قيومية الله عز وجل.. وقوامة الإنسان
أبدأ بوجيز القول في اسمي الله تعالى الحي والقيوم، والتزام قيوميَّته تعالى بحياته، واقتضاء حياته لقيوميته، ثم أفرد بعض الحديث عن علاقة قيومية الله عز وجل بمفهوم القوامة البشرية لفظًا وتعبدًا..
- التصنيفات: - آفاق الشريعة - - ثقافة ومعرفة -
أبدأ بوجيز القول في اسمي الله تعالى الحي والقيوم، والتزام قيوميَّته تعالى بحياته، واقتضاء حياته لقيوميته، ثم أفرد بعض الحديث عن علاقة قيومية الله عز وجل بمفهوم القوامة البشرية لفظًا وتعبدًا، وعن انعكاس النسبة بين اسمي الله الحي والقيوم في النسبة بين القوامة والرجل، وأسأل الله عز وجل التوفيق وحسن البيان.
إن اسمي الله تعالى "الحي القيوم" أكثر ما وردا مقترنين ببعضهما، وذلك لما بينهما من لزوم واقتضاء؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
أولًا: الحي:
هذا الاسم يثبت لله عز وجل حياته الكاملة، وكمال الحياة في أزليتها: بانتفاء أسبقيتها بالعدم، وفي أبديتها: بألا يلحقها فناء، وفي صفتها: بألا يعتريها نقص أو عيب بشتى صوره، فمثلًا: النوم نقص، والنَّصَب نقص، وضعف السمع والبصر والعلم من العيوب، وكله - لزامًا لكمال حياته تعالى - ينتفي عن الله عز وجل، فالله تعالى كامل السمع والبصر والعلم، والله تعالى لا ينام، ولا يؤوده أو يتعبه شيء، وتتكرر صور النقائص في الحياة البشرية وغيرها، فتنتفي عن الله عز وجل، فالنَّصَب، واللغوب، والمرض النفسي، والكآبة، والغرور، والخمول، وكل النقائص والعيوب المتخيلة في الإنسان وغيره لا تليق بالله عز وجل، ولذلك لما كملت حياة أهل الجنة - على ما يليق بهم - انتفى عنهم الموت، فاتسموا بالخلود، وانتفى عنهم النصب واللغوب فجوزوا بالنعيم، وانتفت عنهم نقائص لا تحصى، وحلت محلها كمالات لا يوفيها ثناء.
وبحياته الكاملة سبحانه قد استحق العبادة المطلقة، فلا ند له ولا مثيل في هذا الكمال! {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].
ثانيًا: القيوم:
هذا الاسم يثبت لله عز وجل قيوميته على عباده، وهي على جزأين: أن الله تعالى قائم بنفسه، وأنه مقيم لغيره، وهذا لا يكون بغير حياة كاملة على النحو المفصل أعلاه، فالنائم أو المريض لا يقوم بنفسه فضلًا على أن يقوم بغيره، ولعل هذا سبب اقتران الاسمين ببعضهما في أكثر مواضع القرآن، ومقتضى اتصاف الله تعالى بالقيومية هو غناه التام عن الخلق، وقدرته الكاملة وتدبيره الدائم لهذه المخلوقات، بما فيها من إمداد لهم بصفة الحياة أصلًا، فهو الغني عن الخلق، والخلق لا غنى له عن ربه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33].
وعلى ما سبق، فإن اسم الله تعالى الحي يثبت لله كمال صفاته الذاتية كلها، واسمه القيوم يثبت له كمال صفاته الفعلية كلها، ولا قيام بلا حياة، وحياة بلا قيام حياة ناقصة، وعليه كذلك، فإن الله تعالى استحق بحياته درجة القيومية لا ينازعه فيها غيره، والمخلوقات على أمره قيام.
ثالثًا: القوامة:
إن القوامة مفهوم مقتبس من قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
وهي في لفظها مشتقة من القيام، مادة اسم الله تعالى القيوم، وإن التعبد بأسماء الله عز وجل له صوره على حسب معانيها، فأسماء كالرحيم والبر والمحسن محل العبادة فيها الاقتداء، وأسماء كالعظيم والمتكبر والجبار محل العبادة فيها التنزيه، وكل يحمد الله عز وجل به، واسم الله تعالى القيوم محل العبادة فيه تنزيه مطلق من ناحية - فهو شامل لمعاني القدرة والغنى - والاقتداء من ناحية أخرى، فإن الله تعالى قد سود الإنسان كله على الأرض، ووضع على المؤمن مسؤولية الاستخلاف، وجعل على عاتقيه دعوة ألا إله إلا الله كلمة خفاقة لا يجوز أن تسقط {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وبسط للإنسان بسنته الكونية والشرعية أطر سير الزمان وأشكال آفاق المكان، ثم ينبثق من ذلك المفهوم تفصيلة صغيرة لا تكاد تكون شيئًا أمام هذا التصور المجمل البديع، لكن الله عز وجل جعل لها من الأثر ما قد يعيث في التصور نفسه الفساد طامًّا، وما قد يشكله رقعة وراء رقعة، لبنات حتى يكتمل البناء!
القوامة في منظومة الزواج الإسلامي هي فرع عن هذا التصور المجمل، تبدأ بمبتدئه، وهو معرفة الله عز وجل، وتنتهي بمنتهاه، وهو عبادته سبحانه، وقضية القوامة متعلقة بثلاثة نقاشات معاصرة أضعها في شكل أسئلة، فالأول: لمن تكون، ولِمَ؟ والثاني: ما محل السيادة فيها؟ وما محل المسؤولية؟ والثالث: ما أثرها في سير الحياة الزوجية والإنسانية؟
وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد من تأسيس عقَدي لمنظومة الزواج في الإسلام، وإن التصورات التي تشكلها العقيدة الإسلامية لمنظومة الزواج على أربعة محاور:
1- الغاية من العلاقة: هي في الأصل الإعفاف لطرفيها بداية، وإنتاج الأولاد الذين هم صمام دوام الأمة، والمعنى في ذلك إصلاح النفس الحاضرة، وتأهيل نفوس الخلفاء للصلاح.
2- طبيعة العلاقة: تصل بنا إلى أعلى درجات المودة الصادقة، فالعطاء فيها ليس مطلوبًا على حال دون حال، والأصل فيها هو البذل غير المشروط؛ ابتداءً من الفروض التي جعلها الله على الطرفين، إلى ما لا يتناهى من صور التضحية المستمرة عن طيب خاطر ورغبة، على ألا يطوي أحد الطرفين في نفسه على ثقل أو اكتراث، والزواج يزداد في قراره بازدياد المودة، ولذلك كان الملاذ الوحيد للمتحابين كما صرح نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، واللطف هنا أن الزواج في أمنه وقراره وسَعته يطوي على المودة والمشاركة بكافة صنوفهما المتفرقة، فهو دفء للمتحابين في شتاء مشاعرهم، وحياة لغير ذوي الحب، يبث فيهم مواد المودة والرحمة والإخلاص.
3- الأدوار في العلاقة: موزعة على الطرفين بالشكل الذي يحقق الغاية المذكورة في المحور الأول، على النحو الذي يحافظ على طبيعة العلاقة في المحور الثاني، وجعل الله حدودًا في ذلك وأدوارًا واجبة لكل طرف بما يناسب خلقته، ويتماشى مع فطرته بانسجام، وجعل الله تعالى مساحة بعد للتبادل والتشاور والاختيار، والأصل في التربية أن المرأة أصبر على الأطفال صغارًا، والرجل أقدر على الأبناء كبارًا، وبينهما اختلاط لا ينحسر بكل حال، والأصل في التمويل أن الرجل أقدر على مسؤوليته، وأكثر جلدًا على ضغوطه ومشقاته، ولهذا ارتبطت نفقة الأسرة بمسؤولية الرجل صراحة مكشوفة في القرآن.
4- الولاية: فيها حتمية لأن الأسرة كيان لعدة أفراد، وصلاح أمره لا يكون إلا بالولاية الفردية لأحد الأفراد على بقيَّتهم، ومعلوم أن الرجل أقدر على الإدارة على العموم لقلة قفزاته العاطفية، فيندر أن يتغير من رأي إلى رأي، أو أن يتلون من شعور إلى شعور، إلا أن تواجد سبب منطقي مستحق.
وعلى هذا الأساس، فإن القوامة قد جعلت للرجل دون المرأة لزيادة فيه عنها، وكما استلزمت قيومية الله عز وجل حياة كاملة، فما قوامة الرجل إلا لزيادة في حياته عن حياة المرأة، فالرجل أقوى جسدًا، وأصلب نفسًا، وأحضر ذهنًا على طبيع الحال، وأيُّما نقصت حياته تنقص قوامته، ومتى زادتْ الحياة فيه فالقوامة تزداد. وبطبيعة الحال كذلك، فإن المرأة تتصف بالحياة، فهي قادرة على القيام بنفسها وعلى غيرها، وإن لها من بعض القيام الخاص ما قد يَعجِزُ عنه الرجل لنقص فيه، كالقيام على حاجات الأطفال رضاعة وعطفًا وعناية.
وعلى هذا الأساس، فإن الرجل مسؤول عن قرارات بيته كلها، رأيه كان فيها أو رأي غيره، فهو المسؤول الأول، وغالبًا هو المسؤول الأوحد، وإن الرجل مسؤول على حاجات بيته كلها: حاجات مادية من زاد لعياله، وحاجات نفسية من وداد لصاحبته، وعطف على ولده، وتسوية وتهذيب لشعور رعيته وأحوالهم، وحاجات ربانية من تعريف رعيته بربهم، والأخذ بأياديهم إلى كل خير، وكما أن الله عز وجل لا يظلم، ولا يغفل، ولا ينسى، فإن القائم مطالب على الدوام اقتداءً بألا يظلم، وألا يفرط، وألا يتعمد معاملة بيته بالنسيان، وحتى لا يعامل الولي بالتمرد، جعل الله تعالى لصاحب القوامة نصيبًا من الطاعة فيما لا معصية لله فيه، فإن كانت قيومية الله عز وجل تقتضي خضوعًا تامًّا من مخلوقاته تعبدًا، وإن كان هذا ينعكس في التصور المجمل لقيام الإنسان بدور الخلافة وسلطته على الأرض - كخضوع صنوف الكائنات والموجودات للإنسان - تعبدًا لله، فإن قوامة الرجل تقتضي صورًا من الخضوع القولي والفعلي تعبدًا كذلك لله، فلا يخالف الأمر، ولا يتجاوز النهي، ويؤخذ الإذن من صاحب القوامة في مواضع كثيرة مما يخص شؤون البيت وغيره.
وعلى هذا الأساس، فإن أثر استقامة أمر القوامة هو تحقق الغاية المرجوة من الزواج، فالرجل يجد الزوجة البارة، والمرأة تجد الرجل القويم، والأبناء يجدون البيت الرباني الذي يكبرون فيه على سواء فطري سليم، وهذا أدعى لانسجام الأزواج مع اتصافهم بالحياة، وأرجى لصلاح حياة الأبناء تباعًا، والنتيجة: أمة حية قائمة على كلمة الله، يعرف أفرادها أن أدوارهم من الله ولله، وأن درجتهم في أدوارهم عبادٌ لله، وأن حقيقة حياتهم وقيامهم هي الله.
_________________________________________________________
الكاتب: محسن الشعار