستحقين، ويجب التحري والنظر، فيجب على الغني أن ينظر بنفسه في هذه الأسماء التي رُفعت إليه، أو أن ينظر بمن يثق بدينه وأمانته، فمن كان من أهل الزكاة أُعطي، ومن لم يكن كذلك مُنع؛ تقوىً لله سبحانه وتعالى.
وجاءت زكاة رمضان، فتهاون الكثيرون في إخراجها يا عباد الله، فأصبح الإنسان يُعطي من الزكاة الواجبة كل من سأله في مسجد، أو لقاه في طريق، أو أحرجه في دكّان، وليس هذا بمجزئ إلا أن يتحرّى الإنسان مواطنها، فيعطيها على ما أمر الله سبحانه وتعالى.
أيها المؤمنون عباد الله، إن القرآن الكريم جاء بالأحكام مجملة، ثم جاءت سنة رسولكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففصّلت الأحكام وبينتها على وجه التفصيل والتحديد، لكن العجيب يا عباد الله، إذا نظرت في القرآن أن أحكام الصلاة جاءت مجملة، وفصّل قدرها وأوقاتها وأعدادها وصفتها رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن أحكام الحج جاءت في القرآن مجملة، وفصّل شروطها وأركانها ومناسكها رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن لما جاءت أحكام الأموال تولى الله سبحانه وتعالى بنفسه قسمتها، فلم يترك قسمتها لأحد، لما جاءت أحكام المواريث فصّلها الله في كتابه تفصلاً بيناً واضحًا، ولما جاءت أحكام قسمة الغنائم قسمها الله سبحانه وتعالى من عنده: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، ثم بيّن قسمتها سبحانه، ولما جاءت مصارف الزكاة، لما جاءت زكاة الأموال تطاول لها كثير من الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مدت أيدي المنافقين إلى الزكاة، سعوا لأخذ مال الزكاة، ففضحهم الله، وأوضح حرصهم على نفعهم الذاتي في القرآن الكريم، فضح الله هؤلاء المتطاولين على مال الزكاة ممن لا يستحقه، فخلّدها في القرآن سبحانه لتكون عبرة لنا جميعاً، قال عز من قائل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58، 59]، ثم قسّمها سبحانه وتعالى بنفسه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، أي الزكاة الواجبة، انظر أخي في الله كيف تولى الله سبحانه وتعالى قسمة الزكاة لما تطاول إليها من لا يستحقها ! إنه حكم الله سبحانه.
وكما يجب على الغني أن يُخرج الزكاة فإنه يجب عليه كذلك أن يبحث عن المستحق لها، ليس إخراج الزكاة واجب فقط، بل والبحث عن المستحقين واجب آخر في هذا الركن العظيم، الذي هو من أعظم أركان الإسلام، كلما ذُكر إقام الصلاة ذكر الله تعالى إيتاء الزكاة، فيجب على المزكي أن يتحرّى من يُعطيها.
وإذا نظرنا في المصارف الثمانية التي قسم الله عليها مال الزكاة، وجدنا أكثر هذه المصارف مما يعني ولاة الأمور كسهم العاملين أو المؤلفة قلوبهم، وبعضها قلّ في هذا الزمان؛ كسهم الرقاب، وبعضها يحتاج إلى فتوى خاصة من العلماء أن هذا المصرف من مصارف الزكاة؛ كسهم في سبيل الله، وبقي تحري الناس في زكاتهم في ثلاثة مصارف: هي أشهر المصارف، من أشهر ما يتحرّى الناس وضع زكاتهم فيه ثلاثة مصارف: الفقراء والمساكين والغارمين، فمن هو الفقير والمسكين يا عباد الله ؟ وكيف نعرفهما لنضع الزكاة في مكانها؟ ولكي لا نتطاول عليها، ونحن لا نستحقها.
الفقير والمسكين في كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى على الصحيح، وهو قول الجمهور منهم هو الذي لا يجد كفايته من حوائجه الأصلية له ولمن يعول، فلو فرضنا تقريباً يا عباد الله أن هذا الرجل ليس له مال ولا كسب، فهذا فقير ومسكين ما دام ليس أحد يقوم بالنفقة عليه وكفاية حاجته، وإن كان له كسب كحال كثير من الناس لهم كسب شهري؛ إما من ربح ما يحترفون به، وإما من راتب دوري لأعمالهم التي يعملون فيها ووظائفهم، فعلى التقريب يُنظر يا عباد الله إن كان هذا الكسب الدوري الشهري يكفي الإنسان حاجته الأصلية مدة شهره لم يجز له بعد ذلك أن يأخذ، أو أن يُعطى من الزكاة؛ لأنه لا يأتي آخر الشهر إلا ويستطيع أن يكفي حوائجه؛ من مسكن وملبس وطعام وشراب، أما إن كان لا يأتي آخر الشهر إلا ويُعدم كفاية حوائجه، فيضطر أن يُضيّق على أهله فيما يشق عليهم، أو يضطر أن يستدين؛ لكي يكفّي مؤنة باقي الشهر، فهذا الذي يُعطى من الزكاة ما يستحق، هذا حكم الله يا عباد الله، فاتقوا الله سبحانه وتعالى في أحكامه.
ومعرفة المسكين والفقير قد تكون سهلة، انظر إلى حوائجه الأصلية، انظر إلى ملبسه؛ هل عنده ملبس يكفيه ويكفي من يعول؟ وهذا هينٌ إن شاء الله، فإذا نظرت إلى حال الناس، وحال أبنائهم تبيّن لك من الذي له ملبس يكفيه، ومن الذي لا يستطيع أن يقوم إلا على ملبس رث، والحاجة الثانية من حوائج الناس حاجة المسكن؛ فيتحرى الإنسان في ذلك بأن يُرسل بعض أهله مثلاً، فينظرون في مسكنه وداره؛ هل هو واسع يكفيهم، أم أنه قد ضاق عليهم، وازدادوا وازدحموا فيه؟ فاحتاجوا لمسكن آخر، ثم الطعام والشراب، فكيف يُعرف حاجة الناس وكفايتهم من ذلك؟ من وسائل ذلك يا عباد الله أن يُفعل كما كان يفعل السابقون منا كانوا يأتوا إلى أصحاب المحلات التي تبيع طعام الناس وشرابهم، فيسألونهم من الذي يستدين منكم كل شهر ؟ من الذي لا يجد حاجة كفاية نفسه من الطعام، فيأخذ بالدَّين، ثم يعجز عن السداد ؟ يأتي آخر الشهر فيستدين، فإذا جاء أول الشهر سدد، ثم لا يأتي آخر الشهر إلا ويستدين، فإذا جاء أول الشهر سدد، ويزداد الدين مع الأيام، هذا من علامة أن هذا لا يستطيع أن يكفي حوائجه الأصلية من الطعام والشراب، فلك أن تنظر في أسمائهم، ثم تذهب وتعطيهم الزكاة بما يكفي حوائجهم الأصلية، هذا يستدين كل شهر بمقدار ستة آلاف، فلك أن تُعطيه ستة في اثنا عشر شهر؛ لتكفيه حوائج السنة، وأجاز بعض أهل العلم أن تُسدد ديونهم عند صاحب البقالة، فتكفيهم حاجتهم، وهكذا كل سنة؛ من الذي بقي عليه دين هذه السنة وتدفعه عنهم، إنه التحري الواجب يا عباد الله.
وأما العلاج، وهو من الحوائج الأصلية، وكثير من الناس إذا مرض افتقر، وحلّت له الزكاة؛ خصوصاً مع شدة حالة الناس وشدة غلاء أسعارهم، فمثل هؤلاء يا عباد الله أمر التحري فيهم سهل، فيُذهب بأوراقهم إلى طبيب مختص؛ ليتأكد من حاجاتهم، ومقدار ما يحتاجون إليه؛ فإن نظرت عجزهم عن سداد هذا المبلغ سددت عنهم من الزكاة، وقد وفّيت ذمتك التي أمرك الله بها، هذه من الوسائل والطرق لتحرّي من هو المحتاج والمسكين الذي تجب له الزكاة.
وأما الغارم يا عباد الله فهو الذي استدان ديناً في حاجة من حوائجه، ثم حلّ الدَّين، وعجز تماماً عن السداد؛ فإن كان لا يستطيع أن يقضي دينه؛ لعدم وجود مال معه، ولو على شكل أقساط، فإن هذا يُعطى من الزكاة ما يُسدد به دينه، فتحرّوا يا عباد الله؛ فإن هذا مما أمركم الله تعالى به، واتقوا الله يا عباد الله أن تمدوا أيديكم إلى شيء لا يحل لكم؛ فتأكلون حراماً، وتحرمون الناس من حقّهم .
كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتحرى، كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يُعطي الزكاة لكل من سألها أو مدّ يده، جاء عند أبي داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأله الصدقة، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو بنفسه، فجزّئها ثمانية أجزاء؛ فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك»، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، كان يتحرّى، ليس كل كشف يُعطى أهله، وليس كل يد يُعطى سائلها، بل لا بد من التحرّي، ليس كل قريب يُعطى مجاملة وخوفاً من الإحراج، أو خوفاً من أن يتكلم الناس في هذا الغني الذي يتصدق، لا؛ أعطهم من الصدقة إن شئت، وأما الزكاة فحق الله سبحانه، ليست فيها مراءاة ولا محاباة لعامل يعمل عند الغني، فيُعطيه من الزكاة؛ ليستفيد من عمله ومن مجهوده، لا، تحرّى إن كان يستحق أعطيته؛ لأجل الله، ثم لأجل فقره، وإن كان لا يستحق منعته.
أيها الأخوة عباد الله، إنه التحري الواجب لأداء ركن من أركان الإسلام، ما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُعطي كل من سأل، ما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا متحرياً في إعطاء الزكاة لأهلها، روى أبو داود من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أتى رجلان يسألان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصدقة، فقلّب بصره فيهما، يتحرى عليه الصلاة والسلام، وينظر في شأنهما، فرأى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القرائن ما يُوحي بأنهما لا يستحقان الزكاة، فقلّب بصره فيهما، فوجدهما جلدين؛ يعني قويين، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم محذّراً ومنبهاً: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب» ، ولا حظ فيها لغني يجد من المال كفايته وكفاية من يعول، ولا لقوي مكتسب؛ قوي يستطيع أن يكتسب ويحترف، يجد عملاً حلالاً يُلائمه يكفيه ويكفي أهله، لا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً.
أيها المؤمنون عباد الله، إن من واجب المخلصين لهذا المجتمع أن يبحثوا عمن حولهم مِمَن يستحق الزكاة، فيرفعوا أسماءهم إلى الأغنياء؛ قياماً بحق هذا المجتمع الذي نعيش فيه، وحتى لا يسألنا الله سبحانه وتعالى؛ يوم أن علمنا أن أحد جيراننا يبيت جائعا، فيتحرّى كل مخلص من حوله، وإن عجز أن يزكّي هو من ماله فليرفع هذه الأسماء لمن يبحث عن أمثال هؤلاء.
وإن من أهم واجبات المؤسسات الخيرية - التي وهبت نفسها للقيام بحاجات الناس - أن يتحروا من خلال الماسحين الاجتماعيين، فيمسحون المناطق التي حولهم، ويُدققون في أحوال الناس، ويتأكدون من مقدار ما يحتاجون إليه من المال، ثم يتسببون بعد ذلك في رفع أسمائهم على خفاء لمن يتصدق عليهم ويكفيهم.
أيها المؤمنون عباد الله، إذا كان هذا هو التحري الواجب على الأغنياء ووكلاء الأغنياء، فهناك تحرٍّ مندوب؛ إن عرفت المحتاج الذي يسأل، وعن حاجة أعطيته، هذا يكفي، لكن أفضل من هذا أن تتحرى الذي لا يسأل مِمَن اشتدت حاجته، هنا زكاتك سيكون أجرها أعظم، وثوابك عند الله أكثر، يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في المتفق عليه: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان»، هذا إن كان مسكينًا فيجوز التصدق عليه، لكن الأولى «لكنّ المسكين الذي يتعفف، فلا يجد غنياً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس»، هنا تكون الصدقة أعظم وأبرك.
أيها المؤمنون عباد الله، من رُفعت إليه أسماء من متصدقين، فعلم أن بعض هؤلاء لا يستحق الزكاة لم يجز له أن يعطيهم، بل يجب عليه وجوباً أن يتواصل مع هذا الذي تصدّق بزكاته، فيُخبره بحالهم، أو بتحول حاجاتهم، ومن أُعطي مال في رمضان، وغلب على ظنه أنه مال الزكاة، وعلم من حاله أنه لا يستحقّها؛ لأنه يكفي نفسه ويكفي أهله دون أن يُضيق عليهم بشيء مما يفعله الناس في أعرافهم، مما أباحه الله، ودون أن يستدين، من علم من نفسه هذا فلا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، ومن علم من نفسه الحاجة جاز له الأخذ، وإن تعفف فهو أولى، و «اليد العليا خير من اليد السفلى» يا عباد الله.
أيها المؤمنون عباد الله، جاءت زكاة رمضان، وللأسف انخفض الصرف، والعجيب أن أسعار السلع ما نقص مما أعلم منها شيء، فإن كان انخفاض الصرف هذا تواطئاً من التجار؛ لظلم المستحقين لمال الزكاة، تواطأوا على إنزاله فيما بينهم؛ ظلماً للمستحقين للزكاة، فوالله ثم والله إن حقوق المستحقين في رقابهم، وسيسألهم الله سبحانه يوم أن منعوا حقه، ثم منعوا الناس من أخذ حقوقهم، فليتقِ الله تعالى التجار الجشعة إن كانوا قد فعلوا ذلك، وإن كان انخفاض الصرف في هذا الوقت بسبب كثرة الطلب، وقلة العرض؛ لكثرة الذين يزكّون في هذا الشهر فانخفض بهذا الصرف، فالخطأ من المزكّين الذين أخّروا الزكاة إلى رمضان حتى تكاثرت زكاتهم، فانخفضت قيمتها الشرائية، والأصل عدم جواز تأخير الزكاة، فمن كان من الأغنياء وحال الحول على نصابه في رجب، وجب عليه أن يُخرجه في رجب، ومن حال الحول في محرم أخرجه في محرم، ما أراد الله سبحانه أن تكون الزكاة تجتمع في شهر واحد، وإنما أراد الله سبحانه أن تكون حولية دورية على كل مال غني في ماله بحسبه؛ فيغتني الفقراء في رجب ومحرم وشعبان وذو القعدة، وكل أشهر السنة، ثم لا يتطاول الذي لا يستحقون إذا تكاثرت في رمضان، ثم لا ينخفض الصرف كما يحدث في هذه الأيام.
ما أجمل رمضان، وما أعظم التسابق إلى الخيرات في رمضان، فهذا يُكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، وذاك يُكثر من قراءة القرآن ومن استماع القرآن في صلاة وفي غير صلاة، والآخر لا يفتر من رفع يديه إلى الله في شهر الرحمات، يستمطر من الله سبحانه وتعالى المغفرة وتكفير السيئات، هنيئاً لنا يا عباد الله ونحن نتنافس على الإكثار من الطاعة في هذا الشهر الكريم، لكن ثمّة وقفة؛ حتى نزداد من الخير خيرا، ومن النور نورا، وقفة نتسائل يا عباد الله مع كثرة طاعاتنا، من الذي أنقصها حتى أصبح بعضنا يُكثر من ذكر الله تعالى، ثم لا يجد ما وعد الله سبحانه من أُنس القلب، وطمأنينة الفؤاد؟ يذكر الله ذكراً كثيراً، ثم لا يشعر بعد ذلك بقول الله: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، ما السبب يا عباد الله أننا نكثر من الدعاء ثم لا يجد كثير منا ما وعد الله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]؟، ما السبب يا عباد الله نكثر من استماع وقراءة القرآن - وما أعظم هذا - لكن يختم أحدنا الجزء والسورة، ويُغلق المصحف ثم لا يشعر بعد أن سمع أو قرأ ما وعد الله به: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]؟.
أيها الإخوة، دعونا نتحاسب؛ لعلنا ما أدينا هذا على ما أمر الله سبحانه، ليس الخلل في القرآن أو في الذكر أو في الدعاء، لكنه فيما نفعل نحن يا عباد الله، وعدنا الله، وربنا سبحانه وتعالى أوفى من يفي بوعده، لكن هل دعونا الله كما أمرنا ؟ وهل ذكرنا الله كما طلب منا ؟ ثلاث آيات في سورة الأعراف عبرة للمتعبدين، تعلمنا آداب الدعاء، وآداب الذكر، وآداب قراءة القرآن، إذا أردنا نفعها فانظروا في أنفسكم يا عباد الله؛ حتى تؤتوا أعظم أجر في قراءة القرآن وذكر الله والدعاء.
أما الدعاء: فقال ربي: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، كيف تضرعاً أي تلح في الدعاء وتكثر من التوسل لله سبحانه وتعالى في دعائك، وتخاف فتدعو دعاء الخائف، ليس دعاء من رفع يده، ولم يبالِ بإجابة الله سبحانه له، يأتي عليكم زمان لا ينجو منكم إلا من يدعو الله كدعاء الغريق، تأمل إنسان في بحر، والموج عليه كالجبال، وهو متعلق بعود خشبة، كيف يكون رجاؤه؟ وكيف يكون دعاؤه؟ هكذا ينبغي أن يكون الدعاء يا عباد الله، وخفية أي في الخفاء، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، أي لا تدعو ببدعة أو بقطيعة رحم أو إثم، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، بالمعاصي، تجنب المعاصي، وخصوصاً أكل الحرام، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، لما تدعو تخاف وترجو، كيف؟ إذا دعوت تذكرت ذنوبك ومعاصيك؛ فخفت ألا يستجيب الله الدعاء، ثم تذكرت رحمة الله وعفو الله وكرم الله فطمعت أن يُجيب الله الدعاء، إذا دعوت قلت: اللهم إني ظلمت نفسي، إني قصرت، إني فرطت، إني أذنبت، كم مرة أتوب إليك وأرجع؟ كم مرة أُعاهدك وأنكث؟ لكنك أنت ياالله أنت الرحمن، أنت أرحم الراحمين، أنت أجود الأكرمين، وهكذا ادعوه خوفاً وطمعًا، وابشر (إن رحمة الله قريب من المحسنين)، من أحسن لله وأحسن في دعائه؛ فما أسرع رحمة الله إليه.
وإذا قرأت القرآن أو استمعته، فاسمع الله في سورة الأعراف يعلمنا كيف نقرأ، ونستمع إلى القرآن؟، يقول ربي سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، كيف تُرحم باستماع وقراءة القرآن؟ عليك بأمرين: الأول: أن تنصت، تجعل أذنك تسمع ما تقول، والثاني: أن تستمع بقلبك، هنا ينفعك القرآن، أما إنسان يفتح، فيقرأ الصفحة والصفحتين والثلاثة، فإذا أغلق المصحف قلت له: يا فلان ماذا أمرك الله ؟ ما القصة التي قصّها الله عليك ؟ ما الموعظة في القرآن التي وعظك الله بها ؟ هل هي الموت أو النار أو فوات الجنة أو القيامة؟ يقول: ما أدري، إذا كان أحدنا يصلي وراء الإمام، ويستمع بأذنه، لكن قلبه يفكّر في أفكار أخرى، أتظن أن ينفعه القرآن؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، هذا الذي ينتفع بالقرآن، يُفرغ أذنه لسماع القرآن، ويفتح قلبه كذلك، والله ما تُقرأ عليه الآية أو الصفحة إلا وتجده يتأثر بالقرآن، ويعظم أجره بسماع وتلاوة القرآن، وفي كلٍ أجر، لكن شتان بين الأجرين يا عباد الله.
وأما ذكر الله سبحانه، فإذا أردت أعظم ذكر تُحصن به أهلك، وأعظم ذكر يطرد عنك الفقر، وأعظم ذكر إذا متَ بعده دخلت الجنة، وأعظم ذكر من أذكار الصباح والمساء يحصنك من الآفات والشرور والأمراض، وأعظم ذكر يطمئن له قلبك، فاسمع لله يعلمنا في سورة الأعراف يقول ربنا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، كيف الذكر؟ تضرعاً؛ أي إلحاحاً وخوفاً، لذلك قال سبحانه: (وخيفة) أي وأنت خائف، (ودون الجهر من القول)؛ أي لا ترفع صوتك كثيراً حتى لا يكون رياءً، أو تؤذي من حولك من الناس، (بالغدو والآصال)؛ أي في أول النهار وفي آخر النهار، أذكار الصباح والمساء، بل إذا ذكرت الله في أوله وآخره ذكرت الله ما بين ذلك، (ولا تكن من الغافلين)؛ لا تغفل عن ذكر الله، لا تذكر الله بلسانك، أو لا تذكر الله بقلبك، فإن بعض الناس يُسبح ويُحمّد وقلبه ما يدري ماذا يقول، فاتقِ الله سبحانه إذا قلت: سبحان الله، فما معنى ذلك؟ أي أُنزه الله من كل نقص، فلسانك يقول: سبحان الله، وقلبك يقول: أُنزه الله من كل نقص، لسانك يقول: سبحان الله، وقلبك يقول: أنزه الله من كل ظلم، لسانك يقول: سبحان الله، وقلبك يقول: أُنزه الله من العجز، سبحان الله أُنزه الله من الشريك، وهكذا، وإذا قلت: الحمد لله، فما معنى الحمد لله؟ أي أصف الله بكل كمال، فإذا قلت: الحمد لله، قال قلبك: أصف الله بكل كمال، الحمد لله قال قلبك: أصف الله بكمال العلم، الحمد لله قال قلبك: أصف الله بكمال الرحمة، الحمد لله أصف الله بكمال القدرة، وهكذا، عندها والله ما تنتهي من التسبيح والتحميد والتكبير إلا وتجد قلبك قد اطمئن بذكر الله، أما أن تفعل كبعض الجهال يُسبح ولا يدري ماذا يقول، ولا يعي كم قال، وكم عد، ولا يبقى في قلبه شيء!!.
عباد الله، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، تريد أن يعظم أجرك بذكرك وقراءتك وصدقتك وطاعتك أحضر قلبك يا عبد الله، كلمة واحدة إذا عبدنا الله فلتحضر قلوبنا في عبادة الله؛ في صلاتنا في صومنا في ذكرنا في دعائنا في قراءة القرآن، هاتوا قلوبكم، وابشروا؛ إن رحمة الله قريب من المحسنين، ابشروا لعلكم ترحمون، ابشروا بالخير وبالأجر المضاعف، والله ما يسبقك إنسان ولو ذكر الله أكثر منك، ولو قرأ من القرآن أكثر منك، مادام أنك قد حضر قلبك وهو قد غفل قلبه.
فأسأل الله العظيم أن يعيننا وإياكم كيف نؤدي الزكاة، وكيف نؤدي الصلاة، وكيف نؤدي الذكر، وكيف نؤدي الدعاء وقراءة القرآن على الوجه الذي يرضيه عنا سبحانه، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا يا رحمن يا رحيم، وإذا أردت فتنة قوم فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم تقبل صيامنا وصلاتنا ودعائنا وذكرنا وقيامنا وصدقاتنا وسائر أعمالنا، اللهم اجعلنا ممن أدرك رمضان، فغُفر ذنبه، وكفرت سيئته، وأعتقت رقبته، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماضٍ فينا حكمك عدل فينا قضاؤك، ربنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيرا، ربنا قصّرنا وفرّطنا في حقك، ربنا ليس لنا رب ندعوه إلا أنت فمن نرجو إن طردتنا، ومن ندعو إن حرمتنا، إلهنا ومولانا أنت أكرم الأكرمين وأنت أرحم الأرحمين، رحمتك وسعت كل شي؛ فارحمنا برحمتك يا رحمن، ما زلنا نقرع أبواب رحمتك، ونسألك من فضلك حتى تغفر لنا وترحمنا وتعتقنا من النار، اللهم إنا نسألك ذلك، ونسألك أن تغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات؛ الأحياء منهم والأموات، اللهم وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم أرنا في اليهود الغاصبين عجائب قدرتك، اللهم يا الله يا مولانا يا ربنا إن نسألك قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيما ورضوانا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا خواتيمها، اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.