من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (6)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب, فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسناً منه ومن معشوقه.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:

                              " الداء والدواء "

كم في الزنى من استحلال محرمات, وفوات حقوق, ووقوع مظالم.

ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر, ويقصر العمر, ويكسو صاحبه سواد الوجه, وثوب المقت بين الناس...ويشتت القلب, ويُمرضه إن لم يمته, ويجلب الهم والحزن والخوف, ويباعد صاحبه من الملك, ويقرب منه الشيطان.

قال الحافظ أبو محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأشبيلي رحمه الله: واعلم أن لسوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – أسباباً, ولها طرق وأبواب, أعظمها: الاكباب على الدنيا, والإعراض عن الأخرى,  والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل, وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة, ونوع من المعصية, وجانب من الإعراض, ونصيب من الجرأة والإقدام, فملك قلبه, وسبي عقله, وأطفأ نوره, وأرسل عليه حجبه, فلم تنفع فيه تذكرة, ولا نجعت فيه موعظة, فربما جاءه الموت على ذلك.

وقال: واعلم أن سوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره, وصلح باطنه, ما سمع بهذا ولا علم به, ولله الحمد, وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة, أو إصرار على الكبائر, وإقدام على العظائم, فربما غلب ذلك عليه, حتى ينزل به الموت قبل التوبة, فيأخذه قبل إصلاح الطوية, ويُصطلم قبل الإنابة, فبظفر به الشيطان عند تلك الصدمة, ويختطفه عند تلك الدهشة, والعياذ بالله.

في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد, ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى, فإنه يفسد فساداً لا يرجي له بعده صلاحاً أبداً, وبذهب خيره كله, وتمُص الأرض ماوية الحياء من وجهه, فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه, وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن.

  • عقوبة اللوطية:

قلب الله سبحانه عليهم ديارهم, فجعل عاليها سافلها, فجعلهم آيةً للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين. أخذهم على غرة وهم نائمون, وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون, فانقلبت تلك اللذات آلاماً فأصبحوا بها يعذبون...ذهبت اللذات, وأعقبت الحسرات, وانقضت الشهوة, وأورثت الشقوة, تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً, رتعوا مرتعاً وخيماً, فأعقبهم عذاباً أليماً, أسكرتهم خمرة تلك الشهوة, فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين, وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين, فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم

  • العشق الداء العضال والسم القاتل:

هذا داء أعيا الأطباء دواؤه, وعزّ عليهم شفاؤه, وهو – لعمر الله – الداء العضال, والسم القاتل, الذي ما عَلِقَ بقلب إلا عزّ على الورى استنفاذه من إساره, ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا صعب على الخلق تخليصها من ناره.

  • العشق الشركي الكفري:

وهو أقسام: فإنه تارة يكون كفراً, كمن اتخذ معشوقه نداً يحبه كما يحبّ الله, فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه, فإنه من أعظم الشرك, والله لا يغفر أن يشرك به, وإنما يُغفر بالتوبة النصوح.

  • علامة العشق الشركي الكفري:

وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدم العاشق رضا معشوقه على رضا ربه, وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحظه وحق ربه وطاعته قدم حقَّ معشوقه على حق ربه, وآثر رضاه على رضاه, وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه, وبذل لربه – إن بذل – أردأ ما عنده, واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والقرب إليه, وجعل لربه – إن أطاعه – الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته.

  • دواء هذا الداء القتّال:

دواء هذا الداء القتّال: أن يعرف ما ابتلي به من الداء المضاد للتوحيد أولاً, ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه, ويكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يراجع بقلبه إليه.

وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه {كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}  [يوسف:34] فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه, فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله, لم يتمكن منه عشق الصور.

  • عشق المردان:

عشق هو مقت من الله, وبعد من رحمته, وهو أضر شيء على العبد في دينه ودنياه, وهو عشق المردان, فما ابتلي به إلا من سقط من عين الله, وطرده من بابه, وأبعد قلبه عنه, وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله, كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان.

  • دواء هذا الداء الدوي:

ودواء هذا الداء الدوي: الاستعانة بمقلب القلوب, وصدق اللجأ إليه, والاشتغال بذكره, والتعوض بحبه وقربه, والتفكر في الألم الذي يُعقِبه هذا العشق, واللذة التي تفوته به, فيترتب عليه فوات أعظم محبوب, وحصول أعظم مكروه, فإن أقدمت نفسه على هذا وآثرته فليكبر عليها تكبيره على الجنائز وليعلم أن البلاء قد أحاط به

  • مقامات العاشق:

العاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء. فأما مقام ابتدائه فالواجب عليه فيه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذراً قدراً أو شرعاً فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه وهذا مقام التوسط والانتهاء فعليه كتمان ذلك وأن لا يفشيه إلى الخلق, ولا يشبب بمحبوبه ويهتكه بين الناس, فيجمع بين الشرك والظلم, فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم.

  • أسباب العشق:

أول أسباب العشق الاستحسان, سواء تولد عن نظر أو سماع, فإن لم يقارنه طمع في الوصال, وقارنه الإياس من ذلك, لم يحدث له العشق, فإن اقترن به الطمع, فصرفه عن فكره, ولم يشتغل قلبه به, لم يحدث له ذلك.

فإن أطال مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق, وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصالة: إما خوف ديني كدخول النار, وغضب الجبار, واحتقاب الأوزار, وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر, لم يحدث له العشق.

فإن فاته هذا الخوف, فقارنه خوف دنيوي, كخوف تلاف نفسه وماله, وذهاب جاه وسقوط مرتبته عند الناس, وسقوطه من عين من يعز عليه, وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه.

وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق, وقدم محبته على محبة المعشوق, اندفع عنه العشق.

  • مفاسد العشق:

ليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها, وإعدام المفاسد وتقليلها ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينيه ولا دنيوية, بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة, وذلك من وجوه:

أحدها: الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تعالى وذكره.

الثاني: عذاب قلبه بمعشوقه, فإن من أحبّ شيئاً غير الله عُذب به, ولابد.

الثالث: أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقة, يسومه الهوان, ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه.

الرابع: أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه, فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور.

الخامس: أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب...فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور, وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية.

السادس: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه, أفسد الذهن, وأحدث الوسواس, وربما التحق بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها...وهل أذهب عقل مجنون ليلي وأضرابه إلا العشق ؟

السابع: أنه ربما أفسد الحواس أو بعضها إما فساداً معنوياً أو صورياً,

أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب, فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسناً منه ومن معشوقه.

                       كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ