البيع والشراء أثناء صلاة الجمعة
- التصنيفات: الفقه وأصوله - مناسبات دورية -
قوله: ولا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، ويصح النكاح وسائر العقود[1].
قال في «المقنع»: «ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها، ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين[2]»[3].
قال في «الحاشية»: «قوله: ويصح النكاح وسائر العقود... إلى آخره؛ لأن النَّهيَ مختص بالبيع وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي؛ لقِلَّة وجوده»[4].
وقال في «الإفصاح»: «واتقوا على كراهية البيع في وقت النداء يوم الجمعة[5]؛ لقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
ثم اختلفوا في المنع منه:
فقال مالك[6] وأحمد[7]: البيع باطل.
ولم يمنع صحته الآخران[8].
وهذا النداء هو الأذان الثاني عند صعود الخطيب، فإن الأذان الأول فإنما زاده عثمان رضي الله عنه»[9].
وقال ابن رشد: «وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع وهي أسباب الفساد العامة، وُجِدَتْ أربعةً:
أحدها: تحريم عين المبيع.
والثاني: الربا.
والثالث: الغرر.
والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين أو لمجموعهما.
وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلَّق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع، لا لأمرٍ من خارج.
وأما التي ورد النهيُ فيها لأسباب من خارج:
فمنها الغِش.
ومنها الضَّرر.
ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه.
ومنها لأنها محرمة البيع»[10]....
إلى أن قال: «الباب السادس في النهي من قبل وقت العبادات، وذلك إنما ورد في الشرح في وقت وجوب المشي إلى الجمعة فقط؛ لقوله تعالى: {آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهذا أمر مُجمَع عليه فيما أحسب[11]، أعني: منع البيع عند الأذان الذي يكون بعد الزوال والإمام على المنبر.
واختلفوا في حُكمه إذا وقع: هل يفسخ أو لا يفسخ؟ فإن فُسخ فعلى من يفسخ؟ وهل يلحق سائر العقود في هذا المعنى بالبيع أم لا يلحق؟
فالمشهور عن مالك[12]: أنه يفسخ.
وقد قيل: لا يفسخ، وهذا مذهب الشافعي[13] وأبي حنيفة[14].
وسبب الخلاف – كما قلنا غير ما مرَّة -: هل النهي الوارد لسبب من خارج يقتضي فساد المنهي عنه، أو لا يقتضيه؟
وأما على من يفسخ:
فعند مالك[15] على مَن تجب عليه الجمعة، لا على مَن لا تجب عليه.
وأما أهل الظاهر[16]فتقتضي أصولهم أن يفسخ على كل بائع.
وأما سائر العقود فيحتمل أن تلحق بالبيوع؛ لأن فيها المعنى الذي في البيع من الشغل به عن السعي إلى الجمعة، ويحتمل ألّا يلحق به؛ لأنها تقع في هذا الوقت نادراً بخلاف البيوع.
وأما سائر الصلوات فيمكن أن تلحق بالجمعة على جهة الندب لمرتقب الوقت، فإذا فات فعلى جهة الحظر، وإن كان لم يقل به أحد في مبلغ علمي؛ ولذلك مدح الله تَاركِي البيوع لمكان الصلاة، فقال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37]»[17].
قال الشيخ ابن سعدي:
«القاعدة السادسة والسابعة: إذا تضمَّن العقد ترك واجب، أو انتهاك محرم، فغنه حرام غير صحيح.
[وقد جلت النصوص الشرعية على هذين الأمرين في عدة مواضع، فمن ذلك:
البيع والشراء بعد نداء الجمعة.
وكذلك إذا ضاق وقت المكتوبة، أو خاف فَوْت الجماعة.
وكذلك المعاملة التي تفوت الإنسان، وتشغله عما أوجب الله عليه من الحقوق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
وهذا إنما في الإشغال عن الواجبات؛ لأنه نهى عنه، ثم رتَّب عليه الخسارة.
ومن ذلك: أن يبيع العنب والعصير ممن يتخذه خمراً، أو البيض والجوز لأهل القمار، أو السلاح في الفتنة وعلى أهل الحرب، وقطاع الطريق، وبيع الرقيق المسلم للكافر إذا لم يعتق عليه.
ومما يدخل في هذه القاعدة: العقد على عقد المسلم من بيع وشراء وإجارة ومُسَاقَاة ومزارعة ومشاركة]، وخطبة نكاح، وخطبة الوظائف والولايات، كمَن هو في وظيفة أذان، أو إمامة، أو وقف، أو وكالة، أو ولاية كبيرة، أو صغيرة، فلا يحل لأحد أن يخطبها لنفسه أو غيره، وصاحبها أَهْلٌ قائم بولايته ووظيفته؛ لما في ذلك من إدخال الضرر على أخيه، وحصول العداوة والبغضاء.
فإذا تحرَّرت هذه القواعد مع ما تبعها من الضوابط واستثنيتها من ذلك الأصل العظيم حصل لك في هذه المواضع المهمَّة من العلم ما تهتدي به إلى هذه المسائل والصور المذكورة وما كان في معناها مما تدعو إليه الضرورة والحاجة.
لأنه إذا ذكرت أصول المسائل ومأخذها، ومقاصد الشرع وبيان حكمها وأسرارها تقررت في الأذهان، وصار هذا العلم على هذا الوجه أكمل بكثير من تعلم مجرد صور المسائل وأفرادها دون حكمها ومآخذها، فإن هذا النوع قليل الثبوت في الذهن لا يكسب صاحبه تمرناً على المباحث العلمية والتفريعات النافعة، ولا يهتدي إلى الفرق بين المسائل المتفرقة أحكامها، ولا إلى الجمع بين المسائل المجتمعة أحكامها في أصل وعلةٍ، واتضح لك فائدة هذا الأصل وسعته، وأن الأصل في المعاملات كلها الإباحة والتوسعة والسهولة إلا ما ضر الناس في أديانهم أو أخلاقهم أو دنياهم، وبالله التوفيق»[18].
وقال البخاري: «باب: التجارة في البَزِّ وغيره. وقوله عز وجل: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].
وقال قتادة: كان القوم يتبايعون ويَتَّجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تُلههم تجارة ولا بيع عن ذِكر الله حتى يؤدوه إلى الله.
وذكر حديث البراء وزيد بن أرقم: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّرْف، فقال: «إن كان يداً بيد فلا بأس، وإن كان نسيئة فلا يصلح» [19].
قال الحافظ: «قوله: وقوله عز وجل: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: وتفسير ذلك، وقد روى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن المعنى: لا تلهيهم عن الصلاة المكتوبة[20].
قوله: وقال قتادة: كان القوم يتبايعون... إلى آخره، لم أقف عليه موصولاً عنه، وقد وقع علي من كلام ابن عمر، أخرجه عبدالرزاق عنه: أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت، فذكر الآية[21]، وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود نحوه.
وفي «الحلية» عن سفيان الثوري: كانوا يتبايعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في الجماعة[22]» [23].
وقال البخاري: «باب: المشي إلى الجمعة. وقول الله جل ذكره: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه: يحرم البيع حينئذٍ.
وقال عطاء: تحرم الصناعات كلها، وقال إبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري: إذا أذَّن المؤذنُ يومَ الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد.
حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثنا يزيد بن أبي مريم، قال: حدثنا عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبسٍ وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار[24].
وذكر أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [25]».
قال الحافظ: «قوله: باب: المشي إلى الجمعة. وقول الله جل ذكره: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19].
قال ابن المنيِّر في «الحاشية»: لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع دلَّ على أن المراد بالسعي: العمل الذي هو الطاعة؛ لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا كالبيع والصناعة، والحاصل: أن المأمور به سعي الآخرة، والمنهي عنه سعي الدنيا»[26].
وفي «الموطأ»: «عن مالك: أنه سأل ابن شهاب عن هذه الآية، فقال: كان عمر يقرؤها: إذا نودي للصلاة... فامضوا» وكأن فسَّر السعي بالذهاب.
قال مالك: وإنما السعي العمل، لقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8].
قال مالك: وليس السعي الاشتداد[27].
قال الحافظ: «أورد المصنف في الباب حديث: لا تأتوها وأنتم تسعون إشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث.
والحُجَّة في ذلك: أن السعي في الآية فُسِّر بالمُضي، والسعي في الحديث فُسِّر بالعَدْو.
قوله: وقال ابن عباس: يحرم البيع حينئذٍ، أي: إذا نودي بالصلاة، وهذا الأثر ذكره ابن حزم من طريق عكرمة، عن ابن عباس بلفظ: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين يُنادى للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشْتَرِ وبعْ[28].
ورواه ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس مرفوعاً[29].
وإلى القول بالتحريم ذهب الجمهور[30]، وابتداؤه عندهم من حين الأذان بين يدي الإمام؛ لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأذان الذي عند الزوال فيجوز عندهم البيع فيه مع الكراهة.
وعن الحنفية[31]: يُكره مطلقاً، ولا يحرم.
وهل يصح البيع مع القول بالتحريم؟
قولان مبنيان على أن النهي يقتضي الفساد مطلقاً أوْ لا.
قوله: وقال عطاء: تحريم الصناعات كلها، وَصَله عبدبن حميد في «تفسيره» بلفظ: إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرُّقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتاباً[32].
وبهذا قال الجمهور أيضاً[33]»[34].
[1] الروض المربع ص240.
[2] شرح منتهى الإرادات 3/ 157، وكشاف القناع 7/ 372.
[3] المقنع 2/ 20.
[4] حاشية المقنع 2/ 20. وانظر: الشرح الكبير 11/ 164 – 167.
[5] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106. والشرح الصغير 2/ 36، وحاشية الدسوقي 1/ 386. وتحفة المحتاج 4/ 309، ونهاية المحتاج 3/ 463. وشرح منتهى الإرادات 3/ 155، وكشاف القناع 7/ 370.
[6] الشرح الصغير 2/ 36، وحاشية الدسوقي 1/ 386.
[7] شرح منتهى الإرادات 3/ 155، وكشاف القناع 7/ 370.
[8] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106. وتحفة المحتاج 4/ 308 – 309، ونهاية المحتاج 3/ 463.
[9] الإفصاح 2/ 48.
[10] بداية المجتهد 2/ 116.
[11] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106. والشرح الصغير 2/ 36، وحاشية الدسوقي 1/ 386. وتحفة المحتاج 4/ 309، ونهاية المحتاج 3/ 463. وشرح منتهى الإرادات 3/ 155، وكشاف القناع 7/ 370.
[12] الشرح الصغير 1/ 183، وحاشية الدسوقي 1/ 388.
[13] تحفة المحتاج 4/ 308و 309، ونهاية المحتاج 3/ 463.
[14] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106.
[15] الشرح الصغير 1/ 183، وحاشية الدسوقي 1/ 388.
[16] المحلى 9/ 26.
[17] بداية المجتهد 2/ 157.
[18] الإرشاد ص500 -501.
[19] البخاري 2060و 2061.
[20] رواه الطبري في تفسيره 18/ 147.
[21] تفسير عبدالرزاق 2/ 51 2051.
[22] حلية الأولياء 7/ 15.
[23] فتح الباري 4/ 297.
[24] البخاري 907.
[25] البخاري 907.
[26] فتح الباري 2/ 390.
[27] الموطأ 1/ 106.
[28] المحلى 5/ 81و 9/ 27.
[29] انظر: الدر المنثور 6/ 329.
[30] الشرح الصغير 2/ 36، وحاشية الدسوقي 1/ 386. وتحفة المحتاج 4/ 309، ونهاية المحتاج 3/ 463. وشرح منتهى الإرادات 3/ 155، وكشاف القناع 7/ 370.
[31] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106.
[32] انظر: الدر المنثور 6/ 330.
[33] فتح القدير 5/ 240، وحاشية ابن عابدين 5/ 106. والشرح الصغير 2/ 36، وحاشية الدسوقي 1/ 386. وتحفة المحتاج 4/ 309، ونهاية المحتاج 3/ 463. وشرح منتهى الإرادات 3/ 155 - 157، وكشاف القناع 7/ 370و 371.
[34] فتح الباري 2/ 390 - 391.
_____________________________________________
الكاتب:الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك