من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (7)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم فإذا استيقظ وصحا أحسَّ بالمؤلم
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
" الداء والدواء "
مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر ولا بد, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان, على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي ؟
- من عقوبات الذنوب المعاصي:
حرمان العلم, وحرمان الرزق, ووحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله, ووحشة التي تحصل بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم, وتعسير أموره عليه, ووهن القلب والبدن, وحرمان الطاعة, وتزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً, وينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة, وسبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه, وتورث الذلَّ ولا بدَّ فإن العزَّ كل العزِّ في طاعة الله تعالى, وتطفئ من القلب نار الغيرة, وذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب, وتستدعى نسيان الله لعبده, وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه, وهناك الهلاك الذي لا يُرجي معه نجاة, ومن أقوى الأسباب لزوال نعم الله وتحول عافيته وفجاءة نقمته وجميع سخطه وتمحق بركة العمر وبركة الرزق فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله, وتُجرّئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات, فيجترئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين....ويجترئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره, وتجترئ عليه نفسه, فتتأسد عليه وتستصعب عليه, فلو أرادها لخير لم تطاوعه, ولم تنقد له, وتسوقه إلى ما فيه هلاكه, شاء أم أبى.
- الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة:
الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم فإذا استيقظ وصحا أحسَّ بالمؤلم
- العقوبة قد تقع مع الذنب وقد تتأخر عنه قليلاً:
قد تقارن المضرة للذنب, وقد تتأخر عنه يسيراً وإما مدة, كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام, ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل عمله على التدرج شيئاً فشيئاً, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القُذة بالقذة, فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك, هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟ والله المستعان.
- استحضر بعض عقوبات الذنوب ليكون ذلك داعياً إلى هجرانها
استحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه على الذنوب وجوز وصول بعضها إليك واجعل ذلك داعياً للنفس إلى هجرانها منها: المعيشة الضنك في الدنيا, وفي البرزخ, والعذاب في الآخرة, قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه:124] فالمعرض عنه له ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعيم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكر الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة., فالمعيشة الضنك لازمه لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه, وفي البرزخ, ويوم معاده.
- طيب النفس وسرور القلب في عافيته من الشهوات المحرمة:
إن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة, هو النعيم على الحقيقة.
- من آفات النظر:
أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه وهذا من أعظم العذاب, أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه, ولا قدرة لك على بعضه
- حركة اللسان تدل على ما في القلب:
إذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان, فإنه يُطلعُ ما في القلب, شاء صاحبه أم أبى.
- حفظ اللفظات:
وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة, بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه, فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها فائدة أمسك عنها, وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها, فلا يضيعها بهذه.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك, ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه, حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة, وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله, لا يلقى لها بالاً, يزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب, وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم, ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات, ولا يبالي بما يقول.
- أقسام الذنوب
الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام : مَلَكيّة, وشيطانية, وسبعيه, وبهيمية, ولا تخرج عن ذلك :
فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة, والكبرياء, والجبروت, والقهر, والعلو, واستعباد الخلق, ونحو ذك, ويدخل في هذا الشرك بالرب تعالى...وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب....فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيته وملكه, وجعل له نداً, وهذا أعظم الذنوب عند الله, ولا ينفع معه عمل.
وأما الشيطانية: فالتشبه بالشيطان في الحسد, والبغي, والغش والغل, والخداع, والمكر, والأمر بمعاصي الله وتحسينها, والنهي عن طاعته, وتهجينها, والابتداع في دينه, والدعوة إلى البدع والضلال, وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة.
وأما السبعية: فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني والجرأة على الظلم والعدوان.
وأما الذنوب البهمية: فمثل الشَّره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج, ومنها يتولد الزنى, والسرقة, وأكل أموال اليتامى, والبخل والشح, والجبن ,والهلع, والجزع, وغير ذلك.
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية, ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام, فهو يجرهم إليها بالزمام, فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية, ثم إلى الشيطانية, ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية.
- من أضرار الذنوب والمعاصي:
مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر ولا بد, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان, على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي ؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب ؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء, وطرده ولعنه, ومسخ ظاهره وباطنه, فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها, وباطنه أقبح من صورته وأشنع ؟
وما الذي غرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال ؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض, كأنهم أعجاز نخل خاوية....حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة ؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم, وماتوا عن آخرهم ؟
وما الذي رفع قوى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبح كلابهم, ثم قلبها عليهم, فجعل عاليها سافلها, فأهلكهم جميعاً....وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل, فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظي ؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر, ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم, فالأجساد للغرق, والأرواح للغرق.
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله ؟
ومن عقوباتها: أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته.
فإن الذنوب هي أمراض متى استحكمت قتلت, ولا بد, وكما أن البدن لا يكون صحيحاً إلا بغذاءٍ يحفظ قوته, واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة, والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته, وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضرره, فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته, واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة منه, وحمية توجب له حفظ الصحة, وتجنب ما يضادها...والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة, فما فات منها فات من التقوى بقدره.
ومنها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف, وتكسوه أسماء الذمِّ والصّغار, فتسلبه اسم المؤمن, والمتقي, والمطيع,...وتكسوه اسم الفاجر, والعاصي, والمفسد.
ومنها: أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير, واتصلت به أسباب الشر.
ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسه, فإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها...فينسي أسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به...وينسى عيوب نفسه ونقصها وآفاتها, فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها...وينسى أمراض نفسه وقلبه وآلامها فلا يخطر بقلبه مداوتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها.
ومن عقوباتها : أنها تزيل النّعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة فتزيل الحاصل وتمنع الواصل فإن نعم الله ما حُفظ موجودها بمثل طاعته, ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته...فإذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومنها: أنها تصغر النفس وتقمعها وتحقرها, حتى تصير أصغر شيء وأحقره, كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها.
ومنها: أن العاصي دائماً في أسر شيطانه, وسجن شهواته, وقيود هواه, فهو أسير مسجون مقيد, ولا أسير أسوأ حالاً من أسير أسره أعدى عدو له.
ومنها: سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه.
ومن عقوباتها : أنها تباعد عن العبد وليه, وأنفع الخلق له, وأنصحهم له, ومن سعادتُه في قربه منه, وهو الملك الموكّل به, وتُدني منه عدوه, وأغشَّ الخلق له, وأعظمهم ضرراً له, وهو الشيطان, فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية, حتى أنه يتباعد عنه بالكذبة الواحدة مسافة وحيدة.
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه وألقى على لسانه القول السديد وإذا بعد منه وقرب منه الشيطان تكلم على لسانه, وألقى عليه قول الزور والفحش, حتى ترى الرجل يتكلم على لسانه الملك, والرجل يتكلم على لسانه الشيطان.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ