حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ!!... قراءة الإمام بالقراءات في الصلاة
أحمد عبد المجيد مكي
سيقتصر حديثنا هنا عن حكم قراءة الإمام في الصلاة الجهرية- كصلاة التراويح أو المغرب مثلا- بقراءة تخالف عُرْف البلد وغير معروفة لدى جمهور أو بعض المصلين.
- التصنيفات: فقه الصلاة -
سيقتصر حديثنا هنا عن حكم قراءة الإمام في الصلاة الجهرية- كصلاة التراويح أو المغرب مثلا- بقراءة تخالف عُرْف البلد وغير معروفة لدى جمهور أو بعض المصلين.
- للعلماء في هذه المسألة قولان
القول الأول :
الجواز مطلقا، احتجاجا بأن الكل من عند الله سبحانه، فقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن رجل يصلي بقوم وهو يقرأ بقراءة أبي عمرو فهل إذا قرأ لورش أو لنافع باختلاف الروايات. يأثم أو تنقص صلاته أو ترد؟
فأجاب: يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبي عمرو وبعضه بحرف نافع وسواء كان ذلك في ركعة أو ركعتين وسواء كان خارج الصلاة أو داخلها([1]).
القول الثاني:
ذهب جمع من العلماء القدامى والمعاصرين -منهم الشيخ الشنقيطي والعلامة ابن باز واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء- إلى أن القراءة برواية متواترة صحـيحة مـعتبرة في نفسـها لدى علماء القراءات، لكن لا يقرأ بـها لمن لم يعـهدها، جمعاً للكلمة وحرصاً على التآلف والمودة، أما القراءة بها لمن عهد غيرها ففيها مفاسد منها:
أنها تثير بلبلة في نفوس المأمومين من غير طَائِلٍ وفائدة ، وقد يَرُدُّون على الإمام يحسبون أنه أخطأ، وقد يحصل منه خطأ والناس لا يعرفون أنه أخطأ. وقد يدفعهم ذلك إلى اتهام الإمام بالعجب والزُّهُوُّ وإظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عليه. ومن المفاسد العظيمة- في عصر انتشر فيه الإلحاد وكثر المشككون في ثوابت الدين – أنه ربما أدى ذلك إلى وقوع شك في قلوب بعض المصلين في صفة تواتر القرآن الكريم وأنه كلام الله، لا ينقض بعضه بعضا. لذا قال الإمام ابن مفلح الحنبلي ( ت 763 هـ) : وفي المذهب: تُكْرَهُ قِرَاءَةُ ما خَالَفَ عُرْفَ البَلَدِ ([2]).
الترجيح:
الذي يظهر لي – والله أعلم-رجحان القول الثاني ، وأن من صلي إماما بالناس فلا ينبغي له أن يقرأ بقراءة غير القراءة التي اعتادوها.
ويستند هذا الترجيح –إضافة إلى ما ذكر- إلى جملة من الوجوه أهمها ما يأتي :
الوجه الأول : أن اللَّه أَمَرَ نَبِيَّهُ بأن يُقْرِئَ كُلَّ قوم بِلُغَتِهِمْ وما جرت عليه عادتهم:
أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى دفعا للمشقة، ولما كان فيهم من الحَمِيَّة، ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى. وهناك أحاديث كثيرة تشير إلى ذلك منها :
- حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، « قال لَقيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جبريلَ، فقال: يا جبريلُ، بُعِثتُ إلى أمَّة أمِّيِّينَ، فيهم العجوزُ والشيخُ الكبيرُ، والغلامُ والجاريةُ، والرجلُ الذي لم يقرأ كتاباً قَطُّ، فقال جبريل: يا مُحَمَّدُ: مُرْهُمْ، فَلْيَقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ([3]).
- وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاه جبريلُ -عليه السلام -، فقال: إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أنْ تَقَرَأَ أُمَّتُكَ القرآن على حرفٍ، فقال: أَسألُ اللهَ مُعَافاتَهُ ومَغْفِرَتَهُ، وإنَّ أُمَّتي لا تُطيقُ ذلك، ثم أتاه الثانية، ... ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على سبعة أحرفٍ، فَأَيُّما حَرْفٍ قرَؤوا عليه فقد أصابُوا» ([4]).
وقد أشار الإمامُ ابن الجَزَري (المتوفى : 833 هـ) إلى هذه المسألة بقوله:
"فأما سبب وروده على سبعةِ أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليُسر بها، والتهوين عليها؛ شرفًا لها وتوسعةً ورحمةً، وخصوصية لفَضْلِها، وإجابة لقصد نبيِّها؛ أفضل الخلق، وحبيب الحق؛ ...
فالأنبياء عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرِها وأسودِها، عربيِّها وعجميها، وكانت العربُ الذين نزل القرآن بلُغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتَّى، ويعسر على أحدهم الانتقال مِن لغته إلى غيرها، أو مِن حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والممارسة لاسيما الشيخ والمرأة، والرجل الامي الذي لم يقرأ كتابًا قط ، فلو كُلِّفوا العدول عن لُغتهم والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يستطاع، وبما تأبى الطباع([5]).
وقال بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ): كان مِنْ تيسير الله تعالى أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُقْرِئَ كُلَّ أُمَّةٍ بِلُغَتِهِمْ وما جَرَتْ عليه عادتهم فالهُذَلِيُّ يَقْرَأُ (عَتَّى حِينَ) يريد: (حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون: 54) لإنه هكذا يَلْفِظُ بها ويستعملها، والْأَسَدِيُّ يَقْرَأُ (أَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ) [يس: 60]، والتَّمِيمِيُّ يَهْمِزُ والقُرَشِيُّ لا يَهْمِزُ، ... وهذا ما لا يطوع به كل لسان([6]).
وهذا يقرأ (عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ) بِالضَّمِّ والآخَرُ يقرأ (عَلَيْهِمُو، وَمِنْهُمُو) بِالصِّلَةِ، وهذا يقرأ (خَبِيرًا وَبَصِيرًا) بالترقيق، والآخَرُ يقرأ (الصَّلَاةَ، وَالطَّلَاقُ) بالتفخيم إِلى غير ذلك([7]).
الوجه الثاني : الانشغال عن التدبر والخشوع الذي هو مقصود الصلاة.
القراءة بما عهد الناس تعين الإمام والمأموم أن يصلي كل منهما بقلب حاضر خاشع مقبل على الله تعالى. وهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، لذلك أمر الله به وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن، قال تعالى ( {أفلا يتدبرون القرآن} ) (النساء: 82)، وقال تعالى ( {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ) (ص: 29)، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
الوجه الثالث : ربما يؤدي بالبعض إلى الشك في صحة هذه القراءة.
ومما يحكى في هذا الصدد أن العلامة محمد الأمين الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ) صاحب تفسير: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) ، عندما كان في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، دخل إلى المسجد الكبير في وسط الرياض ، فتأخر الإمام فتقدم الشيخ الأمين لإمامة الناس - وكانت صلاة جهرية - فنسي الشيخ أنه في الرياض، وقرأ بقراءة نافع المدني.
فساء ذلك بعض المأمومين ممن لا يعرفون نافعاً ولا الشيخ الشنقيطي. وإنما يعرفون أن آية سورة الفاتحة {مالك يوم الدين} وليس {مَلِك يوم الدين} !
فلما سلم الشيخ من الصلاة ، التفت إلى الناس وشرع في التسبيح والتهليل بعد الصلاة. فجاءه أحد كبار السن ممن ساءهم ما سمعوه منه، وعَدُّوه زلة لا تغتفر، وعبثاً بالقرآن لا يسعهم السكوت عنه، فخاطب الشيخ وهو غاضب قائلا : ما هذه القراءة التي سمعتك تقرأها في الصلاة ؟
فقال الشيخ الشنقيطي : هذه قراءة نافع.
فقال الرجل - سامحه الله - بلهجته :(الله لا ينفعك أنت وإياه)! ثم تركه وذهب.
فأدرك الشيخ أنه قد فات عليه أنه يصلي بأناس لم يألفوا هذه القراءة ، وكان درساً للشيخ يذكره دائماً لطلابه.
الوجه الرابع : من الفقه أن يجتنب الإمام التصرّفات التي يترتب عليها مفسدة وإن كان محقّاً فيها.
بوب الامام النووي في كتابه النافع الأذكار (بابُ ما يقولُه الرجلُ المُقتدى به) ثم قال: اعلم أنه يُستحبُّ للعالم والمعلّم والقاضي والمفتي والشيخ المربّي وغيرهم ممّن يقتدى به ويؤخذ عنه: أن يجتنب الأفعالَ والأقوالَ والتصرّفات التي ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقّاً فيها، لأنه إذا فعلَ ذلك ترتَّبَ عليه مفاسد، من جملتها:
- توهم كثير ممّن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً وأمراً معمولاً به أبداً.
- ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه، وإطلاق ألسنتهم بذلك.
- ومنها أن الناس يُسيئون الظنّ به فينفرون عنه، ويُنَفِّرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتَسقط رواياته وشهادته، ويبطلُ العمل بفتواه، ويذهبُ ركون النفوس إلى ما يقولُه من العلوم.
وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها؟([8]).
وكلام الإمام النووي يَنُمُّ عن فقه دقيق وعميق، وعليه أدلة كثيرة من الشرع ، لكني سأكتفي بأثرين مشهورين :
الأثر الأول : ذَكَرَه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: باب مَن خَصَّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِما يَعْرِفُونَ، أتُرِيدُونَ أنْ يُكَذَّبَ الله وَرَسُولُهُ؟
ويلفت الإمام المناوي نظرنا إلى نقطة مهمة جدا، فيقول : ومن اشتغل بعمارة أو تجارة أو مهنة فحقه أن يقتصر به من العلم على قدر ما يحتاج إليه مَنْ هو في رتبته من العامة، وأن يملأ نفسه من الرغبة والرهبة الوارد بهما القرآن، ولا يولد له الشُّبَه والشكوك... ([9]).
الأثر الثاني : ذكره مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما أنت بمُحَدِّث قوماً حديثاً لا تَبلُغُه عقُولهم إِلا كان لبعضهم فِتْنة.
ومعنى (لا تبلغه عقولهم) لا تدركه وتصدقه لأنه غير مألوف لها، فيرده البعض ويؤمن به البعض، فيقع الجدال والشقاق بينهم. والفتنة منهي عن إثارتها، فيحرم ما يجلبها
وأختم بقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ. متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المعنى: اقرؤوا القرآن والزموا الائتلاف على ما دل عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة،...... وفي الحديث الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف ([10]).
نسأل الله أن يفقهنا في الدين ويؤتينا الحكمة والبصيرة ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه جواد كريم.
([1]) مجموع الفتاوى (22/ 445).
([2]) الفروع وتصحيح الفروع (2/ 185) ، (2/ 280).
([3]) رواه احمد (21204)، الترمذي (2944)، وابن حبان (739).
([4]) أخرجه مسلم رقم (820) ، وأبو داود رقم (1477) و (1478).
([5]) النشر في القراءات العشر (1/ 23).
([6]) تأويل مشكل القرآن (ص: 32)
([7]) النشر في القراءات العشر (1/ 23).
([8]) الأذكار للنووي (ص: 322).
([9]) فيض القدير (3/ 377).
([10]) فتح الباري لابن حجر (9/ 101).