الحسد وأثره على المجتمع
قال رسول الله ﷺ: «لا تَحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يَخذُله، ولا يكذبه، ولا يَحقِره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - ...
- التصنيفات: تزكية النفس - أعمال القلوب -
الحمد لله الذي نهانا عن الحسد وحذَّرنا عواقبَه، وأشهد أن لا إله إلا الله الفعَّال لما يريد، ولا يحدث في ملْكه إلا ما يريده، بيده كل شيء، يخلق ما يشاء، يَهَب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله علَّمنا بقوله: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تَباغَضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا»، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مِن تقوى الله تعالى: ترْكَ ما نهى عنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفِعْلَ ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يَخذُله، ولا يكذبه، ولا يَحقِره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يَحقِر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرْضه»؛ (رواه مسلم) .
عباد الله، الإسلام عقيدة، وقول، وعمل، في العبادات والمعاملات، والآداب والأخلاق والسلوك، في جميع الحالات والأوقات، فرسول الهُدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يؤدِّب أُمَّته، وينهانا عما يُخِل بهذه الجوانب الإسلامية، فيقول في هذا الحديث الشريف: «لا تحاسدوا»، فدلَّ هذا النهي على تحريم الحسد، وأجمع المسلمون على عدم جوازه، فهو شر من الشرور، وقد أمر الله تعالى نبيَّه بالتعوذ منه، وأمره لنبيه أمر لأمته ما لم يَرِد تخصيص؛ قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5]، فهو مذموم، وآثاره سيئة على الأفراد والجماعات الأسرية والدولية؛ لما فيه من الاعتراض على تقدير الله وقضائه، وعطائه ومنْعه، وفيه الأنانية، وسوء الطوية والنية؛ لأن معناه: أن الحاسد لا يريد الخير إلا لنَفْسه، أو إزالته عن أخيه ولو لم يُصِبه منه شيء.
فالحسد إذًا: تَمنِّي زوال النعمة عن الغير، وقد يريد الحاسد نقْلها لنفسه، وقد لا يريد إلا إزالتها عن غيره، فكلاهما مذموم، والثاني أخبثُ من الأول، وكلاهما شرٌّ على الأفراد والجماعات، ويكفي في الحسد ذمًّا أن أول مَن اتَّصَف به إبليس؛ حيث أمر الله تعالى ملائكتَه بالسجود لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، فما منعه عن السجود لآدم إلا الحسد لآدم؛ لما خلقه الله تعالى بيده، وعلَّمه الأسماء كلها، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه جنَّته، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا»: لا يَحسُد بعضكم بعضًا، أي: لا يَكْره أن يفوقه أخوه بشيء من الفضائل؛ فإن ذلك بفضل الله تعالى وتدبيره ومقتضى حِكْمته.
فمقتضى الإيمان ألا يقع الحسد في قلب مسلم، ولا لسانه، ولا أفعاله؛ فإنه من الموبِقات المُهلِكات، المسبِّبات للطَّرد والإبعاد عن الجنَّات؛ كما جاء في أثر ابن عمر؛ مُحذِّرًا لنا أن نعمل عمل الحاسدين، فنَهلِك كما هلكوا، ونُلعن كما لُعِن رئيس الحاسدين إبليس.
ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن إبليس قال لنوح: اثنتان أُهلِك بهما بني آدم: الحسد، وبالحسد لُعِنت وجُعِلت شيطانًا رجيمًا، والثانية: الحرص؛ فأصاب الشيطان من بني آدم حاجته بالحرص.
فالحسد داء عضال، ومرض فتَّاك، يسري في القلوب، ويُمزِّقها كتمزيق الأكلة والجُذام للأجسام، واسمعوا مقالة خير الأنام: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده، لا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أَفْشوا السلامَ بينكم».
عباد الله، إن المسلم لا يريد أن تحترق حسناته، وأن تضمحلَّ وتذوب، فتحذير النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسد أشدَّ التحذير ما هو إلا لاحتراق الحسنات وإذابتها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطبَ»، فإذا عرف المسلم أن الحسد أحد الأمراض التي تُسبِّب الآلام والأوجاع، وتقطيع الأوصال، وجب عليه اجتنابه والحَذَر منه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «سيصيب أمتي داء الأمم»، قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال: «الأشر والبَطر، والتكاثر والتنافر في الدنيا، والتباغض والحسد، حتى يكون البغي والهرج والمرج»، ومن الناس من كان حسده خفيفًا، فيسعى باكتساب مِثْل من حسده أو غَبطه بنعمة الله عليه، فهو يريد أن يصيبه مِثلُ ما أصاب أخاه ويناله ما ناله، فإن كانت الفضائل دنيوية، فلا خير في ذلك؛ لأن مآلها إلى الفناء والزوال؛ كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79].
وإن كانت الفضائل دينية، فهو حَسَن؛ فقد تمنَّى النبي صلى الله عليه وسلم الشهادةَ في سبيل الله تعالى؛ ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا حسَد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فهو يُنفِقه آناء الليل وآناء النهار»، وهذا هو الغِبْطة والتنافس في الخير.
فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وإياكم والحسد؛ فإنه يُذهِب الحسنات، ويأكلها كما تأكل النارُ الحطبَ، وتَنافَسوا على عملِ الخير وفِعْله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم