الصوم مضمار سباق وجنة أخلاق

ارفع همتك أيها المسلم، وكن من أول الناس في فعل الخيرات، وبذل الطاعات؛ لكسب الحسنات، فلا حياة إلا حياة الآخرة..

  • التصنيفات: فقه الصيام -

هل من سباق إلى جنة الرحمن؟! هل من سباق إلى روح وريحان؟! هل من سباق إلى جوار المصطفى العدنان؟! إنها مراتع الإيمان، وموائد القرآن في شهر رمضان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

 

 

يقول الحسن البصري: "إن الله جعل شهر رمضان لعباده مضمارَ سباقٍ، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخسروا، فعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون".

 

 

إنه سباق إلى الحق، سباق إلى الله، سباق إلى رحمته تعالى وجنته.

 

 

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21].

 

إنه تنافس في الخيرات، وإقبال على الطاعات، وتعظيم الحرمات، وتجميع للحسنات: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

 

 

قال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11]، ثم قال: "أولهم رواحًا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله".

 

غدًا توفى النفوس ما كسبــت   ***   ويحصد الزراع ما زرعـــــــوا 

فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهـم   ***   وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا 

 

 

لا تسئ لروحك في هذا الشهر الكريم؛ فهو شهر شرُع فيه الصوم، شرع رباني، وامتحان إيماني، وعمل إنساني، تنشرح فيه الصدور، وتزكو فيه النفوس، وتطمئن فيه القلوب، وتتطهر فيه الضمائر، ويقترب الناس من رب الناس، فيفرح المؤمن في رمضان، ويمرح في الإيمان، ويتوج بتاج القرآن، فاجعل لنفسك مضمار سباق في هذا الشهر الكريم؛ لتصل أعلى الجِنان.

 

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير»؛ (مسلم)؛ قال النووي: قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رقيقة طاهرة مؤمنة، أقوام يطيرون إلى الخير طيرًا، لا توقفهم شدة، ولا يحجبهم خَطب، ولا يمنعهم كلل ولا ملل.

 

 

عندما يتحدث الله عن السعي إلى الرزق، وأكل العيش والعمل في الدنيا؛ يقول: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

 

ولما يتحدث الله عن المغفرة والجنة والآخرة، قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

 

أما إذا كان الأمر مع الله وفي الله ولله؛ فيقول تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].

 

تجد المشي والتؤدة في عمل الدنيا، والمسارعة في عمل الآخرة، والفرار إلى الله؛ فهو الأمن والأمان، وهو تعالى القاهر الغالب، القوي المتين، الخالق الرازق، المحي المميت، المعز المذل، المانع المانح.

 

فإياكم أن تضيعوا حياتكم وأوقاتكم فيما لا يفيد في شهر الطاعات والقربات، إياكم والأفلام والمسلسلات التي تقتل الأوقات، وتغضب رب الأرض والسماوات، لا تضلوا الطريق إلى جنة عرضها السماوات والأرض، بل صححوا الطريق بالعمل لله، والإخلاص لله وحده، لا لأحد سواه.

 

 

إن كثيرًا ممن غفلوا عن ربهم، وأبعدوا قلوبهم واشتغلوا بحياتهم الدنيا، جاءهم الموت، فرأوا كم قصروا وتخلفوا عن ركب السابقين! إن القلوب هي مناط العمل، ومحل النظر، ومأوى الإيمان، ومنبع الإحسان، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، واهتمامنا بقلوبنا سيصلح دنيانا وآخرتنا، وسيصلح أعمالنا ونياتنا، وأهدافنا ورجاءنا، إنها الحياة النقية، الشفافة الهادئة، الرقراقة الصادقة الكريمة؛ حياة القلوب، ففيها العبودية لله الواحد الأحد، وفيها الرغبة في الجنة والفرار من غضب الجبار؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].

 

 

وكما أن بين الناس في الطاعات الظاهرة، والأخلاق الباطنة المحمودة تفاوتًا ظاهرًا، فكذلك فيما يجازون به تفاوت ظاهر، فإن كنتَ تطلب أعلى الدرجات، فاجتهد ألَّا يسبقك أحد بطاعة الله تعالى.

 

 

كيف كان سباق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى الله، وتنافسهم على طاعته، ورغبتهم في جنته؟! لعل في ذلك شحذَ هممنا، حتى نلحق بركبهم ما استطعنا، أو نشم غبار خيولهم، ونشاهد مواطئ أقدامهم.

 

 

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقتُه يومًا! فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك» ؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك» ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا)).

 

هذا من أجل الآخرة والفوز بالجنة، أما الذين يصارعون من أجل الدنيا، ويسارعون من أجل حطامها، فقد قيل لأبي هريرة: ‏يا أبا هُريرة، أتبكي على الدنيا؟ فقال: لا والله، دُنياكم هذهِ لا تُبكيني، إنَّما أبكي من ثِقَلِ الحِمْل، وسوء الرفيق، ومن قلةِ الزاد، وبعد الطريق... أبكي خوفًا من أسقُط يوم القيامة من على الصراط ولا أدخل الجنة، وددت لم أُخلق.

 

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفًا تضيء وجوههم إضاءة القمر، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نَمِرة عليه، قال: ادعُ الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك عكاشة».

 

 

فارفع همتك أيها المسلم، وكن من أول الناس في فعل الخيرات، وبذل الطاعات؛ لكسب الحسنات، فلا حياة إلا حياة الآخرة: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، ولا نعيم إلا نعيم الجنة، فسابق إلى ربك، وسارع إليه، وشمر ولا تتخلف، واتعب ساعة في الدنيا خير من عذاب الأبد في الآخرة.

 

سارعوا وسابقوا بالخير في مضمار رمضان، وتخلقوا بالأخلاق الحسنة، والقيم العالية، والآداب الرفيعة، في مواسم الطاعات، وأسواق الحسنات، تنالوا الخير الوفير، والجزاء الكثير.

 

احفظوا - أيها المسلمون - صومكم من غِيبة، واحفظوا صدقاتكم من منة، واحفظوا صلاتكم من عيبة، واجعلوا لربكم في كل أوقاتكم هيبة، ولا تلقوا بأنفسكم في خيبة بعد خيبة.

 

 

أبواب الخير مفتحة في شهر رمضان على مصرعها، والمنادي ينادي: يا باغي الخير، أقبل، أقبل على الإنفاق، أقبل على المعروف، أقبل على القرآن، أقبل على صلة الأرحام، وبر الأيتام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، أقبل على الإحسان وتلاوة القرآن، أقبل على عموم الذكر في رمضان.

 

قال ابن القيم رحمه الله في فوائد الذكر: "إن عُمَّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرين هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار، وانكشف، رآهم الناس، وقد حازوا قصب السبق"، قال الوليد بن مسلم: قال محمد بن عجلان: سمعت عمرو مولى غفرة يقول: "إذا انكشف الغطاء للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم، لم يروا عملًا أفضل ثوابًا من الذكر، فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون: ما كان شيء أيسر علينا من الذكر"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيروا... سبق المفردون، قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات».

 

 

اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.