كِل بمكْيالٍ واحِد
محمد عزت السعيد
وقد أبى رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يشْهد على عطاء قيس بن ثابت لأحَد أبنائه، واعتبر ذلك شهَادة على زورٍ، حيث إنَّه لم يجعل لبنيه مثلَ ما جعل له.
- التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
إن من أعظم مفسدات القلوب، ومن أشد ما يقتل معاني الإنسانية في النفوس هو شعورها بالظّلم والاضطهاد، فمجرد الشعور؛ والشعور فقط – وإن كان غير صحيح في مجمله- بالغَبن أو الاعْتداء على الحقوقِ أو عدم تقدير الذَّات أو تفضيل الغير فيما يراه صاحبه حقًا، كل هذا يؤدي – لا شك – إلى اتخاذ مواقف عدوانية ردًا للاعتبار وسعيًا وراء الحقوق المهضومة كما يزعم صاحبها.
ولا أدلَّ على ما أعرضه من هذا القَصص القرآني البديع في سورة يوسف، وهو ما تجلَّت فيه قصَّة أبناء يعقوب-عليه السَّلام- وتعاملهم مع أخيهم يوسُف الصِّديق؛ رمز الجمال ومستودع الصَّفاء، فلم يذنبْ يوسُف – عليه السَّلام – ذنبًا، ولم يقتطع من حقوقهم حقًا، لا، ولم يعتدِ على أحدٍ منهم، فضْلاً عن كونه صغيرهم، وهو الَّذي فقد أمَّه صغيرًا، فله الحق في رِعاية أبيهم، ومزيدٌ من حنَان تلك الأبوة.
والجمْلة الأخِيرة هَذه هي كلِمة السِّر، فحَاجة يوسفُ لرعَاية والدِهم، وما انعَكَس من أفعالٍ تترجم لهَذه الرعَاية قد أوغر في نفوسِ إخوته، وتسلَّط الشَّيطان على تبقى منها من مشَاعر الأخُوة، فزَين لهم أنَّ يوسف هو الحَائل والمَانع بينهم وبين حبِّ أبيهم له، وبالغِ رعايته لهُم، وكأنهم يروْن أن أبَاهم ملكًا لهم، ولا ينبغي أن يشَاركهم فيه أحَدٍ، وإن كان أخَاهم من أبيهم.
وما نودُّ الوقوف عنده هو كيفَ أنَّ يوسُف -مع يقيننا التام من عدالة أبيه يعقوب النبي- عليه السَّلام- في تربيته لَه ولإخوانه- لم ينجُ من كيدِهم ومَكرِهم، ولذا فإنَّه ومن وحْي هذه القِصَّة وجَبَ عليكَ إن رغبت أن تعيشَ ويعيشَ أبناؤك في هناءَة وسَعَادة وأن تؤسِّس لميزانِ العَدلِ بين أبنائك، فلا تمايزَ بين أحدٍ منهم في عطِيَّةٍ، ولا تخصّ أحدهم بهدية دونَ غيره، وأن تسَاوي بين الجميع إنِاثًا كانوا أو ذكرانًا، في عطَائك: مَاديًا كان أو معْنويًا، فذلك أدْعى أن يجدوا فيك رمزَ العَدل.
وإيَّاك أن تكيل بمكيالين، فتعطي أحدَهم وتمنع أخَاه، أو تهبَ ابنتك وتترك أبناءك، أو تؤثر كبيرَهم وتحرِم صغيرهم، فتفضِّله على بقيَّة إخْوانِه، فتغْدِق عليهم من مَالك وإنْ كانَ مالَك.
وقد أبى رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يشْهد على عطاء قيس بن ثابت لأحَد أبنائه، واعتبر ذلك شهَادة على زورٍ، حيث إنَّه لم يجعل لبنيه مثلَ ما جعل له.
واعلم أنَّ ذلك ليس حتمًا ألا يحْدث خلافاتٍ بين الأخوة، فلطالما رأينا صورًا يُقيم فيها الوالدان ميزانَ العَدالة بين أبنائهم، ولا يميِّزون بين كبيرٍ وصغيرٍ، بل هم صورةٌ مُشْرقة لا تقِلُّ في إشراقها وروعتها بعضًا مما رأيناه في عدَالة يعقوبَ -عليه السَّلام- مع أبنَائه، أو اهتداءً واقتداءً بسنة نبينا محمد -صلَّى الله عليه وسَلم- ومع ذلك نزَع الشَّيطَان بين الأخوة حتى صَاروا أعداء، وهذا من جملة ما قد يبتلى به العَبدُ.
ومما يجْدر أنْ نلفتَ الانتباه إليه أنَّ العَدل إنما يكون فيما تُشَاهده وتَحسُّه من أمورٍ مَادية أو سلوكات تصْدر من منكما- أعني كلا الزوجين - كأن يُقبِّل أحَد الوالدين أبناءه، أو يفَرِّق بينهم في المعَاملة من حُسن الكلام ولِين الجانب، والهَدية والرِّعاية والاهْتمام ونحوه، أمَّا ما يخَالِطُ القَلبَ ولا يطَّلعُ عليه أحَدٌ إلا الله فإنمَا هو عَطِيَّة من الخَالق – سبحانه – قَسَمَه الله ووزَّعَه بينهم، وفي الحديث .... اللهم إن هذا قَسَمي فيمَا أمْلِك، فلا تُؤاخِذني فيما تمْلك ولا أمْلِك.
وإنْ أردت حياةً سعِيدة وبيتًا هانئًا سَعيدًا فاعدل بين أبنائك في حياتك، وإيَّاك أن تميلَ إلى أحدهم أو تقسِم لأحدٍ قِسْمة دونَ الآخَر، بل كِلْ بمِكيالٍ واحِدٍ، في القَول وفي الفِعل، في الهبَة والعَطِيَّة، في المنْح وفي المنْع، قال الله تعالى: "وإذا قلتم فاعْدلوا..." رَبِّ أبناءَك على المحبَّة والإِيثَار، فإنَّ ذلك سَبيلٌ إلى رَاحة القَلْب وسَلامة الصَّدر.