اجتنبوا أم الخبائث
فمِن أهمِّ الضَّرورات العامَّة التي جاء الإسلام لحِفْظِها العقل: وحذَّر من اغتِياله وإدْراجه في غيبوبة المسكرات والمخدِّرات، التي حاربَها الإسلام حربًا لا هوادةَ فيها...
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
الحمد لله، أحلَّ الحلالَ وأتمَّ الدين, وبيَّن الحرامَ للخلْق أجْمعين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله، وحدَه لا شريك له الملك، الحقُّ المبين، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه, خيْر الهُداة الصادقين, وخاتم الأنبياء والمُرسلين، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ عليْه، وعلى آله وصحبه أجْمعين، أمَّا بعد:
فمِن أهمِّ الضَّرورات العامَّة التي جاء الإسلام لحِفْظِها: المال والعقل؛ لأنَّهما من النِّعم الإلهيَّة، ولأنَّ الإنسان بدونِهما لا يستطيع أن يحيا حياةً كريمة؛ ولهذا فقد صانَ الإسلام المال من التبديد والإسراف، وأحاطه كذلك بِمزيد العناية والاهْتِمام في طرائق تَحصيله، وأوجبَها من طريق حلال، وصان العقل أيضًا وحذَّر من اغتِياله وإدْراجه في غيبوبة المسكرات والمخدِّرات، التي حاربَها الإسلام حربًا لا هوادةَ فيها.
ما هي أم الخبائث؟
ونقصد بها الخمر، ذلك الوصف الجامع الذي خلعه عثمان - رضي الله عنه - عليْها حين قال: ((اجتنِبوا الخمر؛ فإنَّها أمُّ الخبائث))؛ النَّسائي 317 من حديث عُثْمان بن عفَّان - رضي الله عنْه - وجاء من حديث عبدالله بن عمْرو بن العاص - رضي الله عنه - أيضًا هذا الوصْف ذاتُه: ((الخمْر أمُّ الخبائث))؛ أورده العجلوني في "كشْف الخفاء" (1/ 459) وإسنادُه حسن، ويشمل ذلك كلَّ أشكالِها وألوانِها وأنواعها، وعلى اختِلاف أسمائِها في العالمين ودرجات الإسْكار منها، إلا أنَّ هناك وصفًا واحدًا يَجمعُ بين كلِّ أشكالِها وهو أنَّها: أم الخبائث وجامعةُ أشتاتِها.
حقًّا، لقد اجتمعت كلُّ موبقات الذُّنوب وموجِبات النَّدم في الخمْر؛ ولهذا فقد ورد عن ابن عباس – رضي الله عنْهما –: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «اجتنبوا الخمر فإنَّها مفتاح كلِّ شر»؛ أورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2798)، وذكر له شواهد.
وعن أم أيمن - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بعض أهل بيته: «لا تشركْ بالله، وإن عذِّبْت وإن حرِّقْت، وأطِعْ والديْك، وإن أمراك أن تخرج من كل شيء، فاخرجْ، ولا تترُكِ الصَّلاة متعمِّدًا؛ فإنَّه من ترك الصلاة متعمِّدًا، فقد برئت منه ذمة الله، إيَّاك والخمرَ؛ فإنها مفتاح كل شر، وإيَّاك والمعصيةَ؛ فإنَّها لسخط الله، لا تنازعنَّ الأمر أهله، وإن رأيت أن لك، ولا تفرَّ من الزحف، وإن أصاب الناس موتان وأنت فيهم، فاثبت، أنفق على أهل بيتك من طَوْلِك، ولا ترفعْ عصاك عنهم، وأخِفْهم في الله - عز وجلَّ»؛ أورده البيهقي في "السنن الكبرى" (7/304)، والحديث مُرسل.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليْه وسلَّم -: «أن لا تشرك بالله شيئًا، وإن قطعت وحرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا؛ فمن تركها متعمِّدًا، فقد برئتْ منه الذِّمَّة، ولا تشربِ الخمْر؛ فإنَّها مفتاح كلِّ شرٍّ»؛ صحيح ابن ماجه 3275، وقال: حديث حسن.
وورد في الأثر أيضًا: "الخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، وحب الدنيا رأس كلِّ خطيئة".
أمَّا إنَّها مفتاح كلِّ شرٍّ ومنفذ كلِّ بلاء، فذلك ما سنقِفُ عليْه فيما يلي:
أضرار الخمر الدنيوية
من أضرار الخمر في الدنيا أنها تغتال العقل وتسقط مهابة مدمنها؛ كما قال القائل:
شَرِبْتُ الخَمْرَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الخَمْرُ تَفْعَلُ بِالعُقُولِ
وإذا ذهب العقل تحول الإنسان إلى مخلوق غير مسؤول، لا يعي ما يقول ولا يدرك ماذا يفعل، وقد ورد أن أحد السكارى كان يمشي في الطريق بعد منتصف الليل، وهو يترنَّح يمينًا وشمالاً من فرط سُكْره، ثم استلقى على ظهْرِه وتمدَّد على الأرض من الإعْياء، وإذا بكلبٍ ضالٍّ يأتيه، فيرفع إحدى رجليه ويبول على وجْه هذا السكران، فجعل يَمسح وجههُ بِهذا البوْل وهو يقول: أكرمك اللهُ كما أكرمتنِي، ومن المعلوم أنَّ فاقدَ العقْل تصدر منْه كلُّ أفعال الشر والعدْوان؛ كالقتل وإفشاء الأسرار وفعْل الفحشاء، لدرجة أنَّه قد يعتدي على أمِّه أو أُخْتِه أو بنته، وهذه مَخازٍ تعيشُها أمم أخرى غير أمَّة الإسلام، وتتناقلُها وسائل الإعلام العالميَّة.
ولا يَخفى على كلِّ البشَر آثارُ الخمر المدمِّرة للصِّحَّة، فهي تُوهِن البدَن، وتورث الدَّاء العُضال في الكبد، وتضرِب قواعد المجموعة العصبيَّة، وتُصيب بأنواعٍ عديدة من السَّرطانات، وتسبِّب قرحة المعدة والاثني عشر، إضافةً إلى قائمة الأمراض النفسيَّة.
والخمور ضارَّة بالأخلاق والمجتمع، فتؤثِّر سلبًا على تقدُّمه واعتدالِه، وعلى تمسُّك أفرادِه بمعاني الشرف والنَّخوة والاتِّزان.
وفي عالم الاقتصاد يأتي تأثير الخمر بأسوأِ العواقب؛ حيث تضيع ثروات ماليَّة هائلة تعد بالمليارات على مستوى العالم، تذهَبُ سُدًى وتخلِّف وراءَها مشاكل اقتصادية مُزمنةً كالتضخم والبطالة وغيرهما، ومع كلِّ هذه البلايا المحق.
أضرار الخمر الدينيَّة
ليس كلُّ بلاء الخمر أنَّها تُدْخِل أهلَها نارَ جهنَّم فقط، بل لها أضرارٌ أُخرى؛ فهي تُسْقِط على المرء حُسْنَ تديُّنه، وتفتح أمامَه مغاليقَ الذُّنوب والآثام، فيصير كالدُّمْية بين يدي الشَّيطان، يتلاعَبُ بِها كيف يشاء.
عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - يقول: «اجتنبوا أمَّ الخبائث، فإنَّه كان رجلٌ ممن كان قبلكم يتعبَّد ويعتزل النَّاس، فعلقتْه امرأة، فأرسلت إليه خادمًا، إنَّا ندعوك لشهادة، فدخل، فطفقت كلَّما يدخل بابًا أغلقتْه دونه، حتى إذا أفضى إلى امرأةٍ وضيئةٍ جالسة، وعندها غلامٌ وباطية فيها خمر، فقالت: إنا لم ندعُك لشهادة، ولكن دعوتك لقتْل هذا الغلام، أو تقع عليَّ، أو تشرب كأسًا من الخمر، فإن أبيْتَ صِحْتُ بك وفضحْتك، قال: فلمَّا رأى أنَّه لابدَّ له من ذلك قال: اسقنِي كأسًا من الخمْر، فسقتْه كأسًا من الخمْر، فقال: زيديني، فلم تزَل حتَّى وقع عليْها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر؛ فإنَّه - والله - لا يجتمع إيمان وإدمان الخمر في صدْر رجلٍ أبدًا، وليوشكنَّ أحدُهُما يُخرج صاحبه»؛ رواه المُنذري في "الترغيب والترهيب" 3/251 بإسناده: صحيح أو حسن أو ما قاربهما.
فتأمَّل - أخي المسلم - كيف أنَّ الخمر قد أثَّرتْ في صاحبِها حتَّى زنى وقتَل!! وكذلك تفعل؛ لأنَّها أمُّ الفواحش.
ومن أضرارِها الدينيَّة أنَّها تعدل الشِّرْك بالله؛ فعنِ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "لمَّا حُرِّمت الخمر، مشى أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعضُهم إلى بعض، وقالوا: حرِّمت الخمر وجعلتْ عدلاً للشِّرْك"؛ رواه الطبراني، وذكره أحمد شاكر في قتْل مُدمن الخمْر 69 وقال: رجالُه رجال الصحيح.
وعنه أيضًا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «مَن مات وهو مدمن الخمْر، لقي الله وهو كعابدِ وثن»؛ (رواه البزار في "البحر الزَّخَّار" 11/ 289).
ومن أضرار الخمر: أنَّ نور الإيمان يخرج من قلْبِ مُتعاطيها؛ كما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «مَن شرِب الخمْر، خرجَ نور الإيمان من قلبه»؛ الطبراني، ومن حديث أبي هُريرة أيضًا: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينفي الإيمان عن شارب الخمر حين شرِبَها، وذلك من حديث أبي هريرة أيضًا قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمْر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرِق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهْبة، يرفع النَّاس إليْه فيها أبصارَهم، وهو مؤمن»؛ (رواه البخاري في "الجامع الصحيح" 6772).
وعنْه أيضًا: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «إذا زنى الرَّجُلُ أو شرب الخمر، خَرَجَ مِنهُ الإيمَانُ كانَ علَيْهِ كالظُّلَّة، فإذا انْقَطعَ، رجَعَ إليْهِ الإيمانُ»؛ (سنن أبي داوود (4133)).
ومن أضرار الخمر الدينية: أنها تَحرم صاحبها من التلذُّذ بِخمر الآخرة، التي لا تصدع الرأس ولا تفري الأكباد، ولا تبدِّد المال.
فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم - قالَ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيَا ثُمَّ لم يَتُبْ مِنها، حُرِمَها في الآخِرَةِ»؛ البخاري (5277)، ومن المعروف أنَّ الجنَّة فيها: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [مُحمَّد: 15].
ومن الأضرار الدينية: أنَّ مدمن الخمر سيتجرَّع الصَّديد من نهر الغوطة في النَّار؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه –: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحِم، ومصدِّق بالسحر، ومن مات مدمنَ الخمر، سقاه الله - جلَّ وعلا - من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نَهر يجري من فروج المومسات (الزانيات)، يؤذي أهلَ النَّار ريحُ فروجِهم»؛ (مسند الإمام أحمد 19223).
كثرة استحلال الخمر من أشراط الساعة:
لقد شاع خطر الخمر، وعمَّ بلاؤها، وكثُر مريدوها، وانتظمت لها في العالمين أسواقٌ رائجة تدرُّ أخلافًا من المال الكثير، وقامت بِجانب صناعتها وظائفُ أخرى عالقة بها، أقل ما توصف به أنَّها دنسة وحقيرة، وتكالب العالم الشرقي في الآوِنة الأخيرة إلى سباق مَحموم مع أهْل الغَواية الاجتماعيَّة الغربيِّين في تعاطي الخمر والتعوُّد عليها، ولم يعودوا يجدون في ذلك حرجًا.
وظهر أثر المبادلات الثقافية والمتعلِّقة بالعادات في هذا العصر بشكل مُذْهِل، وتأثَّرْنا - نَحن المسلمين - بثقافة الخمْر التي دخلت بيوتَنا مع الأفلام الأجنبيَّة بل والعربيَّة، التي لا يخلو واحدٌ منها في جعْل الخمر حلاًّ للمُشْكِلات، أو بابًا من الهروب منها في وقْت المِحن.
لقد نجح المجرورون بالإضافة إلي الفكر الأجنبي من الكتَّاب والمخرجين وأهل الفنِّ، والذين يُمثِّلون وفاء الكلاب لأسيادهم الأجانب، في نقْل أخبَثِ الصُّور الاجتِماعيَّة المرْذولة من سخائِم المجتمعات المنحلَّة قِيميًّا، وتُعاني من التفسُّخ الاجتِماعي الذي يشدخ الفواقِر، ومُحاولة الجمع أو المقارنة بين ما عند عبيدِ شهواتهم في البقعة الغربية وبين ما عندنا، وهي مقارنة أو مشابهة ظالمة وتتَّشح بالغباء الذي لا يُحدُّ.
فَأَيْنَ اللَّيْلُ مِنْ شَمْسٍ وَبَدْرٍ وَأَيْنَ الثُّعْلُبَانُ مِنَ الهِزَبْرِ؟!
حينما تجلس الأسرة المسلمة العربية المعتادة المتوسِّطة علميًّا وخُلُقيًّا ودينيًّا أمام أحد الأفلام، وإذا بالسَّامع والمتابع يشاهد ويَسمع عن أنواع الخمور وأسمائِها، ويرى بعضًا من فنِّ إدارتِها على الأيدي الملعونة والأفواه المتنجِّسة مع الغانيات والعاريات، ويرى أنَّ المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة فيها كلُّ هذا البهرج المعربِد والمبالغ فيه إعلاميًّا وفنِّيًّا – وهو لا يعبِّر أبدًا عن واقع يصوِّر كل الحقيقة، فيا تُرى: ما هو الأثر الذي سيبقى مترسِّبًا في الذَّاكرة؟
لا شكَّ، سيدفع إلى التمرُّد على الواقع والمحاولة بعد ذلك لفكِّ حِصار القيَم، والركض المسعور وراء الشَّهوات، والبحْث عن كلِّ البدائل المُتاحة المغيّبة للعقل، وقد وقعت الواقعة وتدعْثر كثيرٌ من طلبة الجامعات وزينة شباب المجتمعات، في براثِن المخدّرات والكحوليات بجميع أنواعها، وكل فرد على قدر طاقته المادِّيَّة، فما الذي جاء بِهم إلى هذا المستنقع؟
أتكون صيحات المنابر في المساجد هي التي هيَّجت فيهم الشوق إلى المسكرات والمخدرات؟! أم أساتذة الجامعات؟ أم المدرِّسون؟ أو ربَّما أقنعهم آباؤهم وأمَّهاتُهم بفوائد المخدِّرات والخمور.
إنَّه الإعْلام بتجلِّياتِه البخْسة حينما يتولَّى أمرَه من جِلْدتنا من لا يتقي الله تعالى، والشر يجلب غيره، كما أنَّ الحسنة تنادي على أختها والسيئة كذلك، فما ظنُّك بظهور الزنا واستشرائه؟ إنَّه ثمرة لغياب العقل، وما ظنُّك برفْع العلم؟ غياب أيضًا للعقل، وكذلك تفشِّي الجهل، والصورة الكبرى لغيبوبة العقْل هي احتِساء الخمر، وإدمان المسكرات والمخدرات.
ومع غياب العقل يبدأ توارُد النِّقم؛ لأنَّ الإنسان قد فرَّط في أغلى ما وهبَه ربُّه، وتبدأ الدنيا في طلب الترحُّل بعد أن أفرطَ أهلُها في اتِّباع شهواتِهم وارتِكاس عقولهم، فلا جَرَمَ أن تكون الخمر مدمِّرة المال والعقل والصِّحَّة والمجتمع، وهادمة الدين في قلب مَن يُعاقِرُها، بل وهي بهذه الصورة العالمية المخزية دليلٌ سافر على انتِهاء الدُّنيا واقتِراب السَّاعة، وذلك ما صرَّحت به الأحاديثُ الشَّريفة؛ فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: «مِنْ أشْراطِ السَّاعةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَثْبُتَ الجَهْلُ، ويُشْرَبَ الخَمْرُ، ويَظْهَرَ الزِّنَا»؛ صحيح مسلم (4953).
وهذه المساخط مع غيرها مَعْلم واضح على السقوط من عين الله تعالى، ومن ثَمَّ؛ يعمُّ الأمة عقابٌ جَماعي يشكِّل مجموعةً من ضنْك الحياة الذي يُحوِّلها إلى جحيمٍ لا يطاق.
كل مسكرٍ حرام
أخي المسلم:
إنَّ ممَّا شاع خطرُه في الموادِّ المغيِّبة للعقْل ما هو أخطرُ وأطمُّ من الخمْر، من موادَّ تُحدِث الإسْكار بنِسب مُختلفة، وها هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يضع القاعدة الجامعة المانعة: «كلُّ مُسكرٍ خَمر، وكلُّ مُسكرٍ حرام»؛ (صحيح مسلم، (3848).
فكلُّ ما خامرَ العقل وأحدَثَ السُّكر - ولو بدرجةٍ قليلةٍ - فهو مثل الخمْر في حكمِها.
فسواءٌ كان هذا المسكر مشروبًا؛ مثل أنواع الخمور المشهورة والبيرة، أم جامدًا؛ كالحشيش والأفيون، الذي استخفَّ كثيرٌ من المسلمين بهما؛ ظنًّا أنَّهما ليسا من المحرَّمات، ينقل شيخُنا سيد سابق - رحِمه الله - في "فقه السنَّة" عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – ما يلي:
"إنَّ الحشيشة حرام، يُحدُّ متناولها كما يحدُّ شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنَّها تفسد العقل والمزاج، حتَّى يصير الرَّجُل في تخنُّث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنَّها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلةٌ فيما حرَّمه الله ورسولُه من الخمر والمسكر لفظًا ومعنى".
ويدخل في الحكم أيضًا المخدرات بِجميع أنواعها: المشمومة والمحقونة والمحترِقة مثل الهيروين والكوكايين.
لا عبرة بالقليل والكثير:
قد يستخفُّ أحدُ النَّاس بالأمر ويقول: أنا لا أثقل على نفسي، إنَّما هو كأس واحد من الخمر، أو شمَّة واحدة من الهيروين، وذلك قليل لا يؤذيني ولا يُسكرني.
إنَّ هذا الكلام مثل من يقول: قطعة واحدة من لحْم الخنزير غير محرَّمة، وقُبلة واحدة من امرأةٍ غير محرَّمة؛ لأنَّها بسيطة وهيِّنة، ولكن الشرع يقف حائلاً دون إدراك أي نصيبٍ من هذه المهلِكات؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: «كلُّ مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه - مكيال يسع ستَّة عشر رطلاً - فملءُ الكفِّ منه حرام»؛ (سنن أبي داود، (3256).
وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «ما أسكر كثيرُه، فقليله حرام»؛ (سنن التِّرمذي، (1869).
مجالس المجاملات:
ومن المخاطر التي يتعرَّض لها المسلم في هذا الشَّأن، أنَّ الخمر تدور كؤوسها في باحات الاحتِفالات؛ كافتتاح الشركات وأعياد الميلاد والزواج وأمثال هذه المناسبات، ومن الطبيعي أن الخمر تُعْرَض عليه كما تُعْرض على غيره من الحاضرين، على سبيل المجاملة أو النخب أو المشاركة بالأمنيات الطيبة عند بداية كلِّ عام جديد، كما يفعل غير المسلمين، فيقول بعض المسلمين: كأس واحد لا بأْس به حتَّى لا يبدو سلوكي غريبًا على الحاضرين، وهُنا تَحدُث الطَّامَّة ويقع المسلم في المحظور الديني؛ من أجْل إرضاء النَّاس بسخط الله تعالى، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالله - تعالى - ينهى عن الخمْر، والأمْرُ واجبُ النَّفاذ، أليْس هناك من يقدِّسون كلام الأطبَّاء وأوامرَهم إذا حذَّروهم من احتساء الخمر؟! فأوامر الله - تعالى - أوْلى بالتقديس والاهتِمام.
تحريم الاتّجار بالخمور:
وكما حرَّم الإسلام على المسلم تجرُّع الخمر وتعاطي المخدرات، فإنَّه حرَّم أيضًا مجرَّد الاقتراب منها بأي وسيلة، فلا يكفي أن يمتنع المسلم عن تعاطيها، بل عليه اجتِنابها والبعد عن مجرَّد الجلوس في مَجالسِها؛ فقد ورد عن ابْنِ عبَّاس - رضي الله عنهُما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخَر فلا يشربِ الخمر، من كان يُؤمن بالله واليوم الآخَر فلا يَجلِس على مائدة يُشرب عليها الخمْر»؛ (المعجم الكبير للطبراني، (11302).
وأنكى من هذا كله الاتِّجار في الخمور وأكْل ثمنها؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - في الخمر عشَرة: عاصرَها ومعتصِرها، وشارِبَها وحامِلها، والمحمولة إليْه وساقيها، وبائعها وآكل ثمنها، والمشترِي لها والمشترَى له"؛ سنن الترمذي، (1279).
ولا نرى أصعبَ ولا أقْسى من اللَّعْن وصفًا لكلِّ هؤلاء، لقد كان بعضُ النَّاس يظنُّ أنَّ الحرمة في الخمر تنصبُّ على شاربها فقط، فإذا بِهذا الحديث يجمع كلَّ مَن له صلة بِها من قريب أو بعيد.
لهذا؛ على المسلم أن ينأى بنفسه عن أم الخبائث، ويبعد نفسه عن طريقها بكل وسيلة ممكنة.
الإسلام يلقِّن البشرية درسًا في تحريم الخمر:
لم يأتِ تحريم الخمر دفعة واحدة، بل انتهج الإسلام الحكيم منهج التدرُّج في تحريم الخمر؛ وذلك لولع الناس بِها، حتى وصل بهم إلى أن أراقوها في الطرقات، وتواصوا فيما بينهم على اجتنابها مدى الحياة.
على حين أنَّ أكثر الأمم حضارة وتقدُّمًا قد فشلت بعد محاولات مضنية في تحريم الخمر، بل زادت معدلات الإدمان أكثر وأكثر، حتَّى صار الكأس وخمرتُه وسحابات الدُّخان المتصاعد دلالات البهجة وعلامة التحضُّر! وهكذا غدتِ الصورة في معظَم القنوات المرئيَّة وصفحات الجرائد والمجلات عبر مُختلف وسائل الإعلام وعلى اختِلاف العقائد.
لقد فشلت جميع الجهود والتَّخطيطات، ولم تنجح في الحد من هذا السباق المحموم صوب احتِساء الخمر وتعاطي المخدرات.
ولم يَحفظ التاريخ العام أنَّ أمَّة استطاعت أن تَمتنِع عن الخمر نهائيًّا إلا أمَّة الإسلام، وذلك في زمان النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - فإذا هبت رياح الإيمان وافتْنا بالعجائب.
لقد قدَّم الإسلام التجربة العمليَّة والمقنعة للتخلُّص من هذا الوباء، واستِخْدام وسيلة الإقناع العقلي مع ربطه بالعقيدة المركوزة في القُلوب مع التدرُّج في التحريم؛ لأنَّ الزمن جزء من العلاج لمن يريد حقًّا الإقلاع عن الخمور والمخدرات.
فكانت أوَّل الآيات نزولاً في تحريم الخمر هي قولُه تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النَّحل: 67]، والثَّانية قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، فقال قوم: نشربُها لما فيها من المنافع، وامتنع بعض النَّاس عنها، حتى قام أحد المسلمين يصلِّي فخلط في صلاته وأخطأ، وقد اشمأزت نفوس كثيرة من الخمر إثْر هذا الموقف، خصوصًا بعدما أنزل الله - عزَّ وجلَّ - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ثم كاد شرر الخصومة أن يتفاقم بين المسلمين بسبب احتسائهم الخمر، وهنا دعا عمر بن الخطاب ربه قائلاً: "اللهُمَّ بيِّن في الخمر بيانًا شافيًا"، فنزل الحكم النهائي في المرحلة الرابعة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَة وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 – 91]، وعندئذٍ قالوا: انتهيْنا ربَّنا.
فقد اتبع الإسلام العظيم سياسة التدرُّج في التحريم وذلك لولع القوم بها، وهناك أسباب أخرى ساعدت في هذا التجافي والبغض للخمر، من أعظمها العقيدة التي يحتويها الإنسان في قلبه، وطهارة المجتمع الإسلامي الأول من التجاهر بالمعاصي، والحرص على طاعة الرحمن ومخالفة الشيطان.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يَحفظنا والمسلمين من هذا البلاء، والحمد لله في بدْءٍ وفي ختم.
________________________________________________________________
الكاتب: الشيخ حسين شعبان وهدان