عصر "الإيمان الفردي"

منذ عهد قريب كان الإيمان "جماعيًّا" بمعنى أنك تجد المجتمع من حولك يُشجِّعك على الإيمان وعلى الطرق الموصلة إليه، اليوم قد عدنا إلى "الإيمان الفردي" الأول الذي كان عليه الأوائل..

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة - مجتمع وإصلاح -

منذ عهد قريب كان الإيمان "جماعيًّا" بمعنى أنك تجد المجتمع من حولك يُشجِّعك على الإيمان وعلى الطرق الموصلة إليه، فتجد إعلانات عن "أسابيع دعوية"، أو "مسابقات قرآنية"، أو "دورات شرعية"..

 

فإذا لم تصادف أحد تلك الإعلانات، رأيتَ زحامًا حول مسجد ما فسألتَ عنه، فعلمتَ أن هناك "ندوة علمية" لداعية مشهور ربما..

 

فإذا لم ترَ هذا ولا ذاك، ودخلت المسجد لتصلي فروضك اليومية، وجدت الإمام الراتب يجلس شارحًا درسًا فقهيًّا، أو مجيبًا عن أسئلة المستفتين، أو واعظًا لتزكية النفوس.

 

ولو انطلقت خارجًا وأخذتك الدنيا وزينتها، ومرت بك الأيام، لتتفاجأ بدخول رمضان، وجدت الناس "أغلبهم" يتجهَّزون للشهر الكريم بترتيب أي مسجد سيصلُّون فيه، ووجدت البعض يتساءل عن الشيخ "فلان" أين سيُصلِّي بالناس هذا العام، ووجدتَ بعض زملائك في العمل يتجهَّز للتقديم على إجازة في العشر الأواخر حتى يتسنَّى له "الاعتكاف"، وآخرين يمكثون في المساجد بين الفجر والشروق، وبين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر يقرأون القرآن فُرادى وجماعات... إلخ.

 

فإذا انتهى الشهر الفضيل وجدت في الصباح زحامًا في عدد كبير من الساحات العامة، وشبابًا يرتدون الملابس البيضاء، يُسارعون الخُطى نحو الساحات والمساجد لصلاة العيد.

 

وفي الليل تسمع تكبيرات العيد في مكبرات الصوت، وتسمع في غير العيد أصوات الصلاة أو الأذان والإقامة أو القرآن والذكر قبل الأذان.. أو موعظة تُذكِّر الناس بدين الله.

 

هكذا كان الحال دائمًا، فكنت تجد المجتمع كله من حولك يخاطبك دائمًا، ويدفعك دفعًا نحو الالتزام أو ذكر الله، فتشعر بمكانة الصيام في النفوس، وترى بركة الصلاة في الحياة، ويراودك أنين المخبتين في الليل، ويتردَّد صدى القرآن في أذنيك، فلا تجد نفسُك بدًّا من الانطلاق نحو بيت من بيوت الله، لتُحيي روحك من جديد بعد أن ماتَتْ، وتوقظ نفسَك بعد أن غفلت، وتُنظِّف قلبك من القذر، وتُطهِّر جسدك من الخبث.

 

كان الإيمان وقتها "إيمانًا جماعيًّا"، كان المجتمع كله أو أكثره أو حتى "ظاهره" يعبد الله، ويُعينك على عبادة الله إذا تكاسلت، ويُذكِّرك بالله إذا نسيت، ويطرق باب قلبك إذا أغلقَتْه الدنيا، فيعود الخير إليك، وتدخل الطهارة إلى قلبك بقوة المجتمع بعد أن خرجت بقوة النفس، وتعود إليك ذكريات ملاعب صباك حول المساجد، وتجد في الجسد نشاطًا يدفع الكسل ويزاحم الغير في نشاطه.

 

ثم انقلب الحال، وتغيَّر المآل، وتبدَّل الوضع، فأُغلقت الدور، وأُوصدت المساجد بسبب "الكورونا" تارة، ولأسباب أخرى غيرها.. وفجأة وجدت نفسك وحدك في الدنيا، تتيه كما تاه بنو إسرائيل في الصحراء، وتبحث في صحراء نفسك عن واحة خضراء، أو بئر للسقاء، أو دليلٍ للاهتداء؛ فما تجد غير نفسك وحيدًا في صحراء الدنيا القاحلة، وما رأيت غير سراب موهم، وما وجدت غير بئر مُعَطَّلة، وما عثرت على غير علاماتِ مُضلِّلة.

 

فإن ظللت تلهث وراء السراب وتسعى خلف الوهم؛ لهَلكت وهلك من معك، إن كان معك أحد.

 

هنا يجب أن تتوقف لتغيير نظام سفرك في الحياة، لتتحوَّل إلى النظام "الفردي" وتسعى لإنقاذ "نفسك ومَنْ تعول" حقًّا، وإن استطعت أن تنقذ غيرك فلتفعل.

 

اليوم تتحوَّل أنت إلى واعظ نفسك، ومؤدِّبها، ومهذِّبها؛ لا بد أن تسعى لإحياء ضميرك، وشعورك بالفردية، فأنت إن تركت نفسك وهواها أهلكتك، وكنت أنت شريكًا في هلاك مجتمعك.

 

اليوم قد عدنا إلى "الإيمان الفردي" الأول الذي كان عليه الأوائل.. اليوم قد صار كل بيت جزيرة وحده، فافعل ما ينفعك أنت وأهلك.. {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].

__________________________________________________________
الكاتب: محمد نصر ليله