المشروع الشيعي.. كيف تحولت الخرافة إلى واقع؟!

المشروع الإيراني الفارسي الشيعي الإثنى عشري القائم اليوم قام على خرافات وأساطير وأباطيل جرى اختراعها بالأمس وقبل الأمس، لكنها تحولت إلى خرافات مسلحة، وأساطير مدججة، وأباطيل مسنودة بسائر أنواع الترسانات والمعدات..

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -

المشروع الإيراني الفارسي الشيعي الإثنى عشري القائم اليوم قام على خرافات وأساطير وأباطيل جرى اختراعها بالأمس وقبل الأمس، لكنها تحولت إلى خرافات مسلحة، وأساطير مدججة، وأباطيل مسنودة بسائر أنواع الترسانات والمعدات، ويحشد لها المستطاع من الإمكانات، سياسية كانت أو اقتصادية أو إعلامية أو تعليمية أو تقنية، حتى أصبح مشروعًا من مشروعات، وخططًا جاهزة للتنفيذ على خطوات!

كيف تحولت الخرافة الرافضية إلى واقع خطر مثلما تحولت الأساطير اليهودية إلى واقع مدمر؟

إن المشروع الشيعي تأسس أولًا على بُعد عقدي، حاول أن يتقوى ببعد عنصري تاريخي، ليتمدد بعد ذلك في أبعاد سياسية وإستراتيجية وعسكرية واقتصادية وإعلامية وتعليمية.. فما القصة؟ لنتأمل ونراجع أهم تلك الأبعاد:

الأبعاد الاعتقادية للمشروع الشيعي:

 المشروع الشيعي - كما تقدمت الإشارة - قام على أيديولوجيا مذهبية مهدوية خلاصية، تشمل عامة الشيعة وخاصتهم في العالم، وهو يستهدف في غاياته ووسائله أهل السنة في العالم، عامتهم وخاصتهم. وبرغم أن أهل السنة هم الأكثرية المطلقة بالنسبة لطوائف المسلمين لم يكن لهم منذ سقط كيانهم العالمي - الخلافة العثمانية - أية أيديولوجيا من الناحية السياسية الواقعية تجمع أنظمتهم، أو توحد توجه حكوماتهم، بينما نجحت إيران منذ قيام ثورتها في اجتذاب طوائف الشيعة في المجتمعات التي بها وجود شيعي، فذهبت بالانسجام المجتمعي الذي كان موجودًا قبل الثورة الخمينية، واستقطبت إلى جانبها القسم الشيعي في كل قطر تحت قيادة مركزية دينية تضفي على نفسها صفات العصمة، وقيادة أخرى سياسية تريد الظهور باحتكار الحكمة، في حين بقي السنة بلا قيادة جامعة، لا سياسية ولا دينية.

الفارق في تأثير المذهب - المعمول به - في المشروع الشيعي القائم منذ أكثر من ثلاثة عقود وبين تأثير المذهب في المشروع السني الغائب سياسيًّا منذ نحو قرن، هو أن المذهب الشيعي له حماسته ومهماته وخططه، وله منظروه ومنفذوه والقائمون عليه، في حين لم يتبلور للمذهب الاعتقادي السني بعدُ مشروعٌ رشيد سديد تجتمع الأمة حوله؛ والسبب في ذلك أن مشروع اللامذهب واللادين المسمى بـ«العلمانية» قد فرض أصحابه سطوتهم على بلاد السنة لأكثر من عشرة عقود.

المشروع الشيعي الذي انطلق منذ ثلاثة عقود فقط، ملك الأيديولوجيا الجامعة والتخطيط الواضح، مع ترابط بين القيادة والرعية الشيعية وبين المراكز والفروع في البلدان الموجودة فيها، مما وفر إمكانات التطوير والتجييش والتثوير لدى جماهير متحفزة تحمل طموحًا جامحًا لنصرة قضية خرافية أصبحت بالنسبة لهم قضية موت أو حياة.

الشعوب في البلاد السنية المستهدفة بالمشاريع المعادية المتعددة (إيرانية شيعية، وصهيونية يهودية، وغربية أمريكية، وعربية علمانية) لم تعد - في ظل النفوذ العلماني المتقلب - تحمل على مستوى الجماهير أية قضية جادة غير أوهام القوميات الجاهلة والوطنيات الفارغة التي لم تصمد في أوقات الأزمات فمزقتها الفتن كل ممزق.

المشروع الشيعي - كما هو الشأن في المشروع الصهيوني - يُظهر نفسه أمام العالم وهو يحمل شرعية دينية لا تنفصل عن الشرعية السياسية، بل لا قيمة للسياسة بدون الدين لديهم، بينما رفع العلمانيون المتحكمون في رقاب عموم أهل السنة شعار العلمانية البغيض «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة» تحت حراب الغرب وحراسته. والربط بين الدين والسياسة عند الشيعة هو الذي أوجد معنى «الجماعة» عندهم، وقد كان أهل السنة و«الجماعة» أولى بهذا!

الشرعية الدينية في المشروع الشيعي لا تعني شيئًا آخر غير قواعد الاعتقاد الإمامي الإثنى عشري؛ بانحرافاته وخرافاته التي صيغت في أصول قامت على حراستها مؤسسات سياسية وعسكرية وإعلامية وتعليمية، وأبرز تلك الأصول الاعتقادية:

الاعتقاد بوجود اثني عشر إمامًا (معصومًا) لا حق لغيرهم في الإمامة.

هؤلاء منصوص على أسمائهم وأعدادهم في الوحي المزعوم لدى أئمة الشيعة.

هؤلاء الأئمة يملكون الشفاعة.

عموم الشيعة يكفرون مَن تقلد مناصب الإمامة والخلافة غير أئمتهم الاثني عشر، ويعادونهم ويسمونهم «النواصب»، أي أعداء أهل البيت.

كل ما جاء في القرآن من ثناء على غير أهل البيت من الصحابة فهو عند الشيعة إما محرف النص أو منحرف الفهم.

قبور الأئمة وكذلك «الأولياء» من الشيعة مقدسة، وواجب عليهم تعظيمها وتحرير ما وقع منها تحت حكم «النواصب»!

الكذب على «النواصب» عبادة، ويحل فيهم من الأذى ما يحل في الكفار.

وجراء هذه الأصول الاعتقادية تحاول القيادة الدينية والسياسية للمشروع الشيعي الظهور دائمًا بمظهر الثائر على الدوام، فهو مشروع «ثورة وثأر» أو ثورة من أجل الثأر، لذلك فالقيادة الإيرانية وأذرعها تمارس سياسة ثورية، وإعلامًا ثوريًّا، ودعوة ثورية وثأرية. قد يقال: هكذا شأن الثورات، ولكن يبقى السؤال: ثأرٌ لمن وثورةٌ ضد من؟

الجواب المعروف الذي نعلمه ولا ينكرونه هو أنها ثورة ضد أهل السنة ثأرًا لأهل البيت! ولعل هذا هو السبب في أن تكون الثورة الإيرانية هي الثورة الوحيدة التي تحمل وصف «الثورة الإسلامية» ومع ذلك سمح لها بالوجود والاستمرار والتمدد!

من المنطلق الاعتقادي الثوري، عمل القائمون على المشروع الشيعي على إنشاء وتقوية أذرع سياسية وعسكرية في المناطق التي بها وجود شيعي، وجرى تصنيع وتوزيع زعامات دينية سياسية تتولى قيادة تلك الأذرع، بما يجعل كل مشروع فرعي مشروعًا قائمًا بذاته، وداعمًا لمشروع الأصل. وتحقق لإيران من خلال تلك الأذرع انتشار وتمدد لم يكن يخطر على بال أحد، فلم يكد يمضي على الثورة الإيرانية ربع قرن إلا وقد سيطرت من خلال أذرعها - تحت نظر العالم - على أربع عواصم عربية من الإقليم الذي يسمونه «جنوب غرب آسيا»، أو منطقة «الصدع المذهبي»، وهذه العواصم هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وهي تتهيأ منذ سنوات للوثوب على عاصمة عربية أخرى خامسة، وهي المنامة عاصمة البحرين، وربما عواصم!

لقد استطاعت إيران استكمال الجزء الأكبر مما يسمى «الهلال الشيعي» من خلال استعانتها بالأذرع التالية:

الأحزاب والحركات المذهبية في العراق، التي نجحت في النهاية في الهيمنة على الحكم في العراق بعد الغزو الأمريكي.

«حزب الله» في لبنان، الذي فرض وجوده على المشهد السياسي هناك، وأصبح كيانًا موازيًا للدولة سياسيًّا وعسكريًّا.

حركة «الحوثيين» في اليمن، التي تطلق على نفسها اسم «أنصار الله»، والتي استطاعت بسط نفوذها على مفاصل الدولة في شهور قليلة.

الحركات الشيعية المسماة «حزب الله» في دول الخليج، والتي مازالت في طور الكمون، وتتهيأ للظهور عند الإشارة، وقد برز منها مؤخرًا «حزب الله الكويتي».

الأبعاد العنصرية التاريخية:

البعد العنصري في المشروع الإيراني لا يقل خطرًا عن البعد الاعتقادي، فالمشروع الشيعي فارسي الهوية، مجوسي النزعة، فهو كما يقوم على كراهية أهل السنة مذهبيًّا فإنه يعتمد على ازدراء العرب عنصريًّا، وكراهية الفرس للعرب لا تقل عن كراهية اليهود لهم، ومن العبارات المتداولة شعبيًّا عند الإيرانيين الفرس: «العربي في الصحراء يأكل الجراد، بينما كلب أصفهان يشرب الماء البارد»! وعندما يريد الإيراني التعبير عن كراهيته ورفضه لشيء فإنه يقول: «لا أحب كذا، كما لا أحب حليب الناقة ورؤية العرب»!

استعلاء الفرس على العرب له جذور تاريخية، فعندما كان للفرس إمبراطورية، هي الإمبراطورية الكسروية، كانت المناطق العربية المجاورة خاضعة لنفوذهم، ولم يكن للعرب طيلة عهد الفرس كيان مهيب إلا عندما جاء الإسلام، فلم يمضِ على بدء انتشاره ربع قرن حتى أسقط إمبراطورية الفرس المجوس، وأطفأ نارهم التي كانوا يعبدونها ويقدسون استمرار اشتعالها في إيوان كسرى. وعندما دخل الإسلام بلد الفرس كان منهم من دخل فيه صادقًا، وهناك من دخلوا فيه متظاهرين مدعين الخضوع والاستسلام لكن قلوبهم ظلت منطوية على حقد وكراهية ورغبة في الـثأر من العرب ومن الدين الذي فتحوا به بلاد فارس. وعندما نشأ مذهب التشيع في العراق وجد الضالون من الفرس ضالتهم فيه، ولهذا يعد مذهب الرفض من صور النفاق، فهو يقوم على إظهار خلاف الباطن، وهذه حقيقة المذهب الباطنية.

المحاولات الفارسية للفتك بالعرب وهدم كياناتهم السياسية عبر التاريخ الإسلامي كثيرة، ومن ذلك مؤامرات وحركات «أستاذ سيس» سنة 136هـ، و«بابك الخرمي» سنة 202هـ و«الأفشين» سنة 224هـ، و«مرداويخ» سنة 322هـ.

وقد تحولت بعض تلك الحركات إلى دول، مثل دولة «البويهيين» و«الساسانيين» و«الزيديين»، ثم جاءت دولة «الصفويين» التي أسسها إسماعيل الصفوي في إيران سنة 900هـ لتتوج المسعى الفارسي للانتقام من أهل السنة ومن العرب، فقد ناصبت تلك الدولة الصفوية دولة الخلافة العثمانية العداء، من الناحيتين المذهبية والعنصرية معًا، فالفرس يكرهون الترك، والكراهية زادت للأتراك لتزعمهم العالم السني لنحو خمسة قرون، ووقف الصفويون الفرس في صف النصارى الروس والبرتغاليين والهولنديين والإنجليز ضد المسلمين الأتراك العثمانيين، ولما أسقط السنة الأفغان دولة الصفويين عام 1135هـ/1735م عادت الدولة «القاجارية» ذات التوجه الشيعي لتسـتأنف العداوة للدولة العثمانية، حتى سقطت الدولتان بعد الحرب العالمية الأولى، فجاءت الدولة البهلوية الشاهنشاهية (آل بهلوي)، التي ظلت برغم علمانيتها معادية للعرب من ناحية عنصرية أكثر منها مذهبية، إذ لم يكن للانتماء المذهبي السني في تركيا أي أثر سياسي بعد سقوط الدولة العثمانية.

وتعد إيران نفسها بعد الثورة الخمينية الوريث الشرعي لإمبراطورية الفرس، ولذلك فهي تعد دول الخليج امتدادًا لمناطق النفوذ الفارسي الذي لا بد من استرجاعه. وقد برزت في «إيران بعد الثورة» الزعامات السلطوية ذات الأصول الفارسية، فظلت محتفظة بالتوجهات العدائية للعرب ولكيانات أهل السنة. ومع أن أهل السنة هم الأغلبية المذهبية الثانية في إيران لكن لا يوجد سني واحد في المناصب الرئيسية في المؤسسات السيادية، وبرغم وجود نحو مليون سني في العاصمة طهران إلا أنه لا يوجد فيها مسجد سني واحد، بينما تكثر الكنائس ومعابد اليهود والمجوس، بما يدل على أن لليهود والمجوس اعتبار في إيران أعلى من السنة.

شعب إيران ليس كله من الفرس فهم لا يشكلون أكثر من 50% من مجموع عرقيات الشعب الإيراني، الذي يبلغ تعداده 78 مليون نسمة، ومع ذلك يهيمن الفرس على جميع ذلك الشعب الذي يمثل الأتراك فيه 23% والأكراد 11% والعرب 5% إضافة إلى البلوش والتركمانستان الذين يشكلون مع بقية الأعراق 6% من شعب إيران. والعجيب أن غالبية الإيرانيين غير الفرس هم من أهل السنة لكن دولة الخميني تتصرف وكأن الشعب الإيراني كله فارسي وشيعي، وبالروح نفسها تتعامل إيران مع الشعوب المجاورة بمنطق الهيمنة الفارسية الشيعية ولو كانت تلك الشعوب عربية سنية.

لقد كان أهل السنة الغالبية المطلقة في إيران قبل استيلاء الصفويين على السلطة عام 907هــ، حيث أجبر هؤلاء الشيعة أهل السنة على التشيع بالقهر والإرهاب، فقد خيروهم بين التشيع أو القتل، وذكر بعض المؤرخين أن الصفويين قتلوا نحو مليون من أهل السنة ممن أبوا التشيع[1].

البُعد العنصري المقترن بالبُغض المذهبي، هما وحدهما المفسران لمواقف العداء المزمن عبر التاريخ للسنة والعرب.

وقد ورث المشروع الشيعي الراهن تلك الحمولة التاريخية من الضغائن والأحقاد، التي تحدث التاريخ عن عجائبها وغرائبها، ويذكر المؤرخون أن الجيوش العثمانية عندما اقتربت من فيينا قال السفير النمساوي في فرنسا: «ما لكم حل لهذا الطاعون القادم - أي الجيوش العثمانية - إلا الجيش الإيراني».

لقد بلغت كراهيتهم لأهل السنة أن يفضلوا بقاء النصارى على نصرانيتهم حتى لا يدخلوا الإسلام على المذهب السني، حتى قال بعض المستشرقين: «لولا الإيرانيين لكنا نقرأ القرآن في بلجيكا»[2].

تمتد هذه الأحقاد حتى وقتنا الراهن، فعندما هاجمت الحملة الصليبية الأمريكية كلًا من أفغانستان والعراق في أوائل العشرية الأولى من الألفية الثالثة، قال «محمد علي أبطحي» نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية «لولا التعاون الإيراني ما سقطت كابل وبغداد»، وقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط في 1/2/2004م أن «هاشمي رفسنجاني» رئيس ما يسمى «مصلحة تشخيص النظام» في ذلك الوقت، قال: «لولا الجيش الشعبي الإيراني ودوره في دحر طالبان لغرقت أمريكا في مستنقع أفغانستان».

الأبعاد السياسية والإستراتيجية:

لا ينفك المشروع الإيراني في أبعاده السياسية والإستراتيجية عن الأبعاد الاعتقادية والعنصرية السابق ذكرها، فإذا كانت بلدان العرب المجاورة هي مطمع الفرس طوال تاريخهم باعتبارها عمقًا إستراتيجيًّا لهم؛ فإن الفتح العربي لبلاد فارس بعد الإسلام هو الذي أطاح بأكبر كيان سياسي للفرس، وذهب بالعمق الإستراتيجي لذلك الكيان ممثلًا في مناطق العراق والجزيرة العربية وبلاد الشام وخراسان (أفغانستان اليوم).

وكلما أعاد الفرس النظر في فرص العودة لإيجاد كيان سياسي جديد، تطلعت أنظارهم لذلك العمق الإستراتيجي الذي تمثله البلاد العربية السنية المجاورة، خاصة من الناحية الجغرافية التي لها علاقة بطبيعة أي مشروع سياسي له تطلعات إستراتيجية.

وإيران تحتل منطقة جغرافية متكاملة مطلة على منفذين بحريين دوليين، هما: «الخليج العربي» في جنوبها الغربي، و«بحر قزوين» في شمالها الشرقي، ومن خلال إطلالها على هذين المنفذين البحريين، تتطلع إلى التوسع غربًا وشرقًا، لذلك تعد منطقة الخليج على امتداد سواحله حتى بحر العرب جنوبًا والمنطقة المحيطة ببحر قزوين في آسيا الوسطى مجالين رئيسين للنفوذ والتمدد في المشروع الشيعي الإيراني.

وهاتان المنطقان كانتا تاريخيًّا مجالًا لتمدد الفرس، فقبل الإسلام بألف ومئتي عام كان للفرس دولة امتد نفوذها شرقًا وغربًا حول هذين الساحلين، وخاصة في مناطق الوجود العربي الذي توسعت فيه إمبراطورية فارس كثيرًا على حساب العرب.

المشروع الشيعي المعاصر يحاول إعادة التاريخ، ويراوح في خططه بين الإستراتيجيات الخشنة والإستراتيجيات الناعمة، فبينما اعتمد إستراتيجية الحرب الخشنة في الهيمنة على السلطة في العراق بعد الغزو الأمريكي، وكذا حاول إيجاد موطئ قدم في أفغانستان؛ فإنه سارع خطواته الخشنة مؤخرًا للسيطرة على مقدرات الأمور في اليمن، بينما سار في كل من لبنان والبحرين على طريقة إستراتيجية الحروب الناعمة، من خلال تنشئة العناصر القيادية الدينية والسياسية بين قم وطهران، والإكثار من إنشاء الحوزات العلمية المرتبطة بالمؤسسة الدينية الإيرانية، مع التوسع في الأنشطة «الخيرية» الشاملة بغرض تمكين المذهب الشيعي.. كل ذلك تنفيذًا لفكرة «أم القرى» التي تسيطر على العقلية الإيرانية، حتى قبل أن يصوغها «لاريجاني» في صورة نظرية، حيث جعل المنظرون للمشروع الإيراني طهران مركز الأهمية السياسية والإستراتيجية في الوسط الإقليمي المحيط، الذي يطلقون عليه «إقليم جنوب غرب آسيا»، وتعد إيران تلك المنطقة، التي تشمل: العراق والشام والجزيرة العربية وربما سيناء، منطقة مصالح ونفوذ، وعندما يطلق في الإستراتيجية الإيرانية مصطلح «الإقليم» فهم يعنون هذه المنطقة. ويلاحظ أنها المنطقة ذاتها التي سعى المشروع اليهودي الصهيوني ولا يزال يسعى لبسط الهيمنة عليها، وخاصة ما يعرف عندهم بأرض «إسرائيل الكبرى» من النيل للفرات.

ويبدو أن الإيرانيين لم يعودوا محتاجين إلى مبدأ «التقية» للتغطية على أطماعهم في المنطقة العربية أو «إقليم جنوب غرب آسيا» الذي سماه صهاينة اليهود والنصارى «إقليم الشرق الأوسط»؛ فقد أدلى اللواء «محسن رضائي» (القائد السابق للحرس الجمهوري الإيراني، والذي تولى بعد ذلك منصب رئيس مصلحة تشخيص النظام) بتصريح قال فيه: «عندما أتحدث عن الإقليم فهذا يعني جنوب غرب آسيا، وتركيزنا على هذه المنطقة بالتحديد لاعتقادنا أن لها قدرات كبيرة تتجاوز منطقة الشرق الأوسط، والتركيز على هذه المنطقة يوفر لإيران إمكانات كبيرة جدًّا للحفاظ على أمنها القومي»[3].

هذه النظرة لذلك الإقليم ليست جديدة في المشروع الإيراني بل ولدت بميلاده، فقد أدلى أول رئيس للجمهورية الإيرانية بعد ثورة الخميني بتصريحات لقناة الجزيرة في 17 يناير 2000م قال فيها: «كان الإمام الخميني يقول إنه يريد إقامة حزام شيعي يفرض القيادة على العالم الإسلامي، يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعندما تصبح إيران قائدة لهذا الحزام ستستخدم النفط في تلك المنطقة وموقع الخليج الفارسي للسيطرة على بقية العالم الإسلامي»، وهذا ما أطلق عليه بعد ذلك «الهلال الشيعي».

لا شك أن مشروعًا بذلك الطموح التوسعي لا بد أن يستند إلى حائط منيع من القدرات العسكرية، من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، لتغطية السياسات الدفاعية والهجومية. وتصر إيران على أن تكون لها قوة نووية رادعة، تمنع وقوف أي قوة تعارض تمدد مشروعها المستقبلي، وهي تلعب في هذا الموضوع بعامل الوقت، وتستغل التناقضات الدولية للوصول إلى أهدافها، كما برهنت على ذلك وقائع تعاملها مع دول الغرب فيما يتعلق بمشروعها النووي.

وبخلاف تطلعاتها النووية، فإن إيران تقوم بمناورات عسكرية (هجومية) منذ منتصف التسعينيات تبلغ 200 مناورة سنويًّا، وهي لا تخفي هدفها الواضح في ذلك، وهو الهيمنة على منطقة الخليج عندما يحين الوقت، ولديها سيناريوهات متعددة في ذلك، فقد كان هناك سيناريو لغزو البحرين في أواخر التسعينات الميلادية لكن تم تأجيله بعد أن لاحت فرصة للسيطرة على العراق بالتعاون مع أمريكا[4] فرأت إيران أن فرصة الهيمنة على العراق أولًا لا تعوض.

وفي الشهور الأخيرة من عام 2014م، أجرت إيران مناورات عسكرية ضخمة، بحرية وبرية وجوية، في مساحة تقدر بنحو 2,2 مليون كيلومتر مربع، وهي المنطقة الممتدة من مضيق هرمز إلى باب المندب في مدخل البحر الأحمر الجنوبي، وشارك في هذه المناورات 13 ألف جندي إيراني، وكانت عينها على باب المندب وقتها.

إيران بمثل هذه المناورات لا تريد فقط أن تتحول بمشروعها إلى دولة إقليمية كبرى، بل إلى قوة عالمية عظمى تتحكم بمنابع النفط، وممرات الملاحة في ثلاثة من أخطر المضايق الحيوية لاقتصاد العالم، وهي: مضيق هرمز، ومضيق باب المندب الذي يتحكم بدوره في قناة السويس. ومضيق هرمز الواقع تحت السيطرة الإيرانية التامة هو بمفرده يمر عبره 18 مليون برميل نفط يوميًّا، أي أكثر من نصف إنتاج منظمة أوبك.

إيران بهذا تزاحم المشروعين الأمريكي والصهيوني في المنطقة، وتضطرهما إلى مهادنته لتقاسم المصالح معه بالإكراه والإلزام، كما حدث بعد غزو الأمريكيين للعراق عام 2003م، بتخطيط من المحافظين الجدد، عتاة اليهود في العالم.

لقد تحول المشروع الإيراني إلى قلق عالمي منذ عام 2010م بعد أن اكتملت هيمنة إيران على مثلث (العراق - لبنان - سوريا) وهذه الهيمنة التي أصبحت واقعًا بعد تمكن إيران من العراق عام 2005م شكلت الانطلاقة الأكبر لتصدير الثورة الإيرانية بعد ربع قرن من انطلاقها، فراحت إيران تتطلع إلى الاستيلاء على اليمن والسواحل الشرقية للجزيرة العربية، وهو ما جعل المشروع الإيراني ندًّا للمشروع الأمريكي ونظيره الصهيوني. ويظل السؤال: أين المشروع العربي السني وسط صراع المشروعات هذا؟

تظل الأبعاد السياسية والإستراتيجية للمشروع الشيعي مربوطة بالأبعاد الدينية المذهبية، كما ذكرنا آنفًا، ويدل على ذلك دلالة عملية صارخة أن القيادة الدينية تنفرد وحدها بقيادة الحرس الثوري الإيراني، وهو أقوى وأحدث تسلحًا من الجيش النظامي نفسه.

إن المشروع الشيعي بدا في مظهره الأخير مطوقًا جزيرة العرب من أركانها الأربعة، وبدت إيران - لا مكنها الله - على مقربة من المراحل النهائية للوصول إلى أرض الحجاز، خاصة بعد استيلائها على اليمن عن طريق وكلائها «الحوثيين الشيعة».

هذا، وللمشروع الشيعي أبعاد أخرى اقتصادية وإعلامية وثقافية يطول معها الحديث، ولكنها كلها تسير وفق رؤيته المذهبية العدائية للسنة وأهلها، إنه مشروع مشبع بإرث الثارات الدينية المفتراة، ومحمل بحمولة المظلوميات التاريخية المدعاة، في تشابه عجيب مع المشروع الديني الصهيوني المعاصر، المطابق للمشروع التاريخي الديني النصراني، حيث صادفت أطماع الجميع تلك الأراضي بالذات من النيل إلى الفرات وما حولهما شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا من «أرض النبوات والنبوءات» التي تتضاعف اليوم حولها وفي جنباتها وتيرة الصدامات والصراعات بين سائر المشروعات.

ويبقى السؤال: إذا كانت هذه أبعاد المشروع الشيعي.. فالمشروع السني أين.. وإلى أين؟


[1] انظر: «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» تأليف د. علي الموردي (1/43) .

[2] كتاب «إيران في ظل الإسلام في العصور السنية والشيعية».

___________________________________________________
الكاتب: د. عبدالعزيز التركي

[3] دورية «العرب وإيران» عدد 26 لسنة 2011، مقال «مكانة الإقليم في سياسة إيران الخارجية».

[4] انظر كتاب «الحرب القادمة» لكاسبر واينبرجر وزير الدفاع الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان.