من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (2)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الأمة اللُّوطية...جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم, لا من تأخر عنهم ولا من تقدم, وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمعُتبرين, وموعظة للمتقين.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
بسم الله الرحمن الرحيم
من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (2)
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد
" بدائع الفوائد "
- فضول الطعام والكلام والنظر تولد أكثر المعاصي:
فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشَّرِّ, فإنه يُحركُ الجوارح إلى المعاصي, ويثقلها عن الطاعات, وحسبك بهذين شراً!! فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام, وكم من طاعة حال دونها, فمن وقي شر بطنه فقد وقي شراً عظيماً.
وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر, وهما أوسع مداخل الشيطان, فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان,...فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام, فجنايتهما مُتسعةُ الأطراف, كثيرة الشعب, عظيمة الآفات.
- زوال النعم بالمعاصي:
هل زالت عن أحدِ قطُّ نعمة إلا بشؤم معصيته, فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغيرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11]
ومن تأمل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم, وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب, كما قيل: إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تُزيلُ النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحطبِ اليابس....ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
" إغاثة اللهفان في مصايد الشطان "
بُلي الحبيب بالذنب, فاعترف وتاب وندم, وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة, وهو التوحيد والاستغفار, فأُزيل عنه العيب, وغُفر له الذنب, فقُبل منه المتاب, وفُتح له من الرحمة والهداية كل باب, ونحن الأبناء, ومن أشبه أباه فما ظلم.
من كانت شيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدى لأحسن الشيم.
يا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس, وشهوة عاجلة, ذهبت لذتها, وبقيت تبعتها, وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها, فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة, وزالت المسرة وبقيت الحسرة.
" الكلام على مسألة السماع "
- لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ } [الرعد:11] فدلالة لفظها أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته, كما قال في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الأنفال:53] وإشارتها أنه إذا عاقب قوماً وابتلاهم, لم يغير ما بهم من العقوبة والبلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة كما قال العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما نزل بلاء إلا بذنب, ولا رُفع إلا بتوبة)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» فإذا منع الكلب والصورة دخول الملك البيت, فكيف تدخل معرفة الرب ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها.
فهذه إشارات صحيحة, وهي من جنس مقاييس الفقهاء, بل أصح من كثير منها.
" روضة المحبين ونزهة المشتاقين "
- من صبر عن الحرام أعقبه الله في الدنيا المسرة:
قد جرت سنة الله تعالى في خلقه: أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام, أعقبه الله ذلك في الدنيا المسرة التامة, وإن هلك فالفوز العظيم, والله تعالى لا يضيع ما يتحمل عبدها من لأجله.
- كل لذة منعت لذة أكمل منها فليست بلذة في الحقيقة:
كل لذةٍ أعقبت ألماً أو منعت لذةً أكمل منها فليست بلذةٍ في الحقيقة, وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها فأيُّ لذة لآكل طعامٍ شهيٍّ مسموم يُقطِّع أمعاءه عن قرب.
- عذاب الزناة في البرزخ:
فأما سبيل الزنى, فأسوأُ سبيل, ومقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل, ومستقر أرواحهم في البرزح في تنور من نار يأتيهم لهيبها من تحتهم, فإذا أتاهم اللهب, ضجوا, وارتفعوا, ثم يعودون إلى موضعهم, فهم هكذا إلى يوم القيامة, كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه, ورؤيا الأنبياء وحي لا شكَّ فيه.
- الزنا يجمع خلال الشر كلها:
والزنى يجمع خلال الشر كلها, من: قلة الدين, وذهاب الورع, وفساد المروءة, وقلة الغيرة, فلا تجد زانياً معه ورع, ولا وفاء بعهدٍ, ولا صدق في الحديث, ولا محافظة على صديق, ولا غيرة تامة على أهله, فالغدر, والكذب, والخيانة, وقلة الحياء, وعدم المراقبة, وعدم الأنفة للحرم, وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة, ولا يأمنه أحد على حرمته, ولا على ولده.
ومنها: سواد الوجه, وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين
ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني, وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه, فالعفيف على وجهه حلاوة, وفي قلبه أنس, ومن جالسه استنأنس به, والزاني تعلو وجهه الوحشة, ومن جالسه استوحش به.
ومنها: ظلمة القلب, وطمس نوره.ومنها: الفقر اللازم.
ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف, ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة.
ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه, وغيرهم له, وهو أحقر شيء في نفوسهم, وعيونهم, بخلاف العفيف, فإنه يرزق المهابة, والحلاوة.
ومنها: ضيق الصدر وحرجه, فإن الزناة يُقابلون بضد مقصودهم, فإن من طلب لذة العيش وطِيبه بما حرمه الله عليه, عاقبه الله بنقيض قصده, فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور, وانشراح الصدر, وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له, دع ربح العاقبة, والفوز بثواب الله وكرامته.
ومنها: الرائحة التي تفوح عليه, يشمها كل ذي قلب سليم, تفوح من فيه وجسده.
ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.
ومنها: أن الزنى يجُرِّئه على قطيعة الرحم, وعقوق الوالدين, وكسب الحرام, وظلم الخلق, وإضاعة أهله وعياله...فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها, ويتولد عنها أنواع أخرُ من المعاصي بعدها...وهي أجلب لشرِّ الدنيا والآخرة, وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.
- عقوبة اللوطية:
الأمة اللُّوطية...جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم, لا من تأخر عنهم ولا من تقدم, وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمعُتبرين, وموعظة للمتقين.
- قتل اللوطي:
والصحابة اتفقوا على قتل اللوطي, وإنما اختلفوا في كيفية قتله,...وعقوبته أغلظ من عقوبة الزاني, لإجماع الصحابة على ذلك, ولغلظ حرمته, وانتشار فساده, ولأن الله سبحانه لم يعاقب أُمّةً ما عاقب اللوطية.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ