موضع سجود السهو بين التيسير والتفصيل
أحمد عبد المجيد مكي
ذكر البخاري في صحيحه أن الأئمة- بعد النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وَضَحَ الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
- التصنيفات: فقه الصلاة -
دكتور أحمد عبد المجيد مكي
سجود السهو عبارة عن سجدتين يسجدهما المصلِّي لجبر الخلل الحاصل في صلاته بسبب السهو والنسيان، وأسبابه ثلاثة: الزيادة أو النقص أو الشك في الصلاة ؛ وهو من محاسن هذا الدين و من رحمة الله بعباده.
ومن ضمن مسائله : إذا سها المصلي هل يسجد للسهو قبل السلام أم بعده؟
ولما كانت هذه المسألة يحتاج إليها كثير من الناس، أحببت أن أبين الراجح فيها، خاصة وأن العلماء اختلفوا فيها على أقوال كثيرة، أوصلها الإمام الشوكاني- في أكثر من موضع من كتبه- إلى تسعة أقوال، الأمر الذي يجعل استيعاب العامة لهذه الأقوال والحالات أمرا فيها مشقة وصعوبة. فأقول وبالله التوفيق:
سجود السهو جائز قبل السلام وبعده:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السجود قبل السلام وبعده إنما هو على سبيل الأفضلية والاستحباب وليس على سبيل الوجوب، فيجوز للمصلي إذا سها أن يسجد قبل السلام أو بعده ، وهو قول جمهور الفقهاء، بل نقل ابن حجر الإجماع عليه، فقال رحمه الله: ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده، ونقل الماوردي وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل ([1]).
وقد حكى النووي وابن عبد البر وابن عثيمين اتفاق العلماء على أن سجود السهو يُجْزئ قبل السلام وبعده.
في حين ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن ذلك على سبيل الوجوب، فما جاء في الشرع موضعه قبل السلام يجب فعله قبل السلام، وما جاء بعده يجب فعله بعد السلام، وكلاهما أمر من النبي يقتضي الإيجـاب ، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح.. ولكـن مـن سـجد قبل الســلام مطلقـاً، أو بعـده مطلقاً متأولاً فلا شيء عليه، وإن تبين له فيما بعد السنة استأنف العمل فيما تبين له، ولا إعادة عليه([2]).
الترجيح:
الذي يظهر لي والله أعلم أن الراجح هو التخيير، فللمصلي إذا سها أن يسجد قبل السلم أو بعده ، ويستند هذا الترجيح للوجوه التالية:
أولا- وردت أحاديث صحيحة فيها الأمر بأن يسجد المصلي سجدتين، ولم يذكر فيها محل السجدتين هل هو قبل السلام أو بعده؟ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ " وهو حديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ومنها: إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . [ رواه مسلم]
ثانيا- أن السهو في الصلاة لا يمكن حصره، لأن صوره كثيرة، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على كل صورة منها، فمثلا: رجل يصلي وزاد ركوعاً في إحدى الركعات وترك التشهد الأول، فمتى يسجد: قبل السلام أم بعده؟
ثالثا- أن القول بالتخيير أقرب الطرق إلى الجمع بين الأحاديث، وهو قول ضمن الأقوال التسع في المسألة، وهو قول معتبر قال به الإمام الصنعاني ونقله عن غير واحد من أهل العلم، فقال رحمه الله : ... وطريق الإنصاف أن الأحاديث الواردة في ذلك قولا وفعلا فيها نوع تعارض، وتقدم وتأخر البعض غير ثابت برواية صحيحة موصولة، حتى يستقيم القول بالنسخ، فالأولى الحمل على التوسع في جواز الأمرين.... فالقول بالتخيير أقرب الطرق إلى الجمع بين الأحاديث كما عَرَفْت.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سجد للسهو قبل السلام، وأنه أمر بذلك» ؛ وروينا «أنه سجد بعد السلام، وأنه أمر به» ، وكلاهما صحيح، ولهما شواهد يطول بذكرها الكلام، ثم قال: الأشبه بالصواب جواز الأمرين جميعا، قال: وهذا مذهب كثير من أصحابنا"([3]).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: وَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ قبل السلام أو بعده([4]).
رابعا- هذا القول يتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها، فقد جاءت الشريعة بالتخفيف والتسهيل على الناس، إذ كيف يكون تعليم الصلاة نفسها أسهل بكثير من تعليم حالات السجود للسهو قبل السلام وبعده.
وقد ذكر البخاري في صحيحه أن الأئمة- بعد النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وَضَحَ الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ([5]).
قال الحافظ ابن حجر : .... ليأخذوا بأسهلها، أي: إذا لم يكن فيها نَصٌّ بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ ، .. وأما ما عُرِفَ وَجْهُ الحُكْمِ فيه فلا.
وأما تقييده بالأمناء فهي صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ ، لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يُلْتَفَتُ لقوله. وأما قوله (بأسهلها) فلعموم الأمر بالأخذ بالتيسير والتسهيل، والنهي عن التشديد الذي يُدْخِلِ المَشَقَّةَ على المسلم ([6]).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم.
([1]) فتح الباري لابن حجر (3/ 94).
([2]) بتصرف من مجموع الفتاوى (23/ 37).
([3]) سبل السلام (1/ 307).
([4]) منهج السالكين وتوضيح الفقة في الدين (ص: 71).
([5]) صحيح البخاري، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] ، قبل الحديث رقم (7369).
([6]) فتح الباري لابن حجر (13/ 342).